مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٢٦) .. عندما ينقلب الكيد الخبيث على أصحابه

جواهر التدبر (٢٢٦)

عندما ينقلب الكيد الخبيث على أصحابه

 

بقلم أ. د .فؤاد البنا

اخبر القرآن الكريم بالنص الحرفي أن الله لا يحب الخائنين ولا المعتدين ولا الكافرين ولا الظالمين ولا المفسدين ولا المسرفين ولا المستكبرين، ومعظم هذه الصفات، إن لم تكن كلها، موجودة في من يتوسلون بالكيد لأهل الحق؛ ومن هنا فإن الله يقلب الكيد على أصحابه الخبثاء، ما دام عباد الله متوكلين عليه وآخذين بكل ما يستطيعون من الأسباب الممكنة للتحصن من أعداء الله.
وعن هذه الحقيقة قال تعالى: {أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون} [الطور: ٤٢]، بمعنى أن سلاح الكيد يرتد إلى صدور الكائدين كمن ينتحر بسلاحه، حيث تنقلب أنواع الكيد مهما كانت على أصحابها، وهذا ما يفيده تنكير كلمة كيد في الآية، حيث يشمل كل كيد، وقد عبر الله عن هذه الحقيقة بصيغة أخرى حينما قال: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}، واستخدم حرف النفي في بداية الجملة وحرف الاستثناء قبل نهايتها ليؤكد أن المكر السيء، أو الكيد الخبيث، ينقلب بالضرورة على أصحابه، وليس له نهاية أخرى غير هذه، وهذا يمنح المؤمنين قدرا كبيرا من الطمأنينة، ولكن لا ينبغي لهذه الثقة أن تلغي الخوف الطبيعي الباعث على التسلح بالأسباب، ولا القلق الصحي الذي يدفع نحو كشف خطط العدو والاستعداد لأسوأ الاحتمالات بإعدادٍ أوثق وإيمان أعمق!
وأبرز القرآن لنا مثالا شديد النصاعة في هذا المجال، حينما أخبرنا بأن فرعون الطاغية بجانب استخدامه للبطش والتنكيل بكل صوره ضد موسى وقومه، قد لجأ إلى الكيد الخبيث، كما قال تعالى: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} [طه: ٦٠]، وتفيد عبارة (جمع كيده) أنه استكمل وسعه في جمع كل ما يملك من وسائل الكيد لمواجهة موسى عليه السلام!
وقد يسأل أحدنا فيقول: إن الكيد لا يلجأ إليه إلا الضعفاء وفرعون كان طاغية قويا وتحت هيمنته دولة من أقوى دول العالم آنذاك، فلماذا لجأ إلى الكيد؟ والجواب الذي يتبدى لي أن رسالة موسى كانت تتقدم باطراد رغم البطش والتنكيل، بما وهبها الله من قوة ذاتية في تركيبتها العقدية والأخلاقية والروحية، كما نرى في الإسلام اليوم رغم ضعف المسلمين، ولذلك فقد ظن أن هذا الكيد سيقضي على موسى ويطفئ بريق فكرته التي ظلت تنتشر بسرعة في أنحاء مصر، بجانب أن معجزات موسى كانت خارقة وذات صلة بعالم الغيب ولا يستطيع إيقاف تأثيرها إلا بشيء قريب منها، ولقد وجد ضالته في السحر وخاصة أن السحر في زمنه كان أبرز العلوم التي يتسابق أذكياء قومه على تعلمها!
لقد استدعى فرعون أقوى السحرة من جميع أنحاء  دولته وجمعهم في ساحة ضخمة اتسعت لأعداد هائلة من المشاهدين المصريين وعبيدهم الإسرائيليين، وعندما بدأت المبارزة رمى السحرة إلى الأرض كل ما يملكون من حبال وعصي مستخدمين أحابيل السحر في تحريكها وفي سحر أعين الناس، بمن فيهم موسى الذي خيل إليه أنها تسعى وأوجس ببشريته منها خيفة، لكن الله ثبته قائلا له: {لا تخف إنك أنت الأعلى. وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: ٦٨، ٦٩]، ولنتأمل كيف تعامل ربنا مع بشرية موسى مطمئنا إياه، حيث نهاه عن الخوف وأكد له أنه الأعلى؛ باستخدام حرف التوكيد (إن) وضمير الفصل (أنت) مع أنه قد استخدم ضمير المخاطب في (إنك).
ثم أمره بإلقاء ما في يده اليمنى حتى تلقف سحرهم المبني على التزوير والتخييل، وبالفعل حينما ألقى موسى عصاه ابتلعت كل عصيهم وحبالهم، وانقلب السحر على الساحر، أو الكيد على الكائد، حيث اعتنق السحرة دين موسى، وعرف المصريون أن فرعون ليس إلها كما ادعا، وأن موسى ليس ساحرا كما اتُهم، وإنما نبي يوحى إليه من رب السماء، وأصيب فرعون بسعار العظمة المجروح بسيوف الهزيمة، فحاول تقليل الخسائر بادعاء أن رجاله السحرة الذين جاؤوا بدعوته ووعدهم بالأجر الجزيل، وافتتحوا سحرهم بعزته، إنما هم من رجال موسى وأنهم فعلوا هذه المسرحية لإغواء المصريين، فكان هذا الاغتيال المعنوي لهم أولاً حتى لا يصبحوا قدوة لأبناء قومهم من المصريين، ثم أتبعه بالقتل المادي عبر التنكيل بهم والتمثيل بأجسادهم وهم ما زالوا أحياء، وذلك من خلال تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وصلب ما بقي من أجساد على جذوع النخل الممتدة في شوارع العاصمة؛ حتى يموتوا ببطئ ويصبحوا عبرة ورعبا للمصريين!
ومهما تكن خاتمة السحرة، فقد انقلب كيد فرعون عليه مصداقا لكلام الله، وصار من كانوا أهم مصدر لقوته أبرز نقطة ضعف له، ولم تهز هذه الحادثة دعوى ألوهية فرعون فقط ولكن هزت ملكه بعنف!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى