مقالاتمقالات مختارة

“جريمة” محمد مرسي

“جريمة” محمد مرسي

بقلم حامد عبد العظيم

نعم، لقد ارتكب الرئيس الشهيد محمد مرسي جريمة نكراء في عُرف “الدولة المصرية”، هذه الدولة التي بدأت تتأسس مع انقلاب عصابة من الضباط والعساكر في يوليو ١٩٥٢، وانتقل فيها الإقطاع من حفنة من الأغنياء إلى شرذمة من العسكر الذين يتوارثون البلاد كأنها عقار منذ ذلك الحين. إن جريمة مرسي الكبرى أنه أصبح رئيسًا مدنيًا عاديًا لمصر فجأة ساحبًا البساط من تحت أرجل ورثة دولة يوليو من القيادات الفاسدة بالمؤسسة العسكرية، وأنه جاء باختيار شعبي، مما يقضي على نفوذ هؤلاء الشرذمة ويقضي على فلولهم تمامًا على المدى القريب.
الرئيس المدني يشكل خطورة كبيرة على دولة العسكر خاصة إن كان رجلًا نزيهًا، فهو يعني داخليًا توزيعًا عادلًا للثروة، ومحاصصة عادلة للفرص الاقتصادية والاستثمارية، وعدالة اجتماعية، ولا شك أن هذا هجوم صريح على مملكة العسكر الاقتصادية التي يقف فيها الضباط كأباطرة الاقتصاد مستحوذين على نصف الاقتصاد المصري تقريبًا.
رئيس مدني نزيه يعني ضمان حرية الرأي والصحافة والإعلام مما يؤدي إلى فضح أباطرة الفساد والإفساد، والقضاء على قنوات الفتنة والعهر والضلال الفكري، رئيس مدني شريف يعني أن تخنق يد العدالة رقاب اللصوص الكبار من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال. رئيس من خارج عصابة العسكر يعني محاسبة رموز “الدولة المصرية” على عشرات السنوات من التدمير الممنهج للبلاد، ويعني فتح الملفات السوداء ومهاجمة عش الدبابير ونقل معركة الحرية والاستقلال إلى أرض أعدائها الحقيقيين.
هذه جانب من جوانب “جريمة” محمد مرسي..
أما الجانب الآخر والأهم فهو أن الرئيس الشهيد بإذن الله محمد مرسي قد تهدد “هوية الدولة المصرية”، وهي التي يذكرها كثيرًا عدو الله السيسي وسحرة فرعون من الإعلاميين والقضاة وبقية العملاء، والمقصود بها في الحقيقة هو “هوية دولة العسكر ودولة يوليو”، وليست هوية مصر التي فتحها عمرو بن العاص واستمرت تحمل راية الإسلام والعروبة طيلة قرون مترامية، “هوية الدولة المصرية” التي هددها مرسي هي الدولة القومية الوظيفية التي أنشأها الغرب ودعمها لتؤدي وظائف محددة، أهمها ضمان انفصال تام لكل قُطر من الأقطار عن الجسد الإسلامي والأمة الإسلامية والإبقاء على هذا الانفصال وحراسته عن طريق القوة العسكرية؛ ليَحول دون تحقيق أي مستوى من الوحدة الإسلامية من جديد، مما قد يشكّل خطورة على الغرب ومصالحه في الدول الإسلامية التي يستنزف خيراتها ويسيطر على مقدراتها.
الحرب ليست على جماعة الإخوان المسلمين كما يصورون، ولكنها حرب على كل من ينادي ويعتقد ضرورة الوحدة السياسية للأمة ويعمل من أجل أن تعود الإمبراطورية الإسلامية من جديد لتبتلع بداخلها كل عدو للإنسانية وكل محارب للإنسان وكل ظالم.
السيسي وأعوانه في تاريخنا مثل عملاء الصليبيين، ودورهم المنوط بهم في هذا العصر هو القضاء على أي نبتة إسلامية أو أي مقدمات مشاريع تحررية قد تقودنا لنمتلك قرارنا ونتحرر من التبعية للصليبيين الجدد (أمريكا ومن والاها)، وأي ثورات وانتفاضات قد توصلنا كشعوب مسلمة لنختار ما نريد من شكل الدولة ومقوماتها، ولا شك أنها ستكون إسلامية فلن تشك الشعوب لحظة في اختيار الإسلام والاستقلال (بعيدًا ممن تربوا تربية غربية).. هذا سيجعل الوحدة الإسلامية وتكوّنها مسألة وقت لا أكثر.
