مقالاتمقالات مختارة

جهود الإمام البخاري في تدوين وتدقيق السنة النبوية المشرفة

جهود الإمام البخاري في تدوين وتدقيق السنة النبوية المشرفة

بقلم الشيخ د. تيسير التميمي

تشهد هذه المرحلة العصيبة من حياة الأمة حرباً فكرية منظّمة للطعن في أصول الدين ومصادره ، حرب ضَرُوسٌ يشنها تحالف واسع من أعداء الإسلام يضم أحفاد المستشرقين ومنظّرين من أبناء جلدتنا ، اتفق هذا التحالف على الطعن بالقرآن المجيد والسنة النبوية والتشكيك في مرجعيات الإسلام بهدف هدمه من القواعد ، ولعل من هذه المحاولات الفاشلة هجمتهم على الإمام البخاري وصحيحه مستغلين جهل الناس بتاريخ تدوين السنة النبوية ، وعدم معرفتهم بمنهج البخاري في جمع الحديث النبوي ونصرة السنة النبوية ونشرها ، فمنهم من افترى عليه بأنه اخترع الأحاديث والسنة وبأنه ألَّف كتابه الصحيح من خياله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمائتي عام ، وتبجح بعض أنصاف المتعلمين بأن البخاري أخطأ في رواية بعض الأحاديث التي لم توافق أهواءهم ، وادعى بعضهم باحتواء صحيحه على أحاديث ضعيفة ، وغيرها كثير من الهجمات الباطلة التي تصدى لتفنيدها وبيان زيفها كثير من العلماء المتخصصين ،

     يعتبر البخاري إمام الحُفّاظ وأميرهم وأكبرهم ، وأبرز الفقهاء وأقدرهم ، وهو من أهم المتخصصين في علوم الحديث وعلوم الرجال والجرح والتعديل والعلل عند أهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي ، وتعددت رحلاته العلمية في سبيل حفظ الحديث وضبطه ، وتكبد مشاق السفر وعناء الانتقال بين البلدان القاصية ستة عشر عاماً زار خلالها أكثر البلدان والأمصار الاسلامية في ذلك الزمان ينهل من الشيوخ ويجالس العلماء ويحاور المحدِّثين ويجمع الحديث ويعقد مجالس العلم  ، فقد ارتحل إلى مكة والمدينة وبغداد والكوفة والبصرة ودمشق وقيساريا وعسقلان ومصر وغيرها ،

     امتاز الإمام البخاري بقوة الحفظ ودقته ، فكان يحفظ الأحاديث بمتونها وأسانيدها ، وصفه ابن عدي الجرجاني أحد كبار علماء الحديث والرجال بقوله [سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها فجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ، فلما عرضت عليه في مجلس حضره كثير من العلماء … قام بتصحيحها جميعاً وردّ متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها ، فأقر له العلماء بالحفظ والعلم وأذعنوا له بالفضل].

     وقد شهد العلماء للإمام البخاري وأثنوْا على علمه وفضله ومكانته ، قال الترمذي [لم أرَ في العلل والرجال أعلم من البخاري] وقال ابن خزيمة [ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل البخاري] وقال الإمام أحمد [ما أخرجت خراسان مثله] ، وقال الدارمي [محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلباً] وهذا تلميذه الإمام مسلم يقبله بين عينيه وكاد يبكي وقال له [دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ ، لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ] ، وكان ذلك في مجلس علم حيث دار بينهما حوار في واحد من الأحاديث المشهورة ، فبيَّن الإمام البخاري علة في سنده أي في سلسلة رواته.

     أما عن سبب تأليف البخاري كتابه الجامع الصحيح فقال [كنتُ عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع ذلك في قلبي فأخذتُ في جمع هذا الكتاب ] فهو إذن أول من صنّف كتاباً يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث النبوية الصحيحة فقط ، وليس أول من دوَّن السنة النبوية ، وإسحق بن راهويه عالم كبير في الحديث والفقه والتفسير ، وهو أحد تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل ومن شيوخ الإمام البخاري رحمهم الله ، وقد فعل الإمام ذلك تقرباً إلى الله عز وجل فقال [ صنفتُ الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى].

     بذل البخاري جهداً خارقاً أثناء تصنيف كتابه الجامع الصحيح ، قال هو عن ذلك [صنفتُ كتابي هذا في المسجد الحرام ، وما أدخلتُ فيه حديثاً حتى استخرتُ الله تعالى وصليتُ ركعتين وتيقنتُ صحته] وكذلك صنع في تراجمه التي جمعها في المسجد النبوي بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومنبره ، فكان يصلي قبل تدوين كل ترجمة ركعتين ، والتراجم هي عناوين الأبواب التي ساق فيها متون الأحاديث ، وقد تكون التراجم آيات أو أحاديث ، وقد تكون هذه الأحاديث غير مسندة وتسمى أحاديث معلقة ، والحديث المعلق هو الحديث الذي حذف أول سنده أو أكثر من راوٍ على التوالي ولو إلى آخر السند ، وأحاديثنا اليوم معظمها معلقة ، فقليلاً ما يذكر المؤلفون والباحثون والكُتّاب أسانيد الأحاديث التي يضمنونها في كتاباتهم ،

     أخرج البخاري في صحيحه عدة آلاف من الأحاديث الصحيحة انتقاها من بين مئات الآلاف من الأحاديث التي يحفظها لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية ، ولكنه لم يزعم أبداً بأن الأحاديث التي لم يخرجها غير صحيحة ، ولم يدَّعِ بأن أحاديث كتابه هي فقط الصحيحة دون سواها ، قال البخاري عن ذلك [أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح]  وقال أيضاً [كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر ، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر ، ما عندي حديثٌ إلا أذكرُ إسناده] ، وبلغ عدد أحاديث الصحيح بالمكرر ( 7397) حديثاً ، وأما بغير المكرر فقد بلغت (2602) حديثاً.

     أكمل البخاري كتابه وبيّضه في بُخارَى وسماه الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه ، ويسمى اختصاراً بصحيح البخاري ، وحَرَص على الدقّة والتثبّت في إخراجه ، ثم عرضه بعد ذلك على شيوخه وأساتذته ليعرف رأيهم فيه ومنهم : علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة ، قال الإمام النووي [ اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الامة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف … ].

     لم يأتِ وصف صحيح البخاري بأنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم من فراغ ، فهو من المصنفات الموسوعية الصحيحة ، واتبع فيه البخاري منهجاً علمياً دقيقاً حيث اشترط في قبول الحديث أن يكون الراوي معاصراً لمن يروي عنه وأن يكون قد الْتقى به وسمع منه مباشرة ، وهذا الشرط الدقيق هو الذي حمل العلماء على التسليم للبخاري وتلقيبه بأمير المؤمنين في الحديث وعلى وضع صحيحه في المرتبة الأولى ، هذا بالإضافة إلى الثقة والضبط والعلم وغيرها من شروط الحديث الصحيح ، أما تلميذه الإمام مسلم رحمه الله فاكتفى بشرط معاصرة الراوي لمن يروي عنه ولم يشترط السماع ، لذا فقد وضع العلماء صحيحه في المرتبة الثانية بعد صحيح البخاري.

     والجامع الصحيح ليس هو المصنف الوحيد للإمام البخاري رحمه الله ، فكما أنه أول من صنف في الحديث الصحيح المجرد ، فهو أيضاً أول من ألف في علم الرجال ، وبهذا الشأن يقول البخاري [ لم تكن كتابتي للحديث كما كَتبَ هؤلاء ؛ كنتُ إذا كتبتُ عن رجل سألتُه عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث … ] ، وفي محراب العلم والتأليف للبخاري منجزات عظيمة ، فقد ألف ما يزيد عن عشرين مصنفاً منها الأدب المفرد والتاريخ الكبير ، وهو كتاب كبير في التراجم رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم ، والتاريخ الصغير ، وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ).

     وفي علم الرجال تظهر تقوى البخاري وورعه وإنصافه من خلال كلامه في تجريح وتعديل الرواة ؛ وبالأخص فيمن يضعفه منهم ؛ فإنه أكثر ما يقول : فلان منكر الحديث أو سكتوا عنه أو فيه نظر ، وقلما يقول : فلان كذاب أو كان يضع الحديث ، حتى إنه قال [ إذا قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ ] أي ضعيف.

     ونظراً لأهمية صحيح البخاري فقد اعتنى المسلمون شرقاً وغرباً به عناية فائقة ، فألف العلماء المؤلفات حوله وقاموا بخدمته في جميع جوانبه شرحاً وتعليقاً واستدراكاً وغير ذلك في أكثر من ثلاثمائة وخمسين كتاباً.

     إن التهجم على الإمام البخاري وعلى صحيحه جريمة كبرى ، فهو إمام الأمة وناصر السنة ، قضى من عمره أكثر من عقد ونصف من السنوات مرتحلاً يجوب بلاد الإسلام يجمع الأحاديث الصحاح في دقة متناهية ، وعمل دؤوب وصبر منقطع النظير على البحث وتحرٍ للصواب ، يلتقي العلماء الحُفّاظ والشيوخ ويتلقى عنهم العلم ويغربل ما يتلقاه منهم ، فلم يكن يقبل كل ما يتلقاه كما بينت في هذه المقالة إلا بعد التدقيق والتمحيص ، ولم يكتب في صحيحه إلا ما صح عنده وما ثبت له تماماً صدوره عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الشيخ الدكتور تيسير التميمي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى