مقالاتمقالات مختارة

جذور الاستبداد في الشرق الأوسط – رؤية تركية

جذور الاستبداد في الشرق الأوسط – رؤية تركية

بقلم سيلين م. بولمي

على مدى السنوات الأربعين الماضية، تم دمقرطة العديد من دول العالم. وما بين عامي 1974 و1990، تضاعف تقريباً عدد الحكومات الديمقراطية في العالم. ووفقاً لهنتنجتون[1] (1991 أ)، بدأت موجة ثالثة من التحول الديمقراطي في البرتغال وإسبانيا خلال السبعينيات ثم اجتاحت دول العالم النامي خلال الثمانينيات والتسعينيات. وتسارعت موجة الديمقراطية هذه مع نهاية الحرب الباردة. وعلى الرغم من انخفاض وتيرة تحسين أوضاع الحقوق السياسية وحقوق الإنسان والحريات المدنية وجمودها أحياناً، فقد زاد العدد الفعلي للدول الديمقراطية منذ منتصف السبعينيات. ومع ذلك، فإن عملية إرساء الديمقراطية لم تترسخ بقوة في الشرق الأوسط.

بدأت تجربة الشرق الأوسط مع الديمقراطية في السبعينيات. حيث شرع عدد من الزعماء المستبدين في المنطقة في عمل بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وأتاحوا بعض المجال السياسي للمعارضة وقاموا بإدخال أنظمة تسمح بتعدد الأحزاب وإجراء انتخابات حرة نسبياً. ومع ذلك، فقد تم إلغاء هذه الإصلاحات المحدودة، التي لم تهدف مطلقاً إلى تغيير الهيكل السياسي، بعد أن أدت الأزمة الاقتصادية خلال الثمانينيات إلى اندلاع انتفاضات شعبية في العديد من دول الشرق الأوسط. وشهدت المنطقة لفترة قصيرة في أوائل التسعينيات موجة أخرى من التحرر السياسي. وأدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تحركات غير مسبوقة من أجل إرساء الديمقراطية في أوروبا الشرقية. وفي أوائل التسعينيات، بعد حرب الخليج، أطلقت الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى عملية لتعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط ودعمت “الإصلاحات السياسية” من خلال رصد مساعدات تهدف إلى تشجيع قيم الديمقراطية. ولكن ترويج الغرب للديمقراطية لم يؤد إلى إرساء ديمقراطية حقيقية؛ بل إنه كان في الواقع أحد الأسباب التي حالت دون بزوغ فجر الديمقراطية في المنطقة. فقد استخدم الزعماء المستبدون في الشرق الأوسط هذه المساعدات وعملية الانتخابات كأدوات لتعزيز سلطتهم، فتلاعب العديد من هذه الأنظمة بمسار العملية الانتخابية. وفي حال مُنوا بالهزيمة في صناديق الاقتراع على الرغم من هذه التلاعبات، فإنهم يقومون بإلغاء الانتخابات وحظر المعارضة واعتقال المعارضين. ونتيجة لذلك، فقد أعقب هذه الفترة القصيرة من محاولات “التحول الديمقراطي” إعادة إرساء الاستبداد في المنطقة.

لقد تم كسر الصمت في الشرق الأوسط من خلال اندلاع أول ثورة عربية شعبية ناجحة في تونس في نهاية عام 2010. وشكل الربيع العربي أملاً كبيراً في جميع أنحاء العالم بانهيار الأنظمة الاستبدادية وإقامة حكومات ديمقراطية في الشرق الأوسط من تونس إلى مصر. وكان سقوط القادة القدامى وظهور قادة جدد – إلى جانب إنشاء أحزاب سياسية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة – من أهم المكاسب التي حققتها الانتفاضات في المنطقة العربية. وبدأ المواطنون في المطالبة بحقوقهم ومساءلة حكوماتهم. لقد كانت هناك علامات مشجعة على أن عملية التحول الديمقراطي ستسود في جميع أنحاء المنطقة. ولكن لسوء الحظ، فإن هذه الفترة لم تستمر طويلاً، وتلاشت علامات التفاؤل التي أثارها الربيع العربي رويداً رويداً.

ووفقاً لتقرير فريدوم هاوس للحريات لعام 2014 الصادر عن مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية، فقد سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أسوأ الدرجات على مستوى الحريات المدنية في العالم. واليوم، فإن جميع دول الشرق الأوسط من المغرب إلى المملكة العربية السعودية، باستثناء إسرائيل، لا تصنف ضمن البلدان الحرة. فبينما تُصنف تونس ولبنان والمغرب وليبيا والكويت بأنها دول حرة جزئياً، بين دول المنطقة، حسب التقرير، فقد تم تصنيف بقية الدول مثل الأردن والجزائر ومصر وقطر وعُمان واليمن والعراق والإمارات العربية المتحدة وإيران والبحرين والمملكة العربية السعودية وسوريا على أنها دول غير حرة (فريدوم هاوس، 2014). وفقدت مصر، التي كانت من أكثر الدول الواعدة في الربيع العربي، تقريباً جميع مكتسباتها التي حصلت عليها من خلال ثورة يناير عام 2011 التي انطلقت شرارتها من ميدان التحرير. فبعد الإطاحة بمحمد مرسي – أول رئيس منتخب ديمقراطياً في البلاد – من قبل الجيش، تم تخفيض وضع الحرية في مصر حسب التقرير من “حرة جزئياً” قبل الانقلاب إلى “غير حرة” بعده. وبعد مرور ثلاث سنوات على أسر ومقتل الديكتاتور الليبي معمر القذافي، لا يزال الوضع السياسي في ليبيا هشاً. وفقدت الحكومة المؤقتة الضعيفة السيطرة على جزء كبير من البلاد والمجمعات النفطية الضخمة في الصحراء لصالح مقاتلي الميليشيات. وما زالت ليبيا تكافح من أجل بناء أسس ديمقراطية للحكم. وليس لدى البلاد دستور جديد بعد؛ بينما يلقي التوتر السياسي وانعدام الأمن المستمر ظلالاً من الشك على قدرة ليبيا على استكمال انتقالها إلى الديمقراطية. ولا يزال الوضع يتدهور في سوريا التي تُعد مأساتها إلى حد كبير أسوأ المآسي التي منيت بها المنطقة. فقد بدأت الاحتجاجات السورية في مارس 2011 للمطالبة بالحرية ووضع حد للفساد، لكنها تحولت إلى حرب أهلية بسبب الاستخدام الممنهج للعنف الشديد من جانب الحكومة ضد المتظاهرين السلميين. وانتهكت جميع أطراف النزاع القوانين الإنسانية وقوانين حقوق الإنسان الدولية، كما تزداد حدة العنف والوحشية بلا هوادة يوماً بعد يوم. وبينما تتزايد أعداد القتلى والجرحى من المدنيين، تتصاعد أعداد السوريين الفارين إلى خارج البلاد هرباً من هذا الوضع المأساوي. ويواجه السكان المدنيون العنف والجوع والمرض بالإضافة إلى مصاعب أخرى تحت الحصار المفروض عليه، والذي قد يستمر لسنوات. ويبدو أن تونس هي الأمل الأخير لإنجاز التغيير السلمي بعد أحداث الربيع العربي. فعلى الرغم من اغتيال اثنين من القادة العلمانيين في عام 2013 وبعد شهور من الجمود في الموقف السياسي بين الائتلاف الحاكم بقيادة الإسلاميين والمعارضة التي يغلب عليها الطابع العلماني إلى حد كبير، عززت تونس انتقالها إلى الديمقراطية من خلال اعتماد دستور جديد يُعد هو الأكثر ديمقراطية في تاريخها. وبعد مرور أربع سنوات تقريباً على ثورات الربيع العربي، لا تزال هناك شواهد كبيرة على حالة عدم التيقن المسيطرة على الوضع هناك. وقد أثبتت التطورات الأخيرة أنه لن يكون من السهل الحفاظ على عملية إرساء الديمقراطية في المنطقة.

ما هي السلطوية؟

صُنفت جميع الأنظمة الحاكمة تقريباً في الشرق الأوسط في العصر الحديث على أنها أنظمة استبدادية بشكل عام. ومع ذلك، فقد كان لمعظمهم أحزاب سياسية وانتخابات منتظمة وشكل من أشكال الحرية الليبرالية منذ الثمانينات. لذلك، فإنه على الرغم من السيطرة الصارمة على الأنظمة السياسية والاقتصادية من قبل الزعماء المستبدين في بلادهم، بالنظر إلى السمات “الليبرالية” للأنظمة، فقد أصبح الأمر أكثر تعقيداً من مجرد تصنيفها ببساطة على أنها أنظمة استبدادية. إذن، ما هي هذه الأنظمة؟ فقد كان هناك جدل متزايد منذ منتصف التسعينيات حول كيفية تصنيف الأنظمة الاستبدادية وكيفية تحديد الأنظمة التي تقع في المنطقة الرمادية بين الديمقراطية والاستبداد.

 تستند معظم هذه المناقشات على تعريف خوان ج. لينز للسلطوية كنقطة مرجعية على الرغم من الانتقادات لأوجه القصور فيها (سنايدر، 2006، ص 227؛ هادنيوس وتيوريل، 2006، ص 2). ففي مقاله المحوري، صور لينز (1964) النظام الاستبدادي لأول مرة على أنه نموذج متفرد للنظام يختلف عن كل من الديمقراطية والشمولية (لينز، 2000، ص 53). وصنف لينز الأنظمة السياسية على أنها أنظمة استبدادية: “إذا كانت هذه الأنظمة ذات تعددية سياسية محدودة وغير مسؤولة، وتفتقر إلى وجود أيديولوجية مفصلة وموجهة؛ وحتى إذا توفرت فيها عقليات متميزة، فلا تحظى بتعبئة سياسية مكثفة أو موسعة، باستثناء بعض النقاط في مراحل تطورها؛ و يمارس فيها زعيم أوحد، أو في بعض الأحيان مجموعة صغيرة من الأفراد، السلطة ضمن حدود غير واضحة المعالم بشكل رسمي، ولكنها في الواقع حدود يمكن التنبؤ بها تماماً.” (لينز، 2000، ص 159).

أكد لينز أيضا على التمييز بين الأنظمة السلطانية والسلطوية، حيث يمكن الخلط بينهما بسهولة. وقد قدم مقاله مع ستيبان (2013، ص 26) مثالين لتوضيح هذا الفرق:

فقد ضرب مثلاً على الأنظمة السلطانية بجمهورية الدومينيكان إبان حكم الدكتاتور رافائيل تروخيو، الذي حكم البلاد من عام 1930 إلى عام 1961، وكان قد جعل ابنه ضابطاً برتبة عميد عندما كان لا يزال طفلاً في التاسعة من عمره. لكن هذا الشيء لم يحدث أبداً في مثال آخر للديكتاتورية، وهو دولة تشيلي تحت قيادة الجنرال أوجستو بينوشيه. فقد كان بينوشيه، الرجل القوي العسكري الذي حكم تشيلي من عام 1973 إلى عام 1990 في ظل نظام استبدادي، يرأس “الجيش كحكومة”، لكن “الجيش كمؤسسة” كان يتمتع بدرجة من الاستقلالية التنظيمية. يعتبر لينز و ستيبان مستوى إضفاء الطابع المؤسسي على الجيش متغيراً رئيسياً لرسم الخط الفاصل بين الأنظمة السلطوية والأنظمة السلطانية. ومع ذلك، يعترفان بأنه ليس من السهل الفصل بينهما بدقة. فيمكن أن تكون الأنظمة سلطانية بالكامل تقريباً في خصائصها أو تُظهر بعض خصائص الأنظمة السلطانية. وهكذا، فقبل مجيئ الربيع العربي، أظهرت بعض الأنظمة العربية مثل ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس بعض ملامح الأنظمة السلطانية بدرجات متفاوتة، ولكن لا يمكن تصنيف أي من هذه الأنظمة الشرق الأوسطية على أنها أنظمة سلطانية وفقاً لهذا التعريف (لينز وستيبان، 2013، ص: 26-29).

 اقترح لينز تصنيف الأنظمة الأوتوقراطية الاستبدادية على ثلاثة أبعاد (التعددية والأيديولوجية والتعبئة) وصمم تصنيفاً مفيداً للأنظمة الاستبدادية:

(1) الأنظمة الاستبدادية العسكرية البيروقراطية،

(2) الهيمنة الاستبدادية للنقباوية (وجماعات المصالح)،

(3) الأنظمة الاستبدادية القادرة على التعبئة،

(4) الأنظمة الاستبدادية فيما بعد الاستعمار،

(5) الديمقراطيات العرقية والإثنية،

(6) الأنظمة دون الاستبدادية: الشمولية وما دون الشمولية، وأخيراً

(7) الأنظمة الاستبدادية ما بعد الشمولية (لينز، 2000، الصفحات 252-350).

وقد أضاف لينز وستيبان (2013) نوعاً جديداً من الأنظمة الاستبدادية، وهو الأنظمة الهجين بين الاستبدادية والديمقراطية أو ما يمكن أن نطلق عليه “الهجين الاستبدادي الديمقراطي”، إلى قائمة التصنيفات السابقة، بما في ذلك الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية والشمولية وما بعد الشمولية والسلطانية (لينز وستيبان ، 1996). وقد استخدموا هذه الفئة الأحدث لتحديد الوضع في العالم العربي بعد الربيع العربي. يجادل لينز و ستيبان بأنه لم يكن لدى أي دولة عربية نظام استبدادي مؤسسي بالكامل؛ لذلك، فإن مصطلح “ما بعد الشمولية” لا ينطبق على الدول العربية التي سقطت فيها الديكتاتوريات. فمثل هذه الدول لم يعد من الممكن وصفها بشكل كاف بأنها سلطوية أو سلطانية أيضاً، وهي ليست أيضاً أنظمة ديمقراطية (أو لم تصل إلى ذلك بعد). لذلك طور لينز و ستيبان مصطلح “الهجين الاستبدادي الديموقراطي” لتحديد الوضع السياسي المحصور بين الديمقراطية والاستبداد. إن مفهوم الهجين الاستبدادي الديمقراطي له خصائص مشابهة جدا للأنظمة الاستبدادية أو الهجينية التنافسية. ويجادل لينز وستيبان بأن هذا الهجين الاستبدادي الديمقراطي ليس في الواقع نوعاً من النظام؛ إنه وضع تفشل فيه السلطة الحاكمة في الاستمرار أو في أن تصبح مؤسسية. وقد يتحول هذا الوضع إلى الديمقراطية أو الاستبداد الكامل؛ فهذا يعتمد في الأغلب على دور وقرار الجهاز القسري في البلاد (لينز وستيبان، 2013، ص: 20-21). وأكد أودونيل وشميتر ووايت هيد (1986، ص: 9) أيضاً على اختلاف النتائج في هذه الأنواع من تحولات النظام. إن الانتقال من الحكم الاستبدادي يمكن أن ينتج ديمقراطية، كما أنه قد ينتهي إلى نظام استبدادي ليبرالي أو ديمقراطية مقيدة غير ليبرالية.

في بداية التسعينيات، كانت هناك توقعات متفائلة بشكل كبير في إطار الأدبيات التي كتبت حول مستقبل الديمقراطية في العالم غير الديمقراطي. كان يُنظر إلى الاستبداد على أنه مجرد مرحلة انتقالية قبل الديمقراطية. أما في الآونة الأخيرة، فقد تخلى معظم الباحثين عن هذا الرأي بعد أن شهدوا استمرارية الرمادية السياسية، وأصبحوا يفضلون وصف هذا الوضع بأنه نظام حكم وليس موقفاً انتقالياً. ومع ذلك، فمنذ البداية لم يكن هناك إجماع في الأدبيات على التسمية التي يمكن أن نطلقها على هذه الأنظمة وكيفية توصيفها. فقدم تيري لين كارل (1995)، في مقاله الهام الذي نُشر تحت عنوان: “الأنظمة الهجين لأمريكا الوسطى ، مصطلح “النظام الهجين” لتعريف الدولة التي تحوي أشكال حكم ديمقراطية واستبدادية في آن واحد. وفي التسعينيات، كانت الديمقراطية تُعتبر بمثابة أساس للمصطلحات الجديدة، مما أدى إلى ظهور اتجاه يشار إليه عادة باسم “صفات مع الديمقراطية”(كولير وليفيتسكي، 1997، ص 431-432). وفي هذا التوجه، وصف العلماء هذه الأنظمة بأنها “ديمقراطية سلطوية” (استبدادية) و “ديمقراطية باتريمونيالية” (أبوية تقليدية) و “ديمقراطية برايتورية” (يهيمن عليها الجيش)  و “ديموقراطية أولية بدائية” ، إلخ. ومع ذلك، فقد تم انتقاد التركيز على الديمقراطية، واتُهم هذا النهج بمعاملة الأنظمة الهجين على أنها أشكال جزئية أو “منقوصة” من الديمقراطية. (ليفيتسك و واي، 2002، ص 51). وكرد فعل على ذلك، ظهر اتجاه تعويضي في العقد الماضي، واستبدل مصطلح “الديمقراطية” بكلمة “السلطوية” (جيلبرت ومحسني، 2011، ص 271).

 ونتيجة لهذا التحول من “صفات مع الديمقراطية” إلى “صفات مع السلطوية”، تم استنباط مصطلحات جديدة مثل: “السلطوية الانتخابية” و “السلطوية التنافسية” و “شبه السلطوية” و “السلطوية الناعمة”. حيث لا تشير كل المصطلحات المذكورة هنا إلى نفس نوع النظام. وعلى الرغم من التوجه السائد لإمكانية استخدام أحدها مكان الآخر ، فلا تزال هناك بعض الاختلافات. وقد يُظهر النظام مزيجاً من الخصائص الاستبدادية أو الديمقراطية بطرق عديدة. ووفقاً لميل النظام (نحو الاستبداد أو الديمقراطية) أو حسب مقاييس الباحث، يتم استخدام مصطلح مختلف. حيث أثارت جهود وضع المفاهيم مظاهر الخلط والارتباك، على الرغم من أن الأدبيات بمعناها الواسع تضمن وجود نظرة متعمقة للأنواع المختلفة من الأنظمة الهجين.

 ومن أجل التمييز بين الأنظمة الهجين والأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية الكاملة، ينبغي للمرء أن يرسم حدوداً مفاهيمية ليس فقط بين الاستبداد والأنظمة الهجين ولكن أيضاً بين الديمقراطية والأنظمة الهجين. وفي معظم هذه الدراسات حول الأنظمة الهجينة، تم اقتباس تعريف الديمقراطية من روبرت دهل (1971). ويستخدم دهل هذه المعايير لتعريف الديمقراطية:

(1) انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية؛

(2) الاقتراع الكامل للبالغين؛

(3) الحقوق السياسية والحريات المدنية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة وتكوين الجمعيات؛

(4) السيطرة على القرارات الحكومية المتعلقة بالسياسة المخولة دستوريا للمسؤولين المنتخبين.

عند مقارنته بالاستبداد، يتوفر في النظام الهجين (المختلط) واحد أو أكثر من هذه المعايير. ولكنه أيضاً ينتهك معظمها بشكل متكرر وخطير ولا يفي بكامل مجموعة الالتزامات الناشئة عن الديمقراطية. وفي معظم الجهود المبذولة لتصنيف الأنظمة الاستبدادية، استخدم الباحثون بالدرجة الأولى درجة التنافسية كتدبير (إجراء) وأولوا اهتماماً لوجود فرص مؤسسية لمشاركة المعارضة. (داياموند، 2002، ليفتسكي و واي، 2002). وعلى الرغم من انتقاد هذه الطريقة باعتبارها اختزالية بسبب تركيزها على بعد واحد فقط للديمقراطية، فهي طريقة مقبولة على نطاق واسع في الأدبيات المنشورة حول هذا الموضوع. (هادنيوس وتوريل ، 2006 ؛ جيلبرت ومهسيني ، 2011)

ووفقاً لهذا التصنيف، فقد يتم تصنيف الأنظمة الاستبدادية على أنها أنظمة استبدادية تنافسية وسلطوية انتخابية (والتي تسمى أيضاً “الديمقراطية الزائفة” ” أو “الديمقراطية الافتراضية” أو “ديمقراطية الواجهة” ، إلخ) أو “استبدادية مغلقة” (سلطوية تقليدية). ويقارن ليفتسكي و واي (2002، ص 54-58) الاستبداد الانتخابي بالسلطوية التنافسية في أربعة مجالات من المنافسة الديمقراطية: الانتخابات والتشريع والقضاء والإعلام. في النظام الاستبدادي الانتخابي، توجد مؤسسة انتخابية ولكنها لا تسفر عن أي منافسة ذات مغزى، أو أن الهيئات التشريعية إما غير موجودة أو خاضعة لسيطرة كاملة من قبل الحزب الحاكم، كما تسيطر السلطة على النظام القضائي، وتكون وسائل الإعلام مملوكة بالكامل للدولة، أو تخضع للرقابة الشديدة، أو يتم قمعها بشكل ممنهج. وفي هذا النوع من الأنظمة، قد تتحدى قوى المعارضة النظام بشكل دوري، وتُضعف، وأحياناً تهزم السلطة الاستبدادية. أما في الأنظمة الاستبدادية التنافسية، فإنه على الرغم من أن العملية الانتخابية قد تتعرض لانتهاكات واسعة النطاق من سلطة الدولة، إلا أن الانتخابات تُجرى بانتظام وتكون حرة وتنافسية بوجه عام؛ وتكون الهيئات التشريعية في الأغلب ضعيفة نسبياً، لكنها في بعض الأحيان تصبح مراكز تنسيق لنشاط المعارضة؛ وعلى الرغم من أن الحكومات تمارس ضغوطاً على القضاء المستقل رسمياً، إلا أنها تتعرض للانتقاد على المستويين المحلي والدولي بسبب تدخلاتها؛ وتوجد وسائل إعلام قانونية ومستقلة، على الرغم من أنها تتعرض للتهديد والهجوم بشكل دوري من جانب الحكومة. (ليفتسكي وواي، 2002، ص 54-85).

ومن الصعب للغاية التمييز بين الأنظمة “السلطوية التنافسية” و “السلطوية الانتخابية” وقياس كل هذه المعايير في كل دولة. وقد قام لاري دياموند (2002، ص 31)، الذي أكد أيضاً على هذه الصعوبة، بتصنيف دول الشرق الأوسط في عام 2002 على النحو التالي: إيران واليمن ولبنان كأنظمة سلطوية تنافسية؛ الكويت والأردن والمغرب والجزائر وتونس ومصر كأنظمة سلطوية انتخابية؛ والبحرين وعمان والإمارات وقطر والعراق وليبيا والمملكة العربية السعودية وسوريا كأنظمة سلطوية مغلقة سياسياً. واليوم يمكن تصنيف تونس والعراق وليبيا على أنها أنظمة سلطوية تنافسية. ولا يزال مستقبل النظام في مصر غير واضح بعد الانقلاب العسكري. وفي أماكن أخرى من المنطقة، لا تزال هناك دول مستبدة إلى حد ما. أما النظام الوحيد الذي يصنف على أنه ديمقراطي في المنطقة فهو إسرائيل. ومع ذلك، فهي قضية مثيرة للجدل بالنظر إلى الحقوق السياسية للمواطنين العرب في إسرائيل، وسياستها تجاه الفلسطينيين وأنشطتها في الأراضي المحتلة. إسرائيل هي أيضا خارج نطاق التركيز البحثي لهذه الدراسة بسبب ميزاتها الاستثنائية. و “الديمقراطية” الأخرى المعروفة في المنطقة هي تركيا، التي لم تكن أبداً ديمقراطية ليبرالية. وعلاوة على ذلك، ففي السنوات الأخيرة، تعرض حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا لانتقادات واسعة النطاق على الصعيدين الوطني والدولي بسبب التحرك تجاه الحكم الاستبدادي. ولا تزال تركيا تُصنَّف على أنها حرة جزئياً من قبل مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية، ولكن تم تخفيض معدل حرية الصحافة بها من حرة جزئياً إلى غير حرة في عام 2014. وباعتبارها أقوى ديمقراطية في المنطقة، لا تزال تركيا تعاني من سياسات غير ديمقراطية بعد مرور حوالي 70 عاماً على أول انتخابات متعددة الأحزاب بها.

لا تزال أسس الديمقراطية غير مستقرة أو غائبة تماماً في جميع دول الشرق الأوسط تقريباً. هذه الحقيقة الواضحة تقود المرء إلى التفكير في الأسباب الكامنة وراء الميول الاستبدادية في دول الشرق الأوسط.

ما هي الأسباب وراء ذلك؟

لا توجد إجابة سحرية تفسر العجز الديمقراطي في المنطقة. وهناك عدد من العوامل الداخلية والخارجية التي تفسر الاستبداد في الشرق الأوسط، على الرغم من وجود إجماع ضئيل بشأن ذلك. استندت الكثير من الكتابات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى تفسيرات اجتماعية واقتصادية تؤكد على العلاقات بين المستويات العالية للتنمية الاقتصادية والديمقراطية. وقد جادل ليبسيت (1957) بأن هذه العلاقة أثرت على العديد من التحليلات خلال هذا الوقت. ولا يزال العديد من العلماء يتبنون التفسيرات الاقتصادية، ولكن التركيز تحول بعيداً عن التنمية إلى مصادر الإيرادات وتركيبة الطبقات (الاجتماعية). وهناك تفسيرات أخرى أكثر ديمومة وهي الثقافة والدين. فقد اعتبر الباحثون أن ثقافة المنطقة تقاوم بشكل استثنائي جهود إرساء الديمقراطية. وبهذا المعنى، اتهموا الثقافة العربية والإسلامية بالوقوف وراء الاستبداد في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن نظرية “استثنائية الشرق الأوسط” تعرضت لانتقادات شديدة بسبب منظورها الاستشراقي في السنوات الأخيرة، إلا أنها تعتبر التفسير الأكثر انتشاراً. وهناك أيضاً جدل حول فرضية التقسيم الاجتماعي والثقافي وفرضية الأبوية، التي تستخدم الهيكل الاجتماعي للمجتمع كأداة لتفسير ذلك.

وبعد تسعينيات القرن العشرين، أكدت كثير من الأعمال على دور الانتخابات في الحفاظ على الأنظمة الاستبدادية.

وفي السنوات الأخيرة، استرعت القدرة والإرادة ووضع الجيش كجهاز قسري للدولة لقمع أي مبادرة ديمقراطية – استرعت انتباه بعض الأدبيات. وقد يكون التاريخ هو العامل الأكثر إهمالاً في الدراسات في هذا المجال. لقد ركزت التفسيرات التاريخية بشكل أساسي على التجارب السابقة للدول مع الديمقراطية أو تأثير الإسلام والثقافة العربية، ولكنها لم تولي اهتماماً كبيراً لتأثير الماضي الاستعماري في ذلك. إن التركيز على الديناميات الداخلية يؤدي إلى التغطية على الدور المنتقَد للقوى العظمى بخصوص الاستبداد والديمقراطية في الشرق الأوسط، ليس فقط خلال الحقبة الاستعمارية ولكن حتى اليوم أيضاً. في الأدبيات الاستبدادية، تؤكد بعض الدراسات على آثار عوامل أخرى مثل الصراع العربي الإسرائيلي، ومعدل محو الأمية (الإلمام بالقراءة والكتابة)، ووضع المرأة وغيرها على انتشار القواعد الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة. وعلى الرغم من أن بعض هذه الدراسات وحججها التي يمكن دحضها بسهولة تفشل في شرح أسباب الاستبداد في المنطقة، فإن مجموعة من النظريات تعطي نظرة ثاقبة حول كيفية تمكن الأنظمة الاستبدادية من البقاء لفترة طويلة.

تأثير الماضي

الميراث المؤسسي

 من أجل فهم بنية الدولة في الشرق الأوسط، يجب أن نلقي الضوء على تاريخ المنطقة. يمكن إرجاع أصول الحكم الاستبدادي واستمراره في المنطقة إلى الحقبة الاستعمارية. فقد كانت جميع دول الشرق الأوسط الحديث وشمال إفريقيا، باستثناء إيران والمغرب ومحيط شبه الجزيرة العربية، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وأصبح معظمها بعد ذلك خاضعاً لحكم القوى الاستعمارية الأوروبية – باستثناء إيران والمملكة العربية السعودية واليمن الشمالي وتركيا.

 وكما أشار أندرسون (1987، ص: 3-4)، فقد بدأ تشكيل الدولة والتطور البيروقراطي في الشرق الأوسط في فترة الحداثة في ظل الإمبراطورية العثمانية. ومع ذلك، فقد تم تعليق التطوير الإداري العثماني عندما قام الأوروبيون بتفكيك الإمبراطورية بعد الحرب العالمية الأولى. وفي بعض الحالات، مثل تلك الموجودة في مصر وتونس، سمح الأوروبيون بالاستمرار في عملية تشكيل الدولة. أما في معظم بقية دول الشرق الأوسط، فقد قام المحتلون الأوروبيون الذين كانوا يحكمون هذه الدول بتدمير المؤسسة البيروقراطية والعسكرية والمالية العثمانية واستبدالها بمؤسساتهم الخاصة. وقد أدى هذا الإيقاف إلى خلق إدارة غير مستقرة تفتقر إلى الشرعية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أربك المستعمرون الأوروبيون السلطة السياسية حسب مصلحتهم ومنعوا ظهور الجماعات المنافسة عن طريق تقسيم المجتمع ودعم الحكام المحليين المتحالفين معها وإبقاء المجتمع المدني في حالة من الضعف (أندرسون، 1987، ص: 5-7). وعلى الرغم من وجود بعض محاولات لإرساء الديمقراطية خلال الانتداب البريطاني والفرنسي في المنطقة، إلا أنها كانت مجرد إصلاحات تجميلية للتغطية على الهيمنة الأجنبية أكثر من كونها جهود حثيثة نحو إنشاء دول ديمقراطية (بيلين، 2004، ص: 150). ففي تونس وجنوب اليمن والجزائر على سبيل المثال، أنشأت فرنسا وبريطانيا هيئات برلمانية زائفة، لكن هذه الهيئات حرمت النخب المحلية من لعب دور سياسي (انجريست، 2004، ص: 231). كان هذا هو نفس ما حدث في برلمانات العراق والأردن وسوريا. ونتيجة لذلك، فعندما نال عدد كبير من دول الشرق الأوسط الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الدول الجديدة مؤسسات ضعيفة، ومجتمعات مدنية ضعيفة، وهيكل سلطة أساسي محدود (تشاني، أكيرلوفو بلايديس، 2012، ص: 385).

 ووفقاً لميشيل بينر أنجريست (2004، ص: 229)، فإن طبيعة أنظمة الأحزاب المحلية الناشئة عند رحيل القوى الاستعمارية الأوروبية أثرت في النهاية بشكل كبير على نوع الأنظمة السياسية التي ظهرت بعد حصول دول الشرق الأوسط على استقلالها. ففي دول مثل تونس واليمن الجنوبي والجزائر، اتحدت النخب السياسية تحت حزب واحد لتعبئة الجماهير في احتجاجات واسعة النطاق ضد القوى الإمبريالية. وفي الدول التي كان فيها حزب واحد مهيمن وقت الاستقلال، تطورت إلى دولة الحزب الواحد. ويجادل أنجريست (2004، ص: 233) بأن دول الحزب الواحد، لم تجعل الاستبداد فيها أمراً حتمياً فحسب، بل مكَّنت النخب غير الديمقراطية أيضاً من بناء أنظمة استبدادية بسرعة وفعالية كبيرة لأنهم ببساطة لم يواجهوا أي أطراف منافسة. وعلى الرغم من وجود شكل من أشكال السياسة التنافسية في العراق والأردن ومصر وسوريا خلال الاستقلال، فقد مهدت الطريق تدريجياً إلى حكم استبدادي. كما أضاف أنجريست (2004، ص: 244)، أنه إذا وصلت الجهات الفاعلة الرئيسية إلى نتيجة مفادها أن تكوين نظام حزبي معين يهدد وضعهم ومصالحهم (المكتسبة أو التي كان يتم الحفاظ عليها في ظل الهيمنة الاستعمارية الأوروبية)، فمن المرجح أن يتنكروا تماماً للمعايير الديمقراطية ويدعموا الجهات الفاعلة والمؤسسات والمبادرات غير الديمقراطية.

وعلى الرغم من أن هناك دراسات أخرى تتحدث عن الآثار الإيجابية للتراث الاستعماري البريطاني، إلا أنها لا تستطيع تقديم أي دليل على ذلك من الشرق الأوسط أو إفريقيا. وقد ذكر مايرون وينر (1987) في مقال معروف له أن الإدارة الاستعمارية البريطانية كان لها تأثير قوي في إنشاء أنظمة ديمقراطية في العالم الثالث. ومع ذلك، فهناك ستة دول فقط تنطبق عليها المعايير التي أوردها وينر؛ كما أكد هنتنجتون، أن هناك عدد أكبر بكثير من المستعمرات البريطانية السابقة التي لم تدعم الديمقراطية (هنتنجتون، 1984، ص: 206). وفي بحثه التجريبي، قام فيش (2002، ص: 9)، أيضاً باختبار هذه الجدلية، واعتبر أن التراث الاستعماري البريطاني الذي ترك “نموذج وستمنستر البرلماني” وراءه لا يوفر بالضرورة ميزة كبيرة لأي دولة في التحول الديمقراطي. وهذا يعني أيضاً أن المستعمرات السابقة للقوى الأوروبية الأخرى ليست أكثر عرضة للاستبداد.

 ويعتقد إريك شاني، وهو باحث آخر، أن السبب وراء الاستبداد في الشرق الأوسط يكمن في التاريخ، لكنه يعود بذلك إلى ما قبل الهيمنة الأوروبية على المنطقة. ووفقاً له، فإن الافتقار إلى الديمقراطية في المنطقة هو نتاج توازنها السياسي الفريد، الذي نشأ أثناء الفتح العربي، أكثر من خصائصه الثقافية أو الإثنية أو الدينية (تشاني، أكيرلوف وبلايديس، 2012، ص: 367). وركز تشاني في مقاله على الدول التي غزتها الجيوش العربية خلال فترة التوسع الإسلامي قبل 1100 م. وزعم فيه أن “غياب الديمقراطية في العالم العربي” هو نتاج الإرث الطويل لهياكل التحكم التي نشأت في بدايات العالم الإسلامي. ووفقاً لفرضيته تلك، فإن المناطق التي غزاها العرب تشتمل على مؤسسات سياسية استبدادية على نحو غير عادي نتيجة ميلهم إلى تبني جيوش من المماليك (ص 368). وسمح استخدام جيوش المماليك للحكام بتقويض قواعد النخب المحلية على نطاق واسع، مما أدى إلى تدميرها. ومع تزايد تركيز السلطة السياسية في أيدي القادة العسكريين المدعومين من جيوش المماليك، ظهر الزعماء الدينيون باعتبارهم الاختيار الوحيد المقبول لتولي السلطة. لم ينتج عن التحالف بين القادة العسكريين وعلماء الدين نشوء مؤسسات ديمقراطية، حيث عملوا سوياً لتطوير وترسيخ نوع من التوازن المؤسسي “الكلاسيكي”. واستمر هذا التوازن السياسي في العديد من المناطق حتى القرن التاسع عشر وخلف تركة من المؤسسات الضعيفة والمجتمع المدني الضعيف. وعلى مدار القرن الماضي، حافظ المستعمرون الأوروبيون والحكام الأصليون على الهيكل السياسي التاريخي (تشاني، أكيرلوف وبلايدس، 2012، ص: 382-385). وتوفر فرضية تشاني نظرة تاريخية مختلفة. ومع ذلك ، كما أشار أكيرلوف (تشاني، أكيرلوف وبلايدس، 2012، ص: 401) فحتى لو قبلنا فرضية تشاني، كيف يمكننا إهمال وجود سلطات لمجموعات جديدة، مثل سياسات الشرق الأوسط، وتأثيرها على هيكل النظام اليوم؟ فمنذ الفتح العربي إلى اليوم، تم احتلال دول الشرق الأوسط عدة مرات. ومما لا شك فيه أن تأثير الاحتلال الأوروبي الأخير لهذه الدول على مأسسة هذه البلدان أكبر بكثير عن التأثير الذي حدث في الماضي. وبالإضافة إلى ذلك، فيمكننا أن نجد مثل هذه الأنواع من تحالفات القوى في التاريخ الأوروبي أيضاً، رغم أنها لم تمنع ظهور الديمقراطية وتكريسها في أوروبا.

التفسير القديم: الإسلام

 تعمل العديد من الدراسات على تتبع جذور الاستبداد في الشرق الأوسط في التاريخ الإسلامي. وتعود هذه النظرة إلى عام 1798 مع مونتسكيو الذي يدعي في الأصل أن المعتقدات الإسلامية هي التي جعلت المنطقة أكثر عرضة للحكم الاستبدادي. ويدّعي مونتيسكيو أنه يتحتم أن يكون للمسلمين حكومة استبدادية لأن الإسلام لا يتكلم إلا بالسيف ويتصرف تجاه الناس بروح تدميرية من الأساس (مونتيسكيو، 1949، ص: 30). أثر منهج مونتسكيو على الكثير من الناس بعد ذلك، وتم استنساخه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من قبل عدد من العلماء، بما في ذلك برنارد لويس (1990، 1993)، وصموئيل هنتينجتون (1991 أ ، 1991 ب) وإيلي كيدوري (1992)، كرد على سؤال استمرار الاستبداد في الشرق الأوسط .

ويُعتبر برنارد لويس (1990، 1993) أحد أبرز العلماء الذين يدافعون عن فكرة أن الإسلام لا يتوافق مع الديمقراطية. وقال إن عدم الفصل بين الدين والدولة في الإسلام هو السبب الرئيسي لهذا التعارض. فالدولة الإسلامية كانت من حيث المبدأ دولة دينية. لذلك يعتقد المسلمون المتدينون أن السلطة الشرعية تأتي من الله وحده. وبما أن الحاكم (الخليفة) يستمد قوته من الله، وليس من الشعب، والشريعة الإسلامية مستقاة من القرآن، فإنه على المسلمين أن يخضعوا للسلطة دون ابداء أي جدال، حسب زعم لويس. وزعم لويس أيضاً أن كل هذه العوامل هي التي أدت إلى انتشار الاستبداد في العالم الإسلامي.

 ووفقاً لكيدوري (1992، ص 1)، فإن “فكرة الديمقراطية غريبة تماماً عن العقلية الإسلامية”. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم الدولة ككيان إقليمي محدد يتمتع بالسيادة، ومفهوم السيادة الشعبية كأساس للشرعية الحكومية، وفكرة التمثيل، والانتخابات، والاقتراع الشعبي، والمؤسسات السياسية التي تنظمها القوانين التي تضعها الجمعية البرلمانية، وحراسة هذه القوانين وتطبيقها من قضاء مستقل، وفكرة علمانية الدولة، والمجتمع الذي يتألف من عدد كبير من الجماعات والجمعيات المستقلة، هي مفاهيم غريبة عن التقاليد السياسية الإسلامية. (ص: 5-6)

 ونتيجة لذلك، ادعى كيدوري أنه لا يوجد في التقاليد السياسية الإسلامية، وبالتالي العالم العربي، أي شيئ عن الحكومة الدستورية والتمثيلية.(ص 5).

 ويُعتبر هنتنجتون اسماً بارزاً آخر يعتقد أن الإسلام مسؤول عن عجز الديمقراطية في المنطقة. وهو يرى أن الإسلام لا يحتفي بالديمقراطية لأنه يحمل عقبات ثقافية قوية داخله أمام تحقيق الديمقراطية (هنتنجتون، 1984، ص: 208). ويقول هنتنجتون إن الإسلام “يرفض أي فصل أو تمييز بين الدين والسياسة”. ففي الدولة الإسلامية “شرعية الحكومة والسياسة تُستمد من العقيدة والتجارب الدينية” ونتيجة لذلك “تختلف المفاهيم الإسلامية للسياسة عن أسس السياسة الديمقراطية وتتناقض معها”(هنتنجتون، 1991 ب، ص: 28). ومع بداية الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، أصبح هنتنجتون أكثر تفاؤلاً بشأن مستقبل الدول الإسلامية. فهذه المرة، لم يعامل هذه العقبات كحقائق جوهرية تمنع التطور الديمقراطي. وكما ذكر، فقد تم إثارة جدليات ثقافية مماثلة ضد الدول الكاثوليكية بخصوص الديمقراطية وضد البلدان الكونفوشيوسية بخصوص التنمية الاقتصادية في الماضي. وبالتالي، فقد بدأ يعبّر عن شكوكه حول النظر إلى ثقافة معينة كعائق دائم للتغيير. فالإسلام، مثله مثل الأديان الأخرى، هو مجموعة معقدة للغاية من الأفكار والمعتقدات والمذاهب والافتراضات وأنماط السلوك. ولديه بعض العناصر التي تتوافق مع الديمقراطية، وبعض العناصر التي لا تتوافق مع الديمقراطية بشكل واضح. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الثقافات ديناميكية من الناحية التاريخية، وأن المعتقدات والمواقف السائدة في المجتمع تتغير(هنتنجتون، 1991 ب، ص: 29-30). ومع ذلك، تراجع هنتنجتون في تفاؤله وموقفه المعتدل من آفاق الديمقراطية في الدول الإسلامية في مقالته المثيرة للجدل “صراع الحضارات”. ثم قال إن هناك صراعاً عميقاً بين قيم الغرب وقيم الإسلام. واعتبر هنتنجتون أن المجتمعات الإسلامية أكثر عرضة للعنف السياسي وأن “الكتلة الإسلامية أو دول الهلال الإسلامي الممتد من إفريقيا إلى آسيا الوسطى، لها حدود دموية” (هنتنجتون، 1993، ص: 34). ومن وجهة نظر هنتنجتون، فإن وجود عنف سياسي في المجتمعات الإسلامية يرتبط بالثقافة الإسلامية التي لا تعرف الأفكار الغربية عن الديمقراطية (1993، ص 40).

ونشرت جوديث ميلر (1993) مقالة في نفس العدد من فورين أفيرز مبنية على جدليات مماثلة حول الإسلام والديمقراطية. وردت ميلر على سؤال طرحته هي بنفسها، “لماذا يجب أن يشك المرء في صدق التزام الإسلاميين بالحقيقة والعدالة والنهج الديمقراطي؟” وذلك من خلال هذه الإجابة: “باختصار، بسبب التاريخ العربي والإسلامي وطبيعة وتطور هذه الجماعات”. وباستخدