مقالاتمقالات مختارة

جماعة محمود أفندي.. إرث صوفي عثماني بالقرن الـ21

جماعة محمود أفندي.. إرث صوفي عثماني بالقرن الـ21

بقلم أحمد درويش

بداية أريد أن أبين للقارئ أن مدى تميز جماعة “محمود أفندي” دون غيرها بعدة خصائص وميزات في المجتمع التركي الملتزم المحب للدين والحريص على التمسك به هو الأمر الذي دفعني للكتابة عنها بعدما ساقني الفضول للتعرف على هذه الجماعة عن قرب والتحدث إلى مريديها ومعلميها لفهم أهدافها ورسالتها وطبيعة تكوينها، إلى جانب البحث عن تاريخها في الأرشيف منذ بداية أنشطتها الدعوية حتى يومنا هذا، مما دفعني أيضا للتقصي بشكل أكبر عن الرجل الذي استطاع أن يقلب شكل وجوهر حياة الملايين من الناس في تركيا وخارجها، ففي تركيا تجد مناطق بأكملها بالزي الإسلامي وبتعاليم خاصة يتم تنفيذها بشكل متشابه ومتناغم، لذلك يمكنني القول إنها جماعة دينية تسعى لتعلم الدين وتعليمه من منبعيه ومصدريه القرآن والسنة، كما أنها تتمسك بنسبها للعثمانيين وتفتخر به.

من هو شيخها ومؤسسها؟

ولد محمود أفندي (محمود أسطى عثمان أوغلو) لعائلة مسلمة عام 1929 في أوف بمحافظة طرابزون التركية، وهي مدينة مجاورة لمدينة “ريزا” مسقط رأس الرئيس التركي أردوغان، ونشأ نشأة متدينة، حفظ القرآن الكريم وهو في السادسة، وتلقى علوم اللغة العربية والنحو والصرف واللغة الفارسية على يد الشيخ تسبيحي زاده، ثم درس القراءات وعلوم القرآن على يد الشيخ محمد رشيد عاشق كوتلو أفندي، ودرس علم الكلام والتفسير والحديث والبلاغة والفقه وأصوله، وغيرها من العلوم الشرعية عند الشيخ دورسون فوزي أفندي (المدرس بالمدرسة السليمانية) الذي أجازه في العلوم النقلية والعقلية وهو في سن الـ16 من عمره.

تجربته الدعوية وتوجهه الفكري

صوفي التوجه، نقشبندي الطريقة، حنفي المذهب والفقه، أخذ عن أحمد أفندي مابسيوني شيخ الطريقة النقشبندية الكمشنماونية، حيث كان يقرأ ويدرس على يديه حتى جاء موعد أداء خدمته العسكرية، ليكون على موعد مع شيخ جديد يكمل معه مسيرته العلمية، فقد كانت مرحلة الخدمة العسكرية سببا جديدا لفتح صفحة مشرقة من حياته، فقد حدث فيها اللقاء الأول مع شيخه ومرشده علي حيدر الأخسخوي الذي تعلم منه الكثير ونهل من علمه الغزير.

أمَّ الشيخ محمود أفندي الناس في الصلاة ودرَّس الطلاب في مسجد قريته، وخصص 3 أسابيع سنويا يطوف فيها أرجاء تركيا لتعليم الناس ودعوتهم، وقام بعدة جولات دعوية وتعليمية في عدة دول، منها ألمانيا والولايات المتحدة، وعيّن بعد ذلك إماما لمسجد إسماعيل آغا في إسطنبول عام 1954 وظل فيه حتى أحيل إلى التقاعد عام 1996، وكان يقوم بالتدريس والوعظ في إسطنبول ويجذب الكثير من الطلاب والمريدين، ونتيجة لذلك فقد قام منهجه على الدعوة إلى الله والإرشاد والتبليغ لجميع فئات المجتمع بمن فيهم مسؤولو الدولة بطريقة سلسة وبشكل يبين لهم الحق من الباطل، وقبل وقوع الانقلاب الثاني في 12 سبتمبر/أيلول 1980، وأثناء الصراع الواقع بين أحزاب اليمين واليسار خلال فترات الفوضى الأمنية في البلاد في بداية الثمانينيات كان ينادي ويقول “إن واجبنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبنا هو إحياء الناس وليس قتلهم”.

صراعه مع العسكر والعلمانية

لكثرة تأثيره على الجمهور التركي تعرض للمضايقات من قبل جنرالات العسكر والجمهوريين (حزب الشعب الجمهوري)، خاصة بعد انقلاب 1960 ودخول البلاد حالة الطوارئ، وحكمت عليه الإدارة العسكرية بالنفي إلى مدينة إسكي شهير (وسط تركيا)، لكن القرار لم يطبق، وكان مفتي إسطنبول وقتها صلاح الدين قايا في مقدمة المدافعين عنه، وفي سنة 1982 اتُهم محمود أفندي بالضلوع في اغتيال مفتي منطقة أسكودار الشيخ حسن علي أونال، وبعد سنتين ونصف حكمت المحكمة ببراءته من التهمة، وفي عام 1985 أحيل إلى محكمة أمن الدولة بسبب خطبة ألقاها بحجة أن خطبه ودروسه تهدد مبدأ علمانية الدولة، لكن المحكمة قضت ببراءته.

في عام 1998 تم قتل صهره الشيخ خضر علي مراد أوغلو غدرا في مسجده “إسماعيل آغا”، وفي عام 2006 قُتل الشيخ بيرم علي أوزتورك (من أكبر طلاب الشيخ وصهره ومعيد درسه) وهو يلقي درسه على كرسي الوعظ والإرشاد في جامع “إسماعيل آغا” أيضا، وفي عام 2007 بقرب مكان إقامته الجديدة في حي تشاووش باشا بإسطنبول أطلق على سيارة الشيخ محمود أفندي الرصاص وعلى المستشفى الذي كان فيه يتلقى العلاج، في محاولة لاغتياله لكنه لم يصب بأذى.

حجم تأثيره وعدد مريديه

في عام 2005 حدثت واقعة مثيرة وعجيبة في الأراضي المباركة بالحرم المكي تحدثت عنها الصحافة التركية والعالمية، ففي يونيو/حزيران من هذا العام حدث أمر غريب في المسجد الحرام بمكة المكرمة لم يقع مثله منذ عدة قرون، حيث دخل الشيخ محمود أفندي إلى ساحة الطواف لأداء العمرة ومعه 30 ألف مريد يملؤون ساحة الطواف وكلهم يلبون ويدعون الله بصوت واحد.

وفي وقت كان من النادر أن ترى فيه قارئا للقرآن بالأحرف العربية وفي مدة زمنية تراوحت بين 40 و50 عاما، وعلى الرغم من كونها فترة قصيرة فإنها كانت كفيلة بتخريج آلاف من الحفاظ والمعلمين الرجال والنساء وتدريب عشرات الآلاف من الطلبة ونشر الوعي الإسلامي لدى الملايين في جميع أنحاء تركيا.

احتفاء عالمي وتكريم رمزي

في عام 2010 توجه من 42 دولة 350 عالما إلى مدينة إسطنبول قادمين من أجل المشاركة في حفل تكريم وتقديم جائزة الندوة الدولية من أجل خدمة الإنسانية لفضيلة المربي الشيخ محمود أفندي النقشبندي، وجرى له حفل تكريم في إسطنبول في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2010، وقدمت إليه جائزة الإمام محمد بن قاسم النانوتوي، وهي جائزة تمنح للشخصيات التي تترك أثرا في مجال الدعوة الإسلامية.

السمت الخاص للجماعة والمميز لها عن غيرها

تتميز جماعة محمود أفندي عن غيرها بابتعادها التام عن العنف، فرغم كثرة المريدين وعدد المضايقات فإن هذه الجماعة حافظت على عدم انزلاقها في أي أعمال عنف أو تشكيل تنظيم مسلح طوال فترة مواجهتها مع الدولة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وإلى اليوم، كما تتميز الجماعة بزيها الخاص الذي يرتديه الجميع (رجال ونساء وأطفال صغار وشيوخ كبار)، فالملابس النسائية السوداء كما يسمونها “كارزاف” (Çarşaf) علامة مسجلة لهم، تُلبس بطريقة خاصة فلا تظهر غير العيون والأنوف من الملابس السوداء الواسعة، أما الرجال فإنهم يشتهرون بلباس إسلامي وبطراز عثماني حيث يرتدون القميص الطويل والسروال العريض وفوقهما جبة تضفي الكثير من الوقار للملابس، ويتميزون أيضا بتغطية الرؤوس وارتداء عمامة بأشكال مختلفة.

ويتميزون أيضا بحرصهم على اتباع المذهب الحنفي وتطبيق كل ما فيه، فلا يأكلون الطعام البحري باستثناء السمك، ولا يقبلون بالمسح على الجوارب حتى في البرد القارس، وغيرها من الأمور التي يطبقونها، ويتكلمون العربية الفصحى، فهم يدرسونها في مناهجهم ويتعلمون بعلومها من صرف ونحو وبلاغة، وهذه ميزة فريدة تحسب لهم وتجعلهم أكثر قدرة على التأثر والتأثير بالعرب المسلمين وأكثر فهما للدين من غيرهم من الجماعات، لأنهم يتقنون لغة القرآن الكريم.

ينتشرون في ربوع تركيا وأكثر مكان يميز انتشارهم في إسطنبول هو الشوارع الخلفية لجامع السلطان محمد الفاتح وما حوله، وتحديدا في منطقة “علي العتيق” حيث ستندهش بمنطقة من نوع آخر، مختلفة بشكل كبير عن بقية إسطنبول، منطقة ذات طابع ساحر ومختلف، وتحديدا عند جامع يتوسط ذلك الحي على بوابته منقوش بخط عثماني “مسجد شيخ الإسلام إسماعيل آغا” في ذلك الحي العتيق، وبينما تشاهد الشارع الرئيسي له يزدحم بالمكتبات ومحلات بيع الملابس الخاصة بأهل ذلك الحي والعطور والبخور والمسابح والتمور ستشعر وكأنك في أحد أسوق المدينة المنورة.

ثقلها السياسي وقدرتها على التأثير

مقتل أبرز شيوخ الجماعة ومحاولة اغتيال الشيخ المؤسس لها دليل واضح على حجم التأثير الهائل على الملايين من الأتراك والمسلمين، وتتجسد هذه القوة بشكل آخر عبر الزيارات المتكررة لقيادة الصف الأول في الدولة التركية مثل الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو لطلب الدعم من الشيخ محمود أفندي في عدة انتخابات ماضية، مما يبين للمتابع حجم تأثير هذه الجماعة، وهو ما يظهر أيضا حجم ما استطاع محمود أفندي أن يحدثه من تأثير في ظل الدولة التركية التي كانت ضاربة الجذور في العلمانية على مدى عصور بحكم سيطرة العسكر وحمايتهم لمبادئها والتي كانت عنيفة جدا تجاه الإسلاميين.

كما أنها هي الجماعة الصوفية التي ساهمت في فشل محاولة الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016، وكان الأمر اللافت والجدير بالإشادة هو مشاركة أفراد الجماعة إلى جانب بقية أطياف الشعب التركي وتلاحمهم معهم من أجل الحفاظ على مكتسبات الوطن والإبقاء على الحكومة الشرعية التي جاءت عبر صناديق الاقتراع، حيث سارع العديد من أفراد الجماعة بالنزول إلى الشوارع والميادين بعد دعوة الرئيس التركي، وشهدت منطقة الفاتح إقبال العديد منهم بأعداد غفيرة وصمودهم أمام القوات الانقلابية، وهو أمر يحسب لجماعة “محمود أفندي” بشكل خاص ولغيرها من الجماعات الصوفية في تركيا بشكل عام، لأن الشائع عن الجماعات الصوفية في دول الشرق الأوسط هو استكانتها وحفاظها على عزلتها في المسجد دون الاهتمام بما يحل بالبلاد من اعتداءات ومحاولات للنيل منها وإعادتها لعصورها المظلمة.

يذكر أن أعداد منتسبي جماعة “محمود أفندي “أو جماعة “إسماعيل آغا” كما تعرف أيضا وفق جريدة “الزمان” التركية هي أكبر بكثير من أعداد منتسبي جماعة فتح الله غولن، كما أن النسبة المئوية للوزن الانتخابي لهذه الجماعة تقدر بما يفوق 2 أو 3%، وهي نسبة مؤثرة في أي استحقاق انتخابي وليست بالقليلة.

منهجية الجماعة العلمية

تتمركز منهجية الجماعة في استغلال أموال الوقف المنتشرة في إسطنبول وتركيا وغيرها بصرفها على حلقات التعليم التي تديرها مشيخة الجماعة بطريقة احترافية، حيث يدخل الطالب بمراحل تعليم ضمن بيئة خاصة تجعل الطالب متأثرا بالبيئة إلى جانب تأثره بالمادة العلمية، ويتم الإنفاق على كل طالب مستمر وفقا للشروط التي يضعونها من مأكل ومشرب وملبس لحين إكمال دراسته، وقد يعين مدرسا في نفس مدارسهم الدينية، وهذه المدارس مفتوحة لكل من الجنسين حيث يوجد قسم خاص بالرجال وقسم آخر خاص بالسيدات.

يتخرج هذا الطالب، وأبرز ما يحمله في داخله عقيدة الولاء للجماعة ومريديها، ولكل من يحمل همَّ الدين ويتحرك لأجله، فتجد الأمر يصل لأبسط الأمور، حيث يحرص أبناء الجماعة على شراء احتياجاتهم مثلا من أصحاب الشركات الذين يولون أهمية للدين ولا سيما إن كان صاحب هذه الشركة تابعا للجماعة أو مقربا منها، فيما لا يشترون من صاحب شركة أخرى خاصة إن كان يُعرف عنه عدم اهتمامه بالدين أو محاربته له، ووفق هذه المنهجية فإن وجود أحد ما ضمن هذه الجماعة كداعم لها سيمده بالدعم من ملايين الناس التي تعتقد أنه جزء منها لا ينفصل، كما أن البعد الحضاري لا يتم إغفاله، حيث يشعر أبناء هذه الجماعة المنتشرون في أنحاء الجمهورية التركية بانتمائهم الإسلامي الحنفي النقشبندي، وبأنهم أحفاد الشيخ آق شمس الدين شيخ السلطان محمد الفاتح ويفتخرون بذلك، ويتضح ذلك أيضا في تأثرهم بصوفية العثمانيين.

كلمة أخيرة

إن هذه الجماعة قد تركت بصمتها في الكثير من أبناء الشعب التركي وما زالت تعمل جاهدة على نشر العلم والقيام بالدعوة إلى دين الله ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وإن تاريخ جماعة كهذه ليدعو إلى وقفة جادة للتأمل حولها، حيث واجه مؤسسها الكثير من المضايقات ولكنه استكمل طريقه وكلل الله جهوده بأن أصبح تعداد مريديه ممن يريدون الالتزام بدين الله يقدرون بالملايين، ولذلك فإنه يسعني أن أقول في هذا المقام إن هذه الجماعة وتجربتها تحتاجان لكثير من البحث والدراسة، خاصة في ما يتعلق بتجربتها في إدارة أموال الوقف التي تدر عليها أموالا مكنتها من تأسيس مراكز تعليمية ودعم حلقاتها التعليمية.

المصدر: مدونات الجزيرة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى