جواهر التدبر (٢٧٦)
حبالُ السماء
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– حبل الثوابت:
أمر الله أمة الإسلام بالاعتصام بحبله ونهى عن تفرقها بصورة قطعية، وذلك في قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..} [آل عمران: ١٠٣]، وقد اختلف المفسرون حول ماهية هذا الحبل، وبالطبع فإن القرآن صالح لكل زمان ومكان من خلال تجدد معانيه، ما أحسن المسلمون تدبر نصوصه لاستمداد هداياته واستنباط رؤاه، وتنزيله على الوقائع في ظل المتغيرات المتسارعة، ومن هنا فإن حبل الله المذكور في الآية يبدو في عصرنا على شكل حبل ينتظم جميع الثوابت المتفق عليها بين كبار علماء الأمة، وهي الكليات والأصول والأحكام التي وردت بنص قطعي الثبوت والدلالة، والتي كان السلف الصالح يسمونها المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، ويكفّرون من ينكر واحدة منها، ولكن ماذا يفيد مصطلح الحبل في هذا المقام؟
يبدو لي أن الحبل يشير إلى:
١- أن جميع الثوابت وحدة واحدة ولا يجوز قبول بعضها وإنكار البعض الآخر منها؛ ذلك أن الحبل الممتد بين المسلمين وبين الله لو قطع منه جزء مهما كان صغيرا فإن الصلة ستنقطع تماما بين الطرفين.
٢- أن هذه الثوابت محكمة الصياغة وتستعصي على أي قطع نتيجة إحكام صنعتها وتداخل مكوناتها المتعددة، وكأنها تشبه الحبل المفتول!
٣- أن هذا الحبل وهو يحيط بالمسلمين ينظم مكوناتهم وطاقاتهم كما يفعل الخيط بالنسبة للمسبحة، ويبدو للرائين كأنه سياج يحرس المسلمين من كل الغوائل والغزاة، إذ تظهر المجاميع داخل الحبل في صورة أمة واحدة عظيمة الشأن ومهابة الجانب، لكن انقطاع هذا الحبل سيؤدي إلى انتثار مكونات الأمة وذهاب ريحها المعبر عن بركة اجتماع الكلمة ووحدة الصف!
٤- أن من أمسك بهذا الحبل لا يمكن أن يغرق في متاهات الحياة ولا يحتار في مفترقات الطرقات؛ فهو يعرف طريقه تماما لأنه يربط الجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول، والظنيات بالقطعيات، والوسائل بالمقاصد.
– الاعتصام بالله:
لا يكفي الإيمان بالله وحده للدخول في رحمته عز وجل والحصول على فضله وإحسانه وضمان الاهتداء إليه بالسير الوئيد على صراطه المستقيم، وللحصول على هذه الثمار لا بد بعد الإيمان بالله من الاعتصام بعظمته عز وجل واستجلاب معونته والتعلق برحمته، كما قال تعالى: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} [النساء: ١٧٥]، ولأن ضمير الغائب يعود في لغة العرب التي تنزل بها القرآن إلى أقرب مذكور؛ فإن الهاء في (به) يعود إلى الله لأنه أقرب مذكور، فما الذي يضيفه الاعتصام بالله إلى الإيمان به تعالى؟
يبدو أنه يشير إلى أن المؤمن يأخذ بالأسباب ويجتهد في عمل الصالحات، ولكن ينبغي أن يحذر من التزيين الشيطاني الخفي والذي قد يخلق في نفسه شيئا من الزهو والعُجب بالذات، ولكي لا يحدث هذا الأمر فإنه باعتصامه بالله ينفكّ من كل عمله ويرتمي في باب الله كأنه لم يفعل شيئا، وهنا فإن الله يمنحه عطاء خاصا من خزائن رحمته وفيوضات فضله، وهذا ما يشير له الشق الثاني من الآية السابقة: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}، وكأن كلمتي (منه) و(إليه) تشيران إلى هذه الخصوصية في الأجر التي تتناسب مع خصوصية الانبتات عن الأعمال والارتماء في باب الله وكأنه لم يعمل شيئا!
ويمكن القول بأن إيراد الاعتصام بالله بعد الإيمان به تعالى في هذه الآية، يشبه ما ورد في سورة الفاتحة من ذكر للاستعانة بالله بعد عبادته عز وجل، فلأول وهلة يبدو أنه ذكر لخاص بعد عام، لكنه إيراد للأسباب والأعمال التي يقوم بها المرء على أكمل وجه ثم ينقطع عنها ويقف منكسراً في باب الله طالبا منه قبول ما مضى والتوفيق والإعانة في ما سيأتي، وهذا ما يتضمنه مصطلحا (الاعتصام) و(الاستعانة)؛ ولذلك ذكر الصراط المستقيم في الموضعين!