مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢١٨) .. التعقّل الخاشع للقرآن!

جواهر التدبر (٢١٨)

التعقّل الخاشع للقرآن!

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

أوضحت إحدى آيات القرآن الكريم أن الحكمة من إنزال القرآن باللغة العربية هي تسهيل تعقله من قبل المؤمنين، قال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، ذلك أن اللغة العربية أغنى لغات العالم بالمفردات التي تراعي الفروق الدقيقة بين المفاهيم والأشياء والمشاعر والظواهر، فمفردات واشتقاقات أكبر معاجمها اللغوية تزيد عن ١٣ مليون مادة، بينما أكبر معجم باللغة الإنجليزية تبلغ مواده ٨٠٠ ألف، وأكبر معجم باللغة الفرنسية تبلغ مواده ٤٠٠ ألف!

والتعقل الوارد في الآية يفيد ثلاثة أمور:
أولها: التلاوة الجميلة لأنها الطريق للتعقل.
ثانيها: التدبر التأملي لأنه مضمون التفهم العقلي والإدكار القلبي.
ثالثها: العمل التطبيقي، لأن الغاية من تنزيل القرآن هي الاهتداء بهداه الأقوم والسير وفق تعاليمه الربانية المعصومة، وذلك في كافة مجالات الحياة، حتى أن الاتباع من معاني مصطلح التلاوة، فتلاه في اللغة أي تبعه، وبالطبع فإنه لا يمكن للمرء أن يكون عاقلا ما لم يفعل ما ينفعه ويتجنب ما يضره، والمتأمل في نصوص القرآن يرى بوضوح أن تعاليمه تتضافر بمختلف الأساليب والصيغ من أجل جلب المنافع للناس في المعاش والمعاد، ودفع المضار فيهما. ومن ثم فإن جملة {لعلكم تعقلون} هي أجمع الآيات التي تتحدث عن الغاية من إنزال القرآن الكريم.
وكان القرآن قد أورد قصة الحياة القصيرة لآدم وحواء في الجنة، وذكر كيف أن عدم الالتزام بتعاليم الخالق رغم بساطتها قد أدى إلى الطرد من الجنة والإهباط إلى الأرض، ثم عقّب الله على ذلك فقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}[طه: ١٢٣]، ذلك أن الاتباع هو الهدف الغائي من تنزيل القرآن الكريم.
ومن أجل الاستفادة المثلى من هدايات القرآن فقد ربط الله ربطا وثيقا بين التدبر العقلي والتذكر القلبي، كما في قوله تعالى: {إنما يتذكر أولوا الألباب}، واستخدم هنا أداة الحصر (إنما) ليؤكد أن الطريق الحقيقي لتحقيق التذكر القلبي هو تفعيل مدارك العقل في التفكر، إذ بتفعيل الناس لهذه المدارك يصيرون من أولي الألباب، وإلا ما فائدة العقول التي لم يتم تشغيلها ولا استثمار طاقاتها؟! إنها تصير حينئذ وكأنها لم تكن!
وفي هذا السياق قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: ٤٦]، فقد جعل القلوب أداة للتعقل، تعبيرا عن المزج بين التفكير العقلي الجاف والمشاعر القلبية السائلة، بحيث يتكون ما سميناه بالتعقل الخاشع أو الخشوع العقلي.
ولقد حضّ الله على الخشوع فقال عز من قائل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } [الحديد: ١٦]، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم ساعات عديدة يردد آية واحدة، فينير بمعانيها وذخائرها المخبوئة عقله، ويلين بوعدها ووعيدها قلبه، حتى روي أنه صلى الله عليه وسلم شيبته سورة هود وأخواتها، بينما نجد كثيرا من قراء عصرنا يطول عليهم الأمد لكنهم لا يشيبون؛ بسبب برودة القلوب والانغماس في متع الدنيا!
وصفوة القول في هذه القضية، إن المؤمن الذي يريد أن يستفيد من طريقة القرآن في التعاطي مع القرآن، ينبغي أن يتعاطى معه كأنما أنزل عليه اليوم، ويستنفر ذاته كلها للتعاطي الأمثل معه، بحيث يعطي للقرآن كله، فالعقل يتفكر ويتأمل في رسائل الله، والقلب ينفعل فيخشع ويخضع لمراد الله، والجسم ينسلك ويعمل ما يريده الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى