جواهر التدبر (٢٦٢)
المقاصد الأساسية للدولة الإسلامية
بقلم أ. د. فؤاد البنا
من سمات الإعجاز في القرآن الكريم قدرته على اكتناز معاني غزيرة في عبارات قليلة، وتبرز هذه السمة في كل الحقول التي يرتادها النص القرآني ولا سيما في الحقل السياسي، وفي هذا المضمار وجدنا عددا من الآيات التي أوردت المقاصد التي ينبغي أن تحققها الدولة الإسلامية في الواقع، ويبدو لي أن أهم هذه الآيات هي قوله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: ٤١].
وبلا شك فإن القرآن يعتمد في مثل هذه الحالة على تدبر المؤمنين للنصوص، حتى يستنبطوا هداياتها ويستخرجوا كنوزها، وبشيء من التأمل لهذه الآية نجد أنها تحتوي على المقاصد الأساسية للدولة الإسلامية، وهي على النحو الآتي:
المقصد الأول: إقامة حقوق الله (إقامة الصلاة):
فالصلاة هنا هي قاعدة ورمز لجميع حقوق الله التي ينبغي أن تقام على الوجه الأمثل، ومن هنا فقد اعتبرت عمود الإسلام الذي يعني كمال الاستسلام لله وإشاعة السلام بين خلق الله.
ومن واجبات الدولة الإسلامية التذرع بكافة الوسائل التربوية والتعليمية والوعظية والإرشادية من أجل زرع دولة الله أو ما تسمى بالتقوى في قلوب المؤمنين، بحيث يتحقق تعظيم الله وحفظ مقامه الجليل في أنفس المواطنين، مع دفعهم للقيام بكل عمل يبرز صفات الله ويحثهم على تطبيق حاكمية الله في أنفسهم، بحيث يستحضرون دوما أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه تعبّدنا في كل مجالات الحياة وليس في محراب المسجد ومضامير الشعائر التعبدية فقط، وأن هذه العبادات الشعائرية ليس لله حاجة فيها، وإنما هي محطات تمنحنا الدافعية لعبادة الله في عمارة الأرض وصناعة الحياة من زوايا تخصصاتنا وأعمالنا المهنية، وأننا إن لم نمتلك التقوى التي تجعلنا حاضرين عند الأوامر وغائبين عن النواهي؛ فليس لله حاجة فيها!
المقصد الثاني: إقامة حقوق الإنسان(إيتاء الزكاة):
فإعطاء الزكاة لمستحقيها وفق تعاليم الإسلام تمثل قاعدة ورمزا لجميع حقوق الإنسان، وفي القلب منها القيم الحضارية الكبرى: الحرية والكرامة والعدالة والكفاية والوحدة والعلم والعمل.
ولو تفكرنا في حقيقة الزكاة لوجدنا أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه القيم، فالزكاة هي عمود منظومة مالية تنتمي لها مجموعة من الصدقات والأوقاف والكفارات والنذور، لو أخذت من كل من تجب عليهم بأمانة وتم استثمارها وتنمية المجتمع بها، لانعكست إيجابا على كل القيم الحضارية، ابتداء بالعلم والحرية ففي الغالب يُستعبد الناس بسبب جهلهم وحاجتهم، وعلى المدى البعيد ستتحقق الكفاية والعدالة ومن ثم سيتمتع الناس بالكرامة والوحدة، ولو تم أخذها من كل من وجبت عليه لما اكتنز الناس الأموال وما احتكروا السلع والبضائع، ولوظفوها في مشاريع تعود بالخير على المجتمع. ولو استثمرت في تعليم الناس بعض الحرف وتأهيلهم لبعض المهن، وانتقاء مجاميع من أصحاب الحس التجاري لإعطائهم مشاريع تحررهم من الفقر، وتحولهم إلى أناس منتجين، مع استحضار أن العمل المهني عبادة متعدية أجرها أكبر من العبادات اللازمة بما فيها الصلاة، فستختفي ظواهر عديدة مثل البطالة والتسول، وسيحدث حراك عملي و تجاري كبير يعود بالخير العميم على المجتمع برمته وعلى القيم الحضارية الأخرى التي يدين بها.
المقصد الثالث: توفير الضمانات لأداء حقوق الله وحقوق الإنسان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر):
فمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي توفير الضمانات والوسائل الأعلى كفاءة لتجسيد حقوق الله وحقوق الإنسان في الواقع بأعلى درجة ممكنة من النجاح والتفوق، مع ما يتطلب ذلك من إيجاد مؤسسات تتولى بناء الفرد الصحيح وصناعة الوعي الجمعي والمجتمع الفعال، وأهمها المؤسسات التي تربي وتعلم (المدارس والمعاهد والجامعات)، والمؤسسات التي تنظم وتقود (الحكومة والقضاء)، والمؤسسات التي تشرع وتقنن (البرلمان ومجلس الشورى)، والمؤسسات التي تراقب وتحاسب (الأجهزة الرقابية والنيابات العامة والأحزاب والنقابات والجمعيات)، والمؤسسات التي تخطط وتدير (الأجهزة التخطيطية في الدولة ومراكز الأبحاث ومعاهد صنع السياسات والاستراتيجيات)، والمؤسسات التي تطور وتبتكر (مراكز الأبحاث التخصصية والتابعة للجامعات والشركات)، والمؤسسات التي تمول وتشجع (الوزارات المختصة والجمعيات والشركات)، والمؤسسات التي ترشد وتهذب (المساجد والمنتديات والنوادي) والمؤسسات التي ترتقي بالذوائق والمواجيد ( المؤسسات الفنية والأدبية)، والمؤسسات التي تتولى إقامة البنى التحتية وتقدم مختلف الخدمات العامة (وزارات وجمعيات وشركات)، والمؤسسات التي تحرس هذه كلها وتحميها، سواء بالقوة الناعمة (القضاء والإعلام ومكونات المجتمع المدني) أو بالقوة المادية الخشنة (الجيش والمؤسسات الأمنية والاستخبارية).