وظيفة السيسي وأمثاله من خونة الخليج والشام وكل عملاء الغرب أن يقضوا على أي مشاريع تحررية، إن حصولنا على الحرية هو خط أحمر لدى أميركا وأوروبا والصهاينة.. لابد أن تفهم أيها القارئ ذلك وأن تراه رأي العين.. هذه حقيقة المعركة.. هذا بيت القصيد.. هذه هي طبيعة الحرب القائمة..
كل من يسعى إلى الاستقلال عن الغرب، وكل من يسعى إلى التخلص من التبعية ولو على مدى بعيد وبصورة تدريجية بطيئة، سيكون محارَبًا بشدة، فلو جَمع إلى ذلك التصور الإسلامي والفخر بالحضارة الإسلامية العريقة والتمسك بالرفض والمقاومة الصلبة.. سيكون أشد وأخطر من مليون قنبلة نووية..
ولكننا -وببشرى رسول الله- على وشك الخروج من الفلك الغربي وإقامة دولة الحق والعدل، وأرى ذلك بعين اليقين، فهذه المحاولات الإسلامية المتكررة في الشرق والغرب وهذه المقاومة على كافة الأصعدة ما هي إلا سعي دؤوب ليقوم المارد الإسلامي من سباته وينبعث شامخًا من جديد، إنها مرحلة إزالة الصخور والحجارة وتكسيرها شيئًا فشيئًا للخروج من تحت الركام والأنقاض من جديد، وهذا يتطلب عشرات السنوات من الكفاح والصبر بشرط أن يثبت كل فرد على ثغره ولا يُدخل منه أحدًا.
إن جيل الحرية والاستقلال والإسلام يتكون الآن، فنحن أشبه بجيش عرمرم بأعداد غفيرة، لكنه أعزل إلا من أسلحة بيضاء، ورغم ذلك يتجه بأقصى سرعة نحو عدو مسلح فيفتك عدوه بمقدمته، ولكنه يفاجأ بأعداد لا حصر لها فيتراجع خطوة خطوة إلى الوراء حتى تنفذ ذخيرته ويتهاوى جهده فيفتك به جيشنا بالأيدي العارية والأسنان الطاحنة والأسلحة البيضاء. وهذا لا يعني بالطبع أن نظل أمة عزلاء بلا قوة، بل هو أمر من الله سبحانه وتعالى لا مراء فيه: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”. وليس المواطن الأميركي أفضل منا إذ ينص الدستور على حقه في امتلاك السلاح! ولا أطفال الصهاينة أفضل من أطفالنا إذ يحرص آباؤهم على تدريبهم على استخدام السلاح الناري منذ الصغر!
كل فرد منا ينبغي أن يكون على ثغر بالضبط كما فعل الرئيس الشهيد مرسي، فقد ثبت على ثغره وتحمل المعاناة والألم والمرض وقاوم المغريات وحياة الراحة ولم يسمح بأن ينفذ من ثغره أحد، إلى أن لقى الله تعالى صابرًا محتسبًا بعد أن شكّل صخرة كؤودًا عصية على الكسر والتفتيت، ونحسبه “رجلًا” من الرجال الذين ذكرهم مالك الملك في قوله: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا”.
وهنا نقطة مهمة للغاية، إن الكثير من أبناء التيار الإسلامي بحاجة إلى أن يراجعوا أنفسهم فيما يتعلق بتصورهم للمشروع الإسلامي، فهو ليس تطبيق الحدود الجنائية من قطع الأيدي والرجم والجلد… إلى آخره فقط، فهذا جزء هامشي للغاية من المشروع الإسلامي، المشروع الإسلامي هو مشروع امتلاك الإرادة والحرية، هو أن نمتلك قرارنا وبلادنا، ونتحرر من التبعية لرأس الشيطان أميركا وأعوانها الأوربيين الذين يشكلون جيش الصليبيين المعاصر لكن بوجوه جديدة، فبدل راية الصليب يرفعون راية الديمقراطية وبدل درع الصليب يحتمون بحقوق الإنسان والحرية والمفاهيم الزائفة..
المشروع الإسلامي مشروع مقاومة للصهاينة وجهاد للغرب الكافر ممن يعادوننا ويحاربوننا دون غيرهم، فهذا لا يقتضي معاداة كل غربي مسالم، فالشعوب الغربية محط دعوتنا ومعاملتنا الحسنة، ولكن المقصود الحكومات التي تعادينا ولديها عقيدة سياسية يتوارثونها ضد الإسلام والمسلمين، وهؤلاء شعوبهم ضحية لهم مثلنا تمامًا..
إن مشروعنا مشروع جهاد ومقاومة واستقلال وحرية وعزة وتمكين.
لقد قال عدو الله السيسي مبررًا انقلابه في أول تصريح له لواشنطن بوست “إن مرسي كان ينوي تكوين إمبراطورية إسلامية”.
إنه عميل قذر يتبنى الرؤية الغربية التي ترى أن الدولة القومية العلمانية هي حائط الصد الضروري لمنع قيام أي اتحاد إسلامي، وهذا يتلاقى مع مصالحه ومصالح حفنته من مفسدي العسكر، وقد عمل الاستعمار الغربي -المباشر وغير المباشر- على تفكيك الأمة منذ عشرات السنوات حتى لا تتمكن من تحقيق أي شكل من أشكال الوحدة في أي مرحلة تاريخية بواسطة هؤلاء العملاء القوميين من أمثال هذا الكلب وأشباهه من حكام العرب الخونة.
فالانقلاب العسكري على مرسي رحمه الله جاء للحفاظ على المصالح الغربية وعلى الهيمنة الغربية ويخدم بوضوح بقاء الهيمنة الغربية في المنطقة ويحارب أي تحرر حقيقي، وهو ما كان سيحدث ضد أي رئيس منتخب يحاول تحقيق الاستقلال الكامل حتى لو كان غير إسلامي، فما بالك برئيس مسلم يحفظ القرآن وينتمي إلى جماعة إسلامية؟ إن الانتماء القومي الخالص يفكك روابط المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية، وهو نفسه الانتماء الذي زرعه ورعاه الغرب حتى يفكك المنطقة العربية والإسلامية، ويفرض عليها هيمنة غربية مباشرة.
فالمعركة الأساسية هي بين هوية إسلامية وعقلية تحررية، وهوية قومية علمانية بعقلية تابعة وذليلة ووظيفية. والهوية القومية العلمانية التي تحملها دولة يوليو التي تحتلنا منذ عشرات السنين لم تكن اختيارًا حرًّا للمجتمع المصري، بل سادت بالحديد والنار والإكراه، وطردت من صفوفها كل من يريد الاستقلال وإعطاء الشعب حقه في اختيار من يمثله، وأكبر مثال على هؤلاء الرئيس الأسبق محمد نجيب الذي عزلوه وحبسوه في بيته بالقاهرة حتى مات ولم يذكروا اسمه حتى في مناهج التعليم كأول رئيس للجمهورية المصرية، مع أنه شريكهم في كل ما فعلوه، ولكنه فقط اختلف معهم ورأى أن الجيش لابد أن يرجع إلى ثكناته ويترك الاختيار للشعب، فكانت عاقبته وخيمة ومهينة.
وبعد ثورة يناير، سنحت الفرصة لشعب مصر ليختار هوية الدولة ورئيسها، ولم يكن الاختيار لصالح دولة يوليو ورموزها الفسدة، إنه الاختيار الذي لم تتهاون معه دولة يوليو القومية ووجهت له ضربات قوية، بداية بالتربص بحراك الثورة وإجهاضه بحيل مختلفة، ومرورًا بالانقلاب الدموي على الرئيس الشهيد مرسي، ثم قتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف، وفي النهاية بالضربة الموجعة التي سددوها بقتل مرسي بطريقة بطيئة وممنهجة ظناً منهم أنها ستكون الضربة القاضية على الثورة ومعركة التحرر، ولكنها بحول الله ستكون سببًا لبعث الأمة وزيادة إصرارها، وإن غدًا لناظره قريب.

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى