مقالاتمقالات مختارة

جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام (3)

جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام (3)

بقلم مقداد يالجن

ثالثا: تعليم الحكمة والتنشئة بها:

وقبل بيان أهمية تعليم الحكمة والتنشئة بها يحسن بنا أن نحدِّد معنى الحكمة. فإذا نظرنا إلى معنى الحكمة وجدنا اختلافاً كثيراً بين الدارسين في معناها.

فقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] {البقرة:269} المعاني الآتية: الإصابة في القول والعمل. حكمة العقل في الدين. معرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. أصل الحكمة ما يمتنع به عن السفه.

وذكر ابن كثير عند تفسير الآية السابقة المعاني الآتية: (المعرفة بالقرآن. العلم والفقه والقرآن. خشية الله تعالى، العقل، وقال ابن كثير بعد ذلك: وقال السدي: الحكمة النبوة، والصحيح كما قال الجمهور؛ أنَّ الحكمة لا تختصُّ بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة). [المرشد الطبي الحديث. ص44 ألفه مجموعة من الأطباء. المطبعة الحديثة ببيروت].

وجاء في دائرة المعارف الإسلامية زيادة إلى ما ذكرنا رأي البيضاوي بأنها استكمال النفس الإنسانيَّة باقتباس العلوم النظريَّة واكتساب الملكة التامَّة على الأفعال الفاضلة عل قدر طاقتها. [تفسير القرطبي 3/330].

وفسَّرها أحد علماء اللغة بأنَّها: (معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم) [تفسير ابن كثير 1/ 334. مكتبة النهضة الحديثة 1 ط القاهرة].

وفسَّرها واحد آخر بأنها: (العدل في القضاء والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها) [دائرة المعارف الإسلامية 80/14. وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة 1969م].

وذكر التهانوي في كتابه (كشف اصطلاحات الفنون) كثيراً من المعاني لكلمة الحكمة أهمها أنها: علم الحكمة؛ وتشمل بيان الحكمة العلمية من الحكمة الخلقية والحكمة السياسية والمدنية وبيان الحكمة النظريَّة، ومنها معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به والتكاليف الشرعية، ثم قال: هكذا في التفسير الكبير في قوله تعالى [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ] {الإسراء:39}.

ومن تلك المعاني المهمة التي ذكرها التهانوي أيضاً: فائدة ومصلحة تترتب على الفعل.

ومنها أخيراً المعنى العلمي (وهو علم بما يكون وجودُه بقدراتنا واختيارنا: ومنها المعنى النظري وهو علم بما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا) [لسان العرب انظر كلمة الحكمة].

والحقيقة أنَّ الحكمة تتضمَّن معظم تلك المعاني التي ذكرها العلماء ولكن المعاني التي أخصها بالذكر هنا هي أنَّ الحكمة عَلَمٌ على العِلْم الذي يَتناول معرفة قيم الأشياء وقيم المبادئ الإسلامية، ومعرفة ما هو ممكن تحقيقه بقدرتنا واختيارنا، ومعرفة أسرار الموجودات والمقاصد من إيجادها وخلقها على ذلك النحو دون نحو آخر.

ومعرفة ما هو أفضل في كل شيء وفي كل سلوك في الميادين المختلفة والعمل بموجب تلك المعرفة اليقينيَّة الراسخة، وتحكيم العقل والإرادة الدينيَّة وتطبيق العلم في المشكلات والقضايا.

وتعليم الحكمة والتنشئة بها مهم في ميدان التربية العقلية، لأنها من الوسائل المهمَّة والعوامل الدافعة إلى تكوين شخصيَّة عاقلة حكيمة يتفاعل مع ما يتعلم من الحقائق العلميَّة، ويندفع إلى تطبيقها في حياته العلمية في المجالات المختلفة، ويسعى باستمرار إلى ما هو أفضل في كل شيء، في حقِّ نفسه وحقِّ أمَّتِه، ثم أنه لا يخضع في تفكيره وسيره وعلمه لنزواته وشهواته.

ولا يكفي مجرد تعليم الحكمة بل لابد مع ذلك من التنشئة بها في مختلف مراحل تربية الإنسان؛ لأنَّ الإنسان إن لم يمارسها لا يستطيع أن يكتسبها ولا يستطيع أن يقدر قيمتها حق قدرها. ثم إن التنشئة بها تكون عند المتربي الإرادة الحكيمة التي لا يمكن أن تتكون من الناحية العمليَّة بدون ممارستها والتنشئة بها.

فإذا ازداد الإنسان علماً بالحكمة وسلوكاً وإرادة يستطيع أن يتصرَّف تصرفاً حكيماً بالرغم من الظروف المختلفة والعوامل الدافعة إلى الخروج عن الحكمة عندئذ يحقق مغزى قول الله تعالى: [وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] {البقرة:269} وخاصَّة إذا علم الإنسان حكمة المبادئ الإسلامية وقيمتها المختلفة كان أكثر اندفاعاً لها وتمسكاً بها.

ولهذه الأهمية للحكمة ذكرها تعالى مقارناً بالقرآن ومقارناً بالكتب السماوية أيضاً في قوله تعالى: [وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] {المائدة:110}.

ولهذا أيضاً أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بهدف تعليم الكتاب وتزكية النفوس وتعليم الحكمة كما ذكر الله تعالى في قوله: [كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] {البقرة:151} .

ثم دعا الإسلام إلى أن تكون الدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة فقال تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125} وقد ذكرت كلمة الحكمة في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة في أماكن مهمَّة في كل مكان يحمل أسراراً مُعينة تحتاج الاهتمام بها وأخذ العبرة منها.

ومن تلك الأماكن والمواقع ما ذُكر في ميدان التربية، ومنها في ميدان تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: [وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ]{البقرة:151}.

ومنها ما ذُكر أيضاً بصدد تربية لقمان الحكيم لابنه حيث قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ(19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(20)]. {لقمان}.

فإن حكمة لقمان التربوية تظهر في هذه الآيات القليلة الموجزة، وباعتبار أنَّ الحكمة تقتضي معرفة حقيقة الشيء وأسراره والعمل بموجبها؛ فإنَّ في تربية لقمان تكتنف أسرارَ تربية الإنسان قيادته والتحكم في مسيرته، وما لم يصلْ الناس إلى سرِّ الشيء لا يُعتبرون أنهم قد عرفوا معرفة حقيقية، وبدون معرفة حقيقة الشيء لا يمكن الوصول إلى الهدف، ولهذا بالرغم من تقدم الدراسات التربوية في كثير من جوانبها لا يزال الناس لم يكتشفوا حكمة التربية الأساسية، أو سرَّ تربية الإنسان تربية أساسية، ولهذا فإن كليات التربية في العالم لم تستطع تحقيق أهدافها الأساسية ولم توفق في قيادة الإنسانية قيادة حكيمة ولم تستطع تلك الكليات تكوين علماء عقلاء وحكماء.

إنَّ سر قيادة الإنسان وتربيته وفقاً لتربية لقمان الحكيم تكمن في إدخال عقيدة قوية راسخة في قلبه أولاً بحيث يؤمن بها ويتفاعل معها. ذلك أنَّ العقيدة قوة محركة وموجهة في الوقت نفسه، وهي في الوقت نفسه طاقة قويَّة لا تنفد تجبر الإنسان على السير في طريق معين دون الطرق الأخرى، لهذا نجد لقمان الحكيم يبدأ بتربية ابنه أولا بغرس تلك العقيدة في نفس ابنه عقيدة التوحيد الخالية من كلِّ شك ومن كل شرك، ويتبع ذلك بذكر أوصاف الله سبحانه يصوِّر بها عظمةَ الله وعلمه الدقيق وقدرته الهائلة تصويراً يَرتعش له الوجدان وتقشعرُّ له الجلود.

ومن خلال ذلك يبث في روح ابنه مراقبة الله لأفعاله وعدالته في جزائه بحيث لا يضيع عمل مهما كان صغيراً ولا يغيب عنه. 

وبعد الانتهاء من جانب العقيدة بدأ يُعلِّمُه العبادات، وفعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصبر على ما يصيبه في سبيل ذلك من نصب ووصب وجهد وتعب؛ لأنَّ ذلك من الأمور العظيمة.

ثم ينتقل بتعليمه الآداب الاجتماعية وطريقة الكلام حتى المشي في الطرقات.

ثم بعد ذلك ينتقل إلى كشف أسرار مخلوقات الله تعالى، وكيف أنَّه سخَّرها لعباده، وكيف أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، لأن رؤية كثرة أنعم الله يدفعه إلى الخضوع له والحياء من عصيانه، وأخيراً ينذره من الجدال بغير علم ومن اتباع طريق بغير هدى ولا كتاب عن طريق إنذار الآخرين الذين يفعلون ذلك.

ومن كل هذا نقرِّر أنَّ من مميزات التربية العقليَّة الإسلامية أنها تربية حكيمة وهي في الوقت نفسه ميزة للشخصية الإسلامية، التي يراد تكوينها عن طريق التربية الإسلامية المتكاملة.

ولهذا كله نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يشجِّع على طلب الحكمة قائلاً: (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها) [دائرة المعارف الإسلامية 8/14 – تاج العروس 8/253]، وفي رواية أخرى: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن) [كشاف اصطلاحات الفنون 2/132 تحقيق لطفي عبد البديع. المؤسسة المصرية العامة القاهرة 1963م].

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يَقْضي بها ويعلِّمها) [المرجع السابق انظر كلمة حكمة].

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (…نعم المجلس مجلس ينشر فيه الحكمة) [المقاصد الحسنة 1/191 الامام الحافظ السخاوي. مكتبة الخانجي. القاهرة].

ثم إننا يجب أن نعلم أنَّ من أسباب انصراف كثير من المسلمين في العالم الإسلامي عن التمسك بالمبادئ الإسلامية الجهل بحكمة الأحكام التشريعية لهذا الدين. ولهذا كله يجب الاهتمام بالتربية بالحكمة في ميدان التربية الإسلامية.

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: مجلة المسلم المعاصر رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31

[وللمقالة تتمة في الجزء التالي].

 

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى