مقالاتمقالات مختارة

جمعية العلماء في الجزائر .. الأساس الروحي والفكري

بقلم د. علي الصلابي

 

إن أي جماعة لا تملك دستورًا نظريًا، وقواعد ثابتة تستند إليها محكوم عليها بالفشل، إذ سرعان ما يتسلل الشقاق إلى أفراد الجماعة الواحدة، بسبب التأويلات المتباينة، ولدرء عاقبة تفكك روابط الجماعة، وسدًا لذرائع الاختلاف، وضع الإمام عبد الحميد بن باديس ورفاقه من العلماء المؤسسين العديد من الأصول الفكرية القوية لتستبين الطريق وتتضح معالمه.
ويقول المفكر الاجتماعي الإسلامي محمد المبارك الذي تابع باهتمام الحركة الإصلاحية في الجزائر وفي فرنسا: “إن جمعية العلماء قد أحيت الجزائر، وبعثت فيها عروبتها التي كادت أن تغيب، وإسلامها الذي كاد يُقضى عليه. ولو أن حركات التحرر السياسي في الجزائر سارت بطريق آخر وعلى منهج بعض الهيئات التي أنشئت في جو التأثر بالثقافة الفرنسية، لكانت الجزائر اليوم قطرًا فرنسيًا، ولو أنه استقلالًا ذاتيًا، لكنه استقلال يمحو ذاتيتها ويزيل عنها إسلامها وعربيتها”.

وقد شملت هذه الأصول الفكرية لجمعية العلماء المسلمين في الجزائر أصول الإسلام وقواعده، إذ ضمت أفكار كبرى قام يوسف بوغابة في كتابه “معالم الفكر السياسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائرية: دراسة تحليلية”، بترتيب وتنظيم وتصنيف ما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس ووضعها في مجموعة محاور هي:

المحور الأول.. العقائد وتحتها عدة أصول
العلماء كشفوا حقيقة الإسلام الشاملة لإصلاح الفرد والمجتمع والحاكم والمحكوم، وأبرزوا الوجه الحضاري للإسلام في المحافظة على حقوق الاقليات

– الأصل الأول التوحيد أساس الدين، فكل شرك في الاعتقاد أو في الفعل فهو باطل مردود على صاحبه.
– الأصل الثاني اعتقاد تصرف واحد من الخلق مع الله في شيء ما بشرك وضلال ومنه اعتقاد الغوث والديوان.
– الأصل الثالث بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها والذبح عندها لأجلها والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية، ومضاهاة لأعمال المشركين فمن فعله جهلاً يُعلم، ومن أقرّه ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.

ونلاحظ في هذه الأصول الثلاثة حرص جمعية العلماء على صفاء العقيدة، كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاها السلف بيضاء نقية، وهذا يترجم ما كان سائداً في المجتمع الجزائري من انتشار بناء القباب على القبور، والمغالاة في شيوخ الزوايا والنظر إليهم بعين القداسة المفضية إلى الاعتقاد بأنهم يعرفون الغيب ويطلعون عليه وما شابه ذلك. وجمعية العلماء جاءت لتصحيح أوضاع فاسدة ولم تأتِ لتقيم خصومات مع هؤلاء أصحاب القباب، ولهذا كانت حريصة على اختيار الألفاظ التي صبغت بها هذه الأصول، فلم نجد كلمة تدل صراحة أو تلميحاً إلى التكفير أو الإخراج عن الملة مع هذا الموقف الحساس.

المحور الثاني.. خُصص للتعريف بالإسلام وذكروا تحته أصولاً

– الأصل الأول: الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله وكمّله على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا نبي بعده.
– الأصل الثاني: الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به، ذلك كونه:
أ ـ يدعو إلى الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر جميعاً.
ب ـ يسوّي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين الأجناس والألوان.
ج ـ يفرض العدل فرضاً تاماً بين جميع الناس بلا أدنى تمييز.
د ـ يدعو إلى الإحسان العام.
هـ يحرّم الظلم بجميع وجوهه، وبأقل قليله من أي أحد على أي أحد من الناس.
و ـ يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير.
ز ـ ينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالقتل والإكراه.
ح ـ يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاؤون.
ط ـ إشراك الفقراء مع الأغنياء في الأموال، وشرع لذلك القراض والمزارعة والمغارسة، مما يظهر به التعاون العادل بين العمال وأرباب الأراضي والأموال.
ي ـ يدعو إلى رحمة الضعيف، فيُكفى العاجز ويعلّم الجاهل، ويرشد الضال، ويعان المضطر، ويغاث الملهوف، وينصر المظلوم، ويؤخذ على يد الظالم.
ك ـ يحرّم الاستعباد والجبروت بجميع الوجوه.
ل ـ يجعل الحكم شورى ليس فيه استبداد ولو لأعدل الناس.

فقد تبين من خلال سرد فقرات الأصل الثاني أن العلماء كشفوا حقيقة الإسلام الشاملة لإصلاح الفرد والمجتمع والحاكم والمحكوم، وأبرزوا الوجه الحضاري للإسلام في المحافظة على حقوق الاقليات، والدعوة الصريحة لأن يعاملوا معاملة البر والإحسان، وأن لا تتدخل الدولة والمجتمع الإسلامي في خصوصيات عقائدهم وعبادتهم، وأن الحوار بالحجة والإقناع هو المسلك الوحيد للتعامل مع البشر جميعاً، وأن لغة الإكراه والإجبار أسقطها الإسلام من نظمه وشرائعه، كما أظهروا الجانب الاجتماعي، حيث يتقاسم أغنياء الأمة وفقراؤها ثروات البلاد دون أن يظهر في المسلمين ما ظهر في غيرهم من التفاوت الطبقي، وعلاقة الحاكم والمحكوم في شريعة الإسلام أساسها التعاون المثمر بين الجانبين دون استكبار أو استبداد من السلطة الحاكمة أو ذل وهوان من الجهة المحكومة.

ونستطيع أن نجمل القول في هذه النقاط بألفاظ مختصرة لنحصل على شعار متكامل وهو العدل والإحسان، الحرية، الكرامة الإنسانية، وهذا ما وصلت إليه الحضارة الغربية بعد عمى امتد لقرون. وصلت في نهاية المطاف إلى النقطة التي بدأ منها الإسلام، فحرمت أجيالها الماضين من نعيم الإسلام.

المحور الثالث.. خصص لذكر مصادر الإسلام وجمع سبعة أصول

الأصل الأول: القرآن الكريم هو كتاب الإسلام.
الأصل الثاني: السنة القولية والفعلية الصحيحة تفسير وبيان للقرآن.
الأصل الثالث: سلوك السلف الصالح ـ الصحابة والتابعين وأتباع التابعين تطبيق لهدي الإسلام.
الأصل الرابع: فهم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة.
الأصل الخامس: المصلحة كل ما اقتضته حاجة الناس في أمر دنياهم ونظام معيشتهم وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم مما تقره الشريعة.
الأصل السادس: البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكل بدعة ضلالة.
الأصل السابع: الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ والتحذير لاتباع الشيخ وخدمة دار الشيخ.

وهذه الأصول المذكورة نستطيع أن نوزعها في نقاط لتكون أكثر وضوحاً:
أ ـ وهي مصادر الإسلام المتعلقة بالوحيين: قال تعالى: َ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الحشر: 7]. وقال تعالى: ُ {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]. وقال صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي.

ب ـ تطبيق السلف الصالح: وفهمهم لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير ما يستعان به على تحديد معاني القرآن والسنة وترجيح أحد المعاني على الآخر.

ج ـ الأمور التعبدية يشترط فيها التوقف على ما دل عليه الكتاب والسنة، لأن لا مجال للعقل فيها، وهذا ما نص عليه الفقهاء والمجتهدون بقولهم: الأصل في العبادة التوقف وعدم التعليل.
د ـ إعطاء العقل المجال في البحث عن علة الأحكام ومناط التكليف، ليربط الفروع بالأصول، ويبحث للناس عما يسعدهم في معاشهم خاصة في النوازل المستحدثة، بشرط أن لا يصادم النصوص الشرعية الثابتة بأسانيدها الواضحة في دلالتها، ودون أن يخرق أيضاً أسوار مقاصد الشريعة الإسلامية.

المحور الرابع.. جُعل للحديث عن تفاضل الناس وتحته أربعة أصول

– الأصل الأول: أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لأنه:
أ ـ اختاره الله لتبليغ أكمل شريعة إلى الناس عامة.
ب ـ كان على أكمل أخلاق البشرية.
ج ـ بلّغ الرسالة ومثل كمالها بذاته وسيرته.
د ـ عاش مجاهداً في كل لحظة من حياته في سبيل سعادة البشرية جمعاء حتى خرج من الدنيا ودرعه مرهونة.

– الأصل الثاني: أفضل أمته بعده هم السلف الصالح لكمال اتباعهم له.
– الأصل الثالث: أفضل المؤمنين هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وهم الأولياء والصالحون فحظ كل مؤمن من ولاية الله على قدر حظه من تقوى الله.
– الأصل الرابع: العمل الصالح المبني على التوحيد به وحده النجاة والسعادة عند الله، فلا النسب ولا الحسب بالذي يغني عن الظالم شيئاً.

من هذا المنطلق المعرفي حدد علماء الجمعية رتب القيادة المصطفاة من الله تعالى على قاعدة الإيمان والعمل الصالح، فأول من توافرت فيه هذه الشروط سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال: أنا سيد ولد ادم ولا فخر، ثم يأتي بعده القرون المشهود لها بالخيرية كما في الحديث: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة الصحابة وأنهم فوق الجميع: لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ومن بعدهم تأتي مرتبة المؤمنين المتقين الذين نالوا ولاية الله بالعبادة والمراقبة والمجاهدة.

المحور الخامس.. المنهج العملي للجمعية وتحته أربعة أصول

– الأصل الأول: ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام وما بيّناه منه من الأحكام بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة مع الرحمة والإحسان دون عداوة أو عدوان.
– الأصل الثاني: الجاهلون والمغرورون أحق الناس بالرحمة.
– الأصل الثالث: المعاندون المستغلون أحق الناس بكل مشرع من الشدة والقسوة.
– الأصل الرابع: عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله ثم بقوة الحق والصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة.

بعد اتضاح الرؤية على مستوى الفكر والتصور ختموا الأصول ببرنامج عملي نوجزه في ثلاث نقاط:
أ ـ إن عمل الجمعية يخضع للشريعة الإسلامية المحددة في الأصول السابقة التي تدعو إلى كرامة الإنسان، وتحافظ على حريته، وتعامله بالإحسان، ولن تنظر إلى لونه، أو عرقه، أو لسانه، أو دينه، أو انتمائه.

ب ـ إذا ما أساء العملَ شخصٌ ما، إن كان جاهلاً عُلّم، أو غرّر به فُهم مع الرحمة والشفقة عليه، وإن كان عالماً بسوء ما يعمل مصراً عليه يشدَّد عليه ليُلجم عن تضليل غيره.

ج ـ يظهر الأصل الأخير الفهم الواسع والعقل الراجح والفكر الراشد لعلماء الجمعية الذين رتبوا أولويات المعركة، فإذا ما دخلت الأمة في صراع مع الاحتلال فلا ينبغي أن تنشغل بالخلافات المذهبية التي يستغلها العدو الأكبر، بل إن العلم والحكمة والفهم السليم يستدعي الجميع إلى تناسي كل خلاف للمّ الشمل وجمع الصفوف.

وعلى هذا، ختمت الأصول العشرون بقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يوسف: 108].

______________________________________________________________________

– مراجع:
1. علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري، بيروت، دار ابن كثير، ج2، ص. ص 218 – 226.
2. لطيفة عميرة، سؤال النهضة عند الشيخ عبد الحميد.
3. محمود قاسم، ابن باديس الزعيم الروحي.
4. مصطفى حميداتو، عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية.
5. مطبقاني، عبد الحميد بن باديس.
6. صالح فركوس، دور جمعية العلماء.
7. جريدة البصائر، من جرائد جمعية علماء المسلمين.

 

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى