بقلم د. عمر بن عبد العزيز المحمود
يعوِّل المجتمع على أعضاء هيئة التدريس في مؤسساتنا العلمية والأكاديمية في نهضة الوطن وتطوير التنمية، وينظر إليهم بأملٍ وتفاؤلٍ في تقديم البحوث الجيدة، والإشراف على الدراسات المتميزة، وتقويم الأطروحات التي قد يشوبها شيء من الضعف أو التقصير، بما يسهم في الارتقاء بالوطن والمواطن، فهم النخبة الذين يستطيعون -إن أرادوا وأخلصوا- فتح المنافذ التطويرية والتنموية والحضارية لهذا الوطن المعطاء، والصعود به وبمؤسساته إلى مصاف الدول الكبرى، ولن يحدث هذا إلا بالإخلاص والعمل الجاد، وجعل خدمة الوطن الهدف الأسمى، بعيداً عن تحقيق المآرب الشخصية والمصالح الذاتية. ولهذا يعظم الخطب وتكبر المصيبة حين يقع من هؤلاء الأعضاء ما يسيء إلى عملهم، أو يشوه صورتهم، خاصَّةً حين يكون متصلاً بصميم عملهم الذي يتوجَّه في المقام الأول إلى تدريس الطلاب، وإعداد البحوث العلمية، والإشراف عليها وتقويمها، وخدمة المجتمع الذي يتعطَّش للإفادة من خبراتهم العلمية والثقافية.
وأظنُّ أنَّ أبرز ما يمكن أن يؤخذ عليه عضو هيئة التدريس في هذا المجال وأخطر ما يلاحظ عليه ما يصدر عنه من مجاملاتٍ علميةٍ وتنازلاتٍ معرفية، حيث يضطرُّ -أو هكذا يتوهَّم- إلى تقديم تنازلاتٍ واصطناع مجاملاتٍ على حساب الأمانة البحثية والأخلاق العلمية؛ خوفاً من خسارة زميل، أو رغبةً في كسب ودِّ آخر، أو توهُّماً أنَّ ذلك سيكون انتصاراً لنفسه، وهزيمةً لمن يعتقد أنه يعاديه، وغير ذلك من الأسباب التي توقع الأستاذ الجامعي في مأزق المجاملات التي تودي بالعلمية والأمانة والشفافية في مهب الريح، فلا يبقى لدينا سوى دراسات مهترئة، وبحوث رديئة، لا تسمن ولا تغني من علم!
ولعلَّ من أهم صور المجاملات المخجلة تلك التي تحدث داخل قاعات المناقشات العلمية الخاصَّة برسائل الماجستير والدكتوراه، تلك المناسبات التي تُعقد لمعرفة المستوى العلمي للدراسة المقدَّمة، ومدى استحقاق صاحبها لنيل الدرجة العلمية، حيث يعمد المناقش إلى مجاملة المشرف على الرسالة، وأذكر أني أشرتُ إلى هذه الصورة الغالبة حين كنتُ أتحدَّث عن (إجازة الرسائل العلمية) في عدَّة أجزاء من مقالاتٍ سابقة، حيث ذكرت حينها أنَّ من الأسباب التي تُظهِر المناقشات بهذه الصورة المخجلة المجاملات العلمية التي تحصل بين المناقشين والمشرف من جهة، أو تلك التي تكون بينهم والطالب من جهةٍ أخرى، خصوصاً حين يكون الطالب من منسوبي القسم، أو حين يكون أهله حاضرين، وفي هذه الحالات تطغى غالباً المجاملة المقيتة، وتتوارى العلمية والمنهجية، حيث يضطرُّ المناقش إلى مراعاة المشرف، والتقليل من حجم الأخطاء الفاضحة في الرسالة؛ لأنه لا يريد أن يخسر علاقته مع المشرف عليها، خصوصاً، مع علمه أنه سيجلس بجانبه غداً في مجلس القسم أو مجلس الكلية، فيضطرُّ إلى مجاملته من خلال الثناء غير المستحق على الرسالة.
وأكدتُ حينها أنَّ بعضهم ربما يفعل ذلك شعوراً منه أنَّ هذه المجاملة ستفيده فيما لو تبادلا الأدوار، وأصبح المشرف مناقشاً لرسالةٍ هو يشرف عليها، وهي مجاملاتٌ علميةٌ مخزيةٌ مخجلةٌ يسعى أصحابها إلى تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب العلم والثقافة والأمانة، ومثل ذلك حين يجامل المناقش الطالب، ويعتقد أنه بذلك يوثِّق علاقاته مع أعضاء القسم أو الدارسين، وهو لا يعلم أنه يخون الأمانة، ويعبث بالعلم، ويسهم في تأخر البحث العلمي في الوطن، وتشويه سمعته.
ومن مظاهر المجاملات العلمية في هذا السياق المجاملة في إسناد الإشراف على الرسائل العلمية، حيث تلحظ أنَّ بعض رؤساء الأقسام يجامل مجموعةً محدودةً من زملائه، فلا يختار سواهم، رغم أنَّ غيرهم أحقُّ بها، إما أنَّ تخصصه أقرب وألصق بموضوع الرسالة، أو أنَّ نصابه يسمح له بالإشراف أكثر من غيره، أو أنه أقدر منهم وأجدر، ومع ذلك تتفاجأ بأنَّ المجاملة التي استسلم لها الرئيس تنسف كلَّ هذه الاعتبارات العلمية، وتؤدي إلى شهرة ذلك القسم برسائل ودراساتٍ في غاية الرداءة والسوء؛ لأنَّ الأمر فيها أُسند إلى غير أهله.
إنَّ مَن يتأمل في إعلانات المناقشات لبعض الأقسام العلمية يلحظ بجلاء تكرر أسماء بعينها، إمَّا مشرفين أو مناقشين، إلى الدرجة التي تتوهَّم معها -بعد مطالعتك لعددٍ من الإعلانات- أنَّ القسم لا يضمُّ سواهم، وأنَّ غيرهم مجرد أسماء لا وظيفة لهم غير التدريس، رغم أحقيتهم وكفاءتهم، ومردُّ هذا كله إلى (الشللية) التي تنخر في بعض الأقسام؛ ولهذا تجد بعض المشرفين -الذين أُسند إليهم الإشراف عن طريق المجاملة- يستكمل هذه الطريقة المشينة، فيختار من أصحابه المقربين مَن يناقش طالبه النجيب! لأنه يثق أنَّ صاحبه سيأتمر بأمره، ويمنحه الدرجة التي يريدها هو، واعداً إياه بردِّ الجميل في مناقشةٍ أخرى!! حتى لو كان بين تخصص هذا الصاحب الوفي وموضوع الرسالة بعد المشرقين! وفي نهاية هذه (الحفلة) يحصل الطالب العبقري على الدرجات العالية، ويُمنح الدرجة العلمية، ويكمل مشواره العلمي ليحصل على درجة أعلى بنفس الطريقة، ولك أن تتخيل ما الذي سيحدث بعد ذلك.
إنَّ كلَّ نوعٍ من المجاملات يمكن قبوله، عدا المجاملات العلمية التي أعدُّها جريمةً في حقِّ البحث العلمي، وليت المسؤولين – من عمداء ورؤساء أقسام- يستشعرون مسؤوليتهم في القضاء على هذا التصرفات القبيحة، التي لا تسيء إلى سمعة القسم أو الكلية أو الجامعة، بل تشوه صورة الوطن في الخارج، وتسهم في تأخرنا العلمي والحضاري، وتؤدي إلى انحدار مؤسساتنا العلمية في التصنيفات الدولية.
المصدر: الجزيرة/ المجلة الثقافية.