جواهر التدبر (٢٤٨)
المقاصد والوسائط
بقلم أ.د.فؤاد البنا
– البحث عن الوسائل المحققة للأهداف:
أمر الله عز وجل حبيبه محمدا عليه السلام بإشاعة التذكير العام، فقال تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى} [الأعلى: ٩]، ولأول وهلة ربما يتبدى للقارئ من ظاهر القول أن الذكرى عندما لا ينتفع منها الناس فينبغي التوقف عن الاستمرار فيها، ويبدو لي أن الآية لا تعني أن الذكرى إن لم تنفع المستهدفين فإن الداعية يقلع عن التذكير، وإنما هي توجيه للداعية بأن وظيفته لا تقتصر على التذكير سواء استفاد الناس أم لم يستفيدوا، فهذا نوع من الأداء الميكانيكي السالب وكأن اهتمامه قاصر على إسقاط الواجب ولا وجود لروح الدعوة وشغف الهداية فيه، وكأن الله يطالب الداعية بأنه مثلما يجب عليه التذكير فيجب عليه أن يبحث عن الوسائل الموصلة للذكرى إلى قلوب الناس وعقولهم، أو الانتقال في ممارسة الدعوة إلى مجال آخر أو ميدان آخر أو مجتمع آخر ينفع فيه التذكير.
وهذا الأمر حينما يتم تدبره سنجد أنه يحمل معنى الدعوة للتجديد والتنويع والدخول من أبواب متفرقه، وعدم الجمود على الوسائل والأساليب التقليدية، مع ما يقتضيه ذلك من رسم للخطط العلمية المحكمة، ثم مراجعة الخطط والممارسات وهو ما يسمى في عصرنا بالنقد الذاتي، وذلك في ضوء فهم طبائع الناس ونفسياتهم وطرائق فهمهم، ومعرفة عوائدهم ومصالحهم، وفقه الواقع الذي ينغمسون فيه بكل متغيراته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكذا في ضوء الخبرات الذاتية السابقة وتجارب الآخرين!
وربما كان هذا الأمر هو السبب لقول بعض الأنبياء لأقوامهم: {لقد أبلغتكم رسالات ربي…..}، وهو إنما بلغ رسالة واحدة مع تعدد أركانها وشروطها، لكن حرصه على تغيير درجة التركيز على الأولويات والأهداف وتطوير الأساليب والوسائل، أظهر الرسالة في كل مرة كأنها مختلفة، فجاء التعبير القرآني (رسالات) وهي في الحقيقة رسالة واحدة!
وربما كان هذا الأمر شبيها بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}، يعني اجتهدوا في فهم مراد الله بحيث لا يفقدكم ربكم عند أوامره ولا يجدكم عند نواهيه، واستخدِموا الوسائل والأساليب التي ترونها أكثر نجاعة في تحقيق هذه الغاية، سواء ورثتموها عن أسلافكم أو اقتبستموها من منافسيكم وخصومكم أو ابتكرتموها باجتهاداتكم وعبقريتكم!
ومما يشير إلى ترجيح هذا المعنى أن فعل الأمر (ذكِّر) في الآية الأولى، جاء على وزن فعِّل وكأنه يقول فعِّل كل الوسائل التي تساعد على نجاح التذكير ووصول النفع إلى المخاطبين.
– مراعاة المقصد:
ينصبّ اهتمام الإسلام على المقاصد والغايات وليس على الأشكال والمظاهر، وفي هذا السياق نعرف أن الإسلام حرّم الفرار من الزحف أمام الأعداء، إذا كان الغرض منه المحافظة على النفس وليس فيه مصلحة عامة للمجتمع أو للأمة، وأجاز ماعدا ذلك كأن يكون تكتيكاً ضمن استراتيجية كسب المعركة على المدى القريب أو البعيد، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: ١٥، ١٦]. وتحرّف القتال يحمل معنى التكتيك والمناورة، بينما يحمل التحيز إلى فئة معنى الاستدراك وتعديل موازين القوة، إذا كان الاختلال يمكن أن يؤدي إلى فناء مقاتلي المسلمين.
ومن هنا فقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن جيش خالد بن الوليد الذي انسحب من معركة (مؤتة) كُرّاراً لا فُراراً، بعكس عامة المسلمين الذين أسرهم الشكل الظاهر أمامهم ولم يلتفتوا إلى المقصد والمآل، فاستقبلوا الجيش في المدينة المنورة بمظاهرة تهتف: يا فرار يا فرار، فرد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: “بل كرار”!