مقالاتمقالات مختارة

جرائم القرضاوي!

بقلم د. جمال عبد الستار

تَصاعدتْ الحملةُ على الشيخ القرضاوي حتى وصل الأمر إلى اتهامه بالإرهاب؟! ورُبَّما كان من الطبيعي أن يتهمَهُ بذلك الصهاينةُ أو حتى الصليبيون أو العلمانيون أو الشيعة وغيرهم، إلا أنَّ العجيب أنَّ مَنْ يَتَّهِمُونَه بذلك أَنْظمةٌ تَحْكمُ بلادَ المسلمين!! وَيَدًّعِي بَعْضُها الإِمَامةَ والولاية، والأسوأَ من كل ذلك أن تُؤيدَ تلك الافتراءات مؤسساتٌ دينيةٌ كُبْرى!! وبعض حانات الفتوى في بلادنا المَأْزومة)!!

وإنِّي لَأَسْأَلُ حقيقةً لماذا يَنْتقِمُونَ مِنْ شَيْخٍ جاوز التسعين؟! وما جريمة رجل قَضَى عُمْرَهُ عالماً ومتعلما، لم يُنَافِسْهُم على سُلْطةٍ أو مالٍ أو مكانة؟!

لماذا يَنْقِمُونَ عليه وفي الأمس القريب كانوا يَتَنَافَسُونَ على كَسْبِ وُدِّه واحترامه؟! بل كانوا يَتَشَرَّفُونَ باستقباله وإكرامه؟!

لماذا يَنْقِمُونَ على الشيخ ولم تكن لهم مُعاملةٌ ماديةٌ بَغَى بها عليهم؟! أو صِلاتٌ اجتماعيةٌ قَطَعَها، أو مطامعُ شخصيةٌ اكتسبها!!

فَكَّرتُ في الإجابة كثيراً فَرَأيْتُها تَتَمَثَّلُ في ثلاثةِ أمور:

أولها: أنَّهم يَكْرَهُونَهَ كراهتَهم للدين الذي صَارَ من أَعْلامِه، وأَمَاطَ اللِثَامَ عن مَنْهَجِه، وَنَشَرَ في العَالَمِينَ قِيَمَهُ ومَبَادِئَه، وغَرَسَ في الناس محبته، وفَضَحَ زَيْفَ عقائِدِهِم الباطلة، ومَذَاهِبِهم الفاشلة، ومَنَاهِجِهم المُنْحرفة، وأفكارِهم المُتَهافِتة.

نعم إنَّهم يَكْرَهُونَه لأنَّه نَفَخَ في الصَّحْوةِ الإسلامية من رُوح عِلْمِهِ وعَمَلِهِ فَرَشَّدها، ودفع عنها عَواديَ الانحراف والتَّشَدَّدِ فَسَدَّدها، وَرَسَمَ لها أولوياتِ حركتِها ومعالمَ نهضتٍها، وَبَيَّنَ خُطورةَ الحُلُولِ المُسْتَوردةِ وكيف جَنَتْ على أُمتنا، وَرباها على أن الحلَّ الإسلامي فريضةٌ وضرورة، وَوَقَفَ في وجه التَّطرفِ العلماني، وَأَلْجَمَ أعداءَ الحل الإسلامي بِرَسْمِ طريقِ الصحوة الإسلامية من المُراهقةِ إلى الرشد، فلماذا إذا لا يبغضونه؟!

نعم إنَّهم يَكْرَهُون رجلا أَفْسَدَ عليهم ضَلالاتِهم يوم أن سَطَّر مَلامٍحَ المُجتمعِ المسلم الذي يَنْشُدُه الإسلام، وَوَثَّق له العلاقةَ بين العقلِ والعلم، وَغَرَسَ في نفسه أنَّ الأمة الإسلامية حقيقة لا وهما، فانطلق جٍيْلُهَا يَبْغِي النَّصر المَنْشود، مُعْتَقِدَا أنَّ الإسلام حضارة الغد، وأنَّ القُدْسَ قضية كل مسلم، مستبشرا بانتصار الإسلام مُتَخَلِصاً من افترءاتهم على تاريخنا.

إنَّهم يَكْرهونَه كَرَاهِيَتَهم لعلماء الأُمة الكبار، ويُحاربونه مُحَاربَتَهم لجميع الأبطال، فهم أبناءُ مدرسةِ الطغيان، وأحفادُ الظلمةِ في كل زمان، أحفادُ مَنْ حَبَسُوا الإمام سعيد بن المسيب وضربوه ستين صوتا وَطَافُوا به في الشوارع، وَمَنْ طَارَدُوا الإمام سعيد بن جبير حتى قتلوه،

وَمَنْ ضربوا الإمام أبا حنيفة النعمان وسجنوه، وَمَنْ جَرَّدُوا الإمام مالك من ملابسه وَجَلدُوا ظَهْرَه وَخَلَعُوا كَتِفَه، وَمَنْ سجنوا الإمام أحمد وجلدوا ظهره، وَمَنْ حاربوا الإمام ابن تيمية وأطالوا حبسه، وَمَنْ قتلوا عمر المختار وسيد قطب وحسن البنا وعز الدين القسام وعبد الله عزام وغيرهم من الأخيار.

أمَّا السبب الثاني فهو الحِقْدُ على الشيخ، نعم إنَّه الحقدُ على رجل لم تَخْلُ رسالةٌ علميةٌ في الكليات الشرعية من استدلالٍ بأقواله، أو الثناءِ على مَنْهجه، أو الاقتباسِ من كتبه ومؤلفاته.

الحقدُ على رجل تُرجمت كُتُبُهُ إلى كل لغات العالم، وَكَتَبَ الله له القبول في الأرض، فما من مَوْطِن على وجه الأرض إلا وَيُعْرَفُ به للقرضاوي مكانه، وَيُجَلُ فيه مَقَامه، وذاع صِيته في العالمين، ونفع الله به المسلمين في سائر الأنحاء.

الحقدُ على رجل لم يَصْعد على أي منبر في العالم خطيبٌ إلا وللقرضاوي عليه فضل وَلِخُطْبَتِه من علمه سَهم، وَلِفِكْرِه مِن مَنْهَجِهِ زاد، ولثقافته من فَيْضِهِ أثر.

الحقدُ على رجل كُلَّمَا كَبُر سِنُّه زادت قِيمته، وَتَلَأْلَأَتْ أفكاره، وقَوِيَتْ عَزِيمته وَصَفَتْ نفسه، وَعَمَّ نَفْعُه.

السبب الثالث: يَنْقِمون عليه انْحِيَازَه لِثَورات الشُعوب العربية، وتأييدَه لِمَطالبها الصادقة وَتَطَلُعاتها العادلة، وَمُؤازرتها في البحث عن حريتها واحترام إرادتها، ووقوفه دون تردد في وجوه الطغاة والمستبدين، وعدم انصياعِه للمغريات أو رُضُوخِه للتحديات، بل وَقَفَ في خَنْدق الحق دون تردد أو تَلَوُّنٍ أوتَلَكُّؤ، فكان بِحَقٍ سُلْطَانا للعلماء في عَصْرٍ تَسَاقَطَتْ فيه الأقْنِعة، وَتَراجَعتْ فيه القيم، وغاب عنه الرُّواد، وَتَنَاثر في الأرض الأدْعِياء، فَأوى إلى رُكْنِه الربانيون من طُلاب العلم، والصادقون من رُمُوزِه، حتى صار بحق قِبْلَةً تَأوي إليها أَفْئدةُ المخلصين.

وبِنَصَاعِة ثَوْبِه فَضَحَ المُتَلَونيين، وبقوة عزيمته فضح المتكاسلين الذين أَخْلدوا إلى الأرض واتبعوا أهوائهم، وأخذوا يَلهثون إن أُعطوا، ويلهثون إن مُنعوا.

وبقوة حُجته فَضَحَ المُدلسينَ أَدْعِياءَ العلم، والمُتَفَيْهِقِينَ أدعياء الفهم، والمُتَنَطِّعينَ أدعياء الالتزام، والمُنحرفين أدعياء التيسير، والمُشَعْوِذِينَ أدعياء التَّصَوُف.

فكان لابد أن يتفقوا على عداوته وإنْ تباعدت بينهم السُبُل، ويتحالفوا على محاربته وإن اشتد بينهم البأس، ويتعاونوا على محاولة النَّيِلِ من مكانته وإن تَصَاغَرتْ مكانتهم، وانتشرت فضائحهم!!

فَمَا عليك شَيْخَ الأُمة، فقد سَقَطَتْ الأقنعةُ فأظْهَرتْ قُبْحَ وجُوهِهِم، وَزَيْفَ ادِّعَائِهم، وسوءِ قصدِهم، وخبيثِ نفوسِهم، فَعِشْ حَمِيدا سيدي فلن ينالوا خيرا، وأُبَشِّرُكَ والأُمةَ أنَّ أَوْتَادَ الأرضِ ما فُقِدُوا، وعُلماءَ الصِّدقِ ما ذَهَبُوا، وصُدَّاعَ الحقِّ ما صَمَتُوا، وتَلامِيذَكَ في كل الأقْطَارِ ما فَتِئُوا يَعْلَمُونَ ويَتَعلَمُون، ويَكْتُبُونَ ويَنْشُرُون، ويُكْمِلُونِ خَلْفَكَ صِنَاعةَ جِيلِ النَّصرِ المُتَيَقَّن.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى