جواهر التدبر (٢٦١)
انقلاب المصطلحات
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– الغفلة الإيجابية:
مصطلح الغفلة في القرآن مصطلح سلبي في الأصل، ويطلق غالبا على المعطلين لعقولهم والذاهلين عن آيات الله المسطورة في كتاب القرآن والمنظورة في كتاب الكون، كما في قوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} [الأنبياء: ١]، والغفلة المذكورة في الآية ليست بالمعنى البسيط المتبادر إلى الذهن، وإنما هي عنوان لعدد من الآفات التي نشأت في الذات بسبب ركود العقل وتبلد القلب وبسبب الانغماس المنفلت في اللذائذ والشهوات، لدرجة أوصلت أصحابها إلى الذهول عن اليوم الآخر، وكأن الموت هو نهاية قصة الإنسان!
لكن الغفلة وردت في آية واحدة بصورة إيجابية وعلى سبيل المدح، وهي قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة} [النور: ٢٣]، فالغافلات هنا هن العفيفات المحصنات واللاتي لم يخطر على بالهن قط اقتراف أي أمر من اللمم وهي الصغائر التي تمثل مقدمات للزنا، فضلا عن التفكير بالزنا نفسه، وهذا يعني أنه لم يكن يوما خاطرة من خواطر القلب ولا فكرة من أفكار العقل ولا هما من هموم النفس، وهذه هي قمة العفة ومنتهى البراءة والشرف؛ ولذلك فإن من يقذف هؤلاء النسوة بسوء يستحق إقامة حد من حدود الله عليه وهو حد القذف!
وبالطبع فإن النساء لسن كلهن بهذه العفة والغفلة، لكن القرآن يتعامل بحسن الظن مع الجميع ويفترض أن كل امرأة عفيفة حتى يثبت العكس، ولا تسقط حرمة أي امرأة مهما ارتكبت من اللمم، ويظل القاذف عرضة لعقوبة القذف ما لم يُثبت بشهادة أربعة عدول أنهم رأوها في حالة زنا واضح، وهذا من باب صون الأعراض؛ لأن المرأة التي تلاك سمعتها تتعرض لتدمير مستقبلها، بجانب أن هذه الأقاويل صورة من صور إشاعة الفاحشة التي تضعف جهاز المناعة الاجتماعي!
– مصيبة الحسنات:
كما أن المَضرّات قد تكون خيرا للمؤمن وتحمل له في طياتها ما يحب في المعاش أو المعاد؛ فإن الحسنات قد تكون مصيبة في مآلاتها، كما قال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله}، والحسنة هنا ما تحمل للإنسان من الإحسان الذي يحبه في نفسه وماله وأهله ومصالحه، فهي مصيبة بحكم أن الله يبتلي المرء بذلك الإحسان، فإن شكر يكون قد نجح، وقليلٌ من عباده الشكور، وإن بطر وتكبر يكون قد كفر بالمنعم، ومن ثم صارت النعمة بالنسبة له نقمة أو مصيبة؛ ذلك أن امتحان النعمة أصعب من امتحان النقمة، كما قال أحد الصحابة الكرام: “ابتُلينا بالشدة فصبرنا، وابتلينا بالرخاء فلم نصبر”!
ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}، أي بما يسرهم وما يسوؤهم، وقوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وما لم يكن المرء على درجة عالية من التزكي الذي يمكّن النفخة الروحية من ضبط القبضة الترابية، فإن مصيبة الحسنات ستبعث أدران العجب والغرور والشح والمنع والاحتكار والطمع وغيرها، بينما توقظ مصيبة السيئات الجزع والأسى والسخط على الأقدار وغيرها!
– هداية المصائب:
قد يحمل المسلم بذرة الإيمان السليم في قلبه، لكن آفات الغفلة وران السيئات تغطي عليه وتمنعه من الانعتاق والإشراق، فتأتي المصائب كمطارق توقظ القلب الغافل والنفس السادرة، وتساعد الإيمان على الانبثاق من بين أثقال المعاصي وآصار الذنوب، ومن ثم تصير المصيبة في هذه الحالة هداية بالنسبة لهذا النوع من الناس، كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} [التغابن: ١١]، أي ومن يحمل بذرة الإيمان في قلبه فإن المصيبة التي ساقها الله له ستهدي قلبه، وكأن المصيبة هدية سيقت لهداية من في قلبه إيمان وخير!