مقالاتمقالات مختارة

جماعة كفتارو.. قراءة في وصيّة الشّيخ أحمد ودلالاتها

جماعة كفتارو.. قراءة في وصيّة الشّيخ أحمد ودلالاتها

بقلم محمد خير موسى

بدأ الشّيخ كفتارو يشعرُ بدنوّ أجله وهو يراقب ما يجري خلف الكواليس من صراعاتٍ بين أبنائه ومريديه، فما كان منه إلّا أن كتب وصيّته وجمع كبار مشايخ الجماعة ورجال الصفّ الأوّل فيها وهم بضعة وعشرون شخصًا فقرأ عليهم وصيّته وأخذ منهم العهد على تنفيذها بعد أن أشهدهم عليها يوم الرّابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل “نوفمبر” من عام 2002م.

  • الحشدُ العاطفيّ والتذكيرُ بفضله على الجماعة

لم تكن وصيّة الشّيخ أحمد كفتارو وصيّة تقليديّةً بل أفصحت عن الكثير من مخاوفه وتضمّنت آليّاتٍ ظنّها كفيلةً بالحفاظ على جماعته من بعده.

حرص الشّيخ كفتارو في البداية على أن يذكّر مريديه بفضله على الجماعة وأنّه أفنى حياته لأجل هذه الجماعة، وأنّ هذا الفضل يستحقّ الوفاء منهم له في العمل للجماعة متعاضدين متآخين، ولم يستطع إخفاء شعوره بالخوف عليها ممّن وصفهم بأصحاب الأنا المتضخّمة والمصالح الشّخصيّة، فقال:

“إنّه ليس من أمرٍ يشغلني في ليلي ونهاري وعلى كلّ أحوالي بعدَ أمر الإسلام في شرقِ الأرض وغربها إلّا أمركم، وليس من حالٍ يؤلمني بعد حال المسلمين إلّا حالكم؛ به أفكر ولأجله أعمل، وكلّي أملٌ بالله تعالى أن يلهمكم الصّواب لكيفيّة التّآلف والتّحابب والتّعاضد والتّعاون، وأن ترعوا جهدي فيكم وأن تحفظوا عناء حياتي من أجلكم في وحدتكم وألفتِكم ومحبّتكم، وذلك أمرٌ لا يقوم به مع بقيّة إخوانه إلّا من كان محبًّا صادقًا تلاشَت نفسٌه وانعدَمت أنانيّته”

ويعودُ بعد يسيرٍ من الأسطرِ مصرّحًا بأن أهمّ دلالات الوفاء له وحبّه هي حفظ عهده هذا وعدم تفريق كلمة الجماعة.

” إنَّ الحفاظَ على تآخيكم حفاظٌ على حبّكم لي وإنّ وفاءَكم لبعضكم وفاءٌ لي فمن حافظَ على ذلك فهو المحبّ والمريدُ الصّادق الذي رعى ذمّتي وحفظَ عهدي فأنَا منه وهو منّي في الدّنيا والآخرة وأسألُ الله أن يكونَ معي تحت راية سيّدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله يوم القيامة “يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلّا مَن أتى الله بقلبٍ سليم” فسلّموا قلوبكم من كلّ ما يفرّق جمعَكم وكلمتَكم”

إنّ حشد الشّيخ كفتارو لهذه المعاني في الوصيّة يدلّ على حجم الخوف الذي يحملُه في قلبه ويكنّه في نفسه على الجماعة التي جعل لها وجودًا حقيقيًّا من أن تتفرّق وتتصارع من بعده، وقد عزّز مخاوفه تلك معاينته لصراعات الجماعة التي كانت تجري في الكواليس، ورؤيته ألغامًا في طريق الجماعة كان يعلم جيّدًا أن وجوده على قيد الحياة يحول دون انفجارها فكانت كلماته محاولةً في تأخير تفجيرِها إلى أبعد مدى بعد رحيله من هذه الدّنيا.

  • التّرهيبُ من مخالفة الوصيّة والبراءة من المخالف

بين عبارات التّحشيد العاطفي القائم على استحضار معاني الحبّ والوفاء وولاء المريد لم يستطع الشّيخ أحمد أن يكبت التّعبير عن شعوره بوجود من سيعمل على شقّ صفّ الجماعة لأجل مصالحه الشّخصيّة الضّيّقة، فقال في موضع من الوصيّة:

“ولن يتعبَكم ويضني مسيرتَكم ويؤذن بانقطاع سلك عقد أخوّتكم إلّا من كانت الأنا همّه ونفسُه شغلَه؛ يعملُ لذاته على حسابِكم وعلى حساب العمل الذي أفنيت عمري لأجله، يسعى لمصلحته على حساب مصلحة الدّعوة التي ما حييتُ مجاهدًا إلّا من أجلها ولا أسهرتُ ليلي وأجهدتُ نهاري وأضنيتُ جسدي حلًّا وارتحالًا إلّا لسببها”

وفي موضعٍ آخر يصل الأمر بالشّيخ كفتارو إلى إعلان البراءة ممّن يستأثرُ بالعمل بطريقةٍ تزعزع تماسك الجماعة، فيقول:

“اعلموا أنّ الذي يخرج عن الجماعة ويستأثر بالعمل لنفسه ظاهرًا أو باطنًا فليس منّي ولستُ منه ولن يكون بيننا لقاء يوم القيامة؛ يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوه”

وهذا التّنقّل بين الحشد العاطفي لمعاني الحبّ والوفاء والتّرهيب والتّهديد بالبراءة يعكسُ قلقًا كبيرًا عند الشّيخ كفتارو على الجماعة من بعده من جهة، وهو تمهيدٌ لما سيوصي به ممّا يتعلّق بخلافته على رئاسة المجمع من بعده لأنّه يعلم أنّ ذلك سيفجّر خلافاتٍ حادّة بين مريديه.

  • توريث الابن صلاح الدّين على رئاسة المجمّع

تصلُ الوصيّة إلى أهمّ نقطةٍ فيها وهي العهدُ من بعد الشّيخ كفتارو لابنه صلاح على رئاسة المجمع الذي يمثّل يومها معقل الجماعة ومركزها الرّئيس، فجاء في الوصيّة:

” إنّي أوصي أن يكون ولدي صلاح الدين مسؤولًا من بعدي عن العمل وأن تساعده لجنةٌ استشارية مكوّنة من: الشّيخ بشير الباني، الشّيخ رجب ديب، الشّيخ رمضان ديب، الأستاذ محمد خير الصّباغ، الحاج صابر حمشو، الأستاذ مهنّد علّوش، والأستاذ محمّد غسّان الجبان”.

ولم يترك الشّيخ كفتارو أمر هذه اللجنة الاستشاريّة للاجتهاد من بعده حتّى لا يدخل المريدون في صراع الصّلاحيّات، فحدّد لهذه اللجنة توصيفًا وظيفيًّا ومهام عمليّة لا تتجاوزها، دون أن ينسى التأكيد على إلغاء جميع المجالس المشكّلة قبل وفاته ليكون لابنه صلاح الدّين فرصة في إعادة صياغة المشهد على وفق ما يناسبه؛ فقال:

” وتقوم هذه اللّجنة بما يلي:

  1.  تقديم الدّعم اللّازم لولدي صلاح الدّين فيما يخصّ العمل.
  2. التّشاور في اختيار مجلس إدارة الجمعيّة.
  3.  التّشاور في رسم الخطوط الأساسيّة للعمل لما فيه المصلحة العامّة.
    كما تُلغى جميع اللّجان والمجالس المشكّلة سابقًا”.

كانت هذه هي النّقطة الأهم في الوصيّة والتي تجسّد التّوريث الدّينيّ الذي ساد وما يزال في عموم المدرسة الدّينيّة السّوريّة لاسيما الصّوفيّة منها بشقيّها، الصّوفيّة الطُّرقيّة، والصّوفيّة العلميّة، على أنّه في الصّوفيّة الطُّرقيّة أشد ظهورًا وتجسُّدًا.

كما أنّها النّقطة الأهمّ لأنّها القنبلة الموقوتة التي ستنفجر فور وفاة الشّيخ كفتارو وتُدخِل الجماعة في أتون صراعاتٍ حذّر منها الشّيخ كفتارو وتخوّف منها في وصيّته.

ولم ينسَ الشّيخ كفتارو أن يذكّرهم بأنّ توريثه لابنه صلاح الدّين هو ذمّته وعهده الذي يجب عليهم أن يحفظوه ويرعوه، وأن لا يختلفوا معه فيشمتون به الأعداء والخصوم ويسقطون من أعين النّاس بعد سقوطهم من عين الله ورسوله، فيقول:

“وارعوا ذمّتي واحفظوا عهدي في أخيكم ولدي صلاح الدّين الذي أسأل الله أن يوفقه لما فيه خير الدّين وما ذلك على الله بعزيز، فكونوا معه والتفّوا حولَه وإنّي لأرجو الله له ولكم.

واعلموا أنّكم طالما كنتم جميعًا فلن يتجرّأ عليكم أحدٌ ومتى استخفَفتم ببعضِكم واستهنتُم بجماعتكم هنتُم على الآخرين وسقطّتُم من عيونِهم بعد أن تكونوا قد سقطتم من عين الله وعين رسوله.
وإن حدث بينكم أمرٌ فسارعوا إلى رأبِ الصّدع ولا تنتظروا أطرافًا أخرى تدخل لإصلاح ما بينكم فأنتم أولى بذلك”.

  • الوصيّة بالتّحالف مع السّلطة الحاكمة

لم يغب عن الشّيخ كفتارو أن يضمّن الوصيّة دعوته إلى الالتزام التّام بنهج النّظام الحاكم الذي يقوده بشّار الأسد، فقال:

“ووصيّتي لكم الالتزام التّامّ بمنهج سيادة الرّئيس بشّار الأسد وحكومتِنا الوطنيّة لما فيه خير الوطن ومصلحته”.

وهذه الوصيّة تأكيدٌ على المنهج التّصالحيّ والتّحالفيّ مع النّظام والذي انتهجه الشّيخ كفتارو منذ انتخابه مفتيًا عام 1964م، وهي أيضًا رسالةٌ باتّجاهين اثنين؛ باتّجاه السلطة الحاكمة لتطمينها باستمرار التّحالف بين الجماعة والنّظام الحاكم وأنّ هذا التّحالف لن يتأثّر برحيل الشّيخ كفتارو، ولكسبِ ودّ النّظام في دعم صلاح الدّين في مهمّته القادمة برئاسة المجمّع.

وباتّجاه المريدين بضرورة عدم إدخال الجماعة في أيّة مواقف سلبيّة مع النّظام يمكنها التّشويش على عمل الجماعة داخل سوريا وخارجها.

  • ما الذي غاب عن الوصيّة؟

أهمّ ما غاب عن وصيّة الشّيخ كفتارو هو توريثه للطريقة، فهو شيخ الطّريقة الخالديّة النقشبنديّة والأصل أن يعهد لخليفة من بعده يكون شيخًا لهذه الطريقة، غير أنّه لم يفعل وغاب ذلك عن وصيّته التي تضمّنت أدقّ تفاصيل توريث رئاسة المؤسّسة والمجمع.

من الواضح تمامًا أنّ الشّيخ كفتارو لم يجد في ابنه صلاح السّمت المشيخيّ المناسب لوراثة الطريقة، فهو أقرب إلى الشّخصيّة الإداريّة منها إلى السّمت الصّوفي الطّرقيّ فلم يورّثه مشيخة الطريقة.

ولكن لماذا لم يورّث الشّيخ كفتارو مشيخة الطّريقة إلى أحد المقرّبين منه كالشّيخ رجب ديب والشّيخ رمضان ديب والشّيخ بشير الباني؟

هنا لا بدّ من لفت النّظر إلى أنّ جماعة الشّيخ أحمد كفتارو لا تحمل أيّة تراتبيّة أو هيكليّة تنظيميّة ولو كانت بسيطة في بنيتها، بل هي تقوم على نظام الأجنحة مع مركزيّة مطلقة لشيخ الطريقة.

وكان في جماعة كفتارو جناحان رئيسيّان، هما جناح الشّيخ أسامة الخاني، وجناح الشّيخ رجب ديب.

كان الشّيخ أسامة الخاني يتميّز بعقليّة تنظيميّة واستطاع أن يؤثّر في الجيل الثّاني والثّالث من مريدي الجماعة من جهة العقل التّنظيمي والإداري، غير أنّه ترك الجماعة عام 1991م بعد صراع محتدمٍ مع محمود كفتارو؛ ليبقى الجناح الأقوى في الجماعة هو جناح الشّيخ رجب ديب وقد كان مغرقًا في التّصوّف الطّرقيّ المعتمد على المنامات والكرامات وسيلةً لتزكية النّفس.

لم يعهد الشّيخ كفتارو للشّيخ رجب ديب أو لمن هو مثله في أسلوبه من مشايخ الجماعة لسببين حسب اعتقادي:

الأوّل: عدم اقتناع الشّيخ كفتارو بأهليّة أيٍّ من مشايخ الطريقة من مريديه بقدرتهم على خلافته في الطّريقة التي عمل على إخراجها من نطاق المحليّة إلى مجالات واسعة في عددٍ من دول العالم.

الثّاني: الحفاظ على مركزيّة ابنه صلاح الدّين في الجماعة من خلال رئاسة المجمّع، فوجود شيخ للطّريقة يعيّنه الشّيخ كفتارو سيضعف مركزيّة صلاح الدّين ويكون عرضةً لتدخّل شيخ الطريقة في عمله وتأثيره عليه، ومركزيّة شيخ الطريقة هي الأقوى في الفكر الصّوفي الطّرقيّ.

  • أين الوصيّة اليوم؟

كانت وصيّة الشّيخ كفتارو بعد وفاته تتصدّر مجمع الشّيخ أحمد كفتارو محفورة على لوحة رخاميّة كبير، ومنشورة في موقع المجمع وصفحاته المختلفة.

تختفي الوصيّة اليوم فلا هي في المجمع ولا في موقعه الرسميّ ولا يتحدّث عنها أحد من مريدي الشّيخ وأتباعه إلّا تهامسًا في الغرف المغلقة.

فلماذا اختفت الوصيّة؟ وما هي تفاصيل الصّراع الذي حدث عقب وفاة الشّيخ كفتارو؟ وما هي قصّة وثيقة الأستاذ غسّان الجبّان؟ ولماذا اعتقل صلاح الدّين كفتارو؟ وما هو دور اللّواء هشام بختيار وأجهزة أمن النّظام في كلّ ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.

(المصدر: سوريا تي في TV)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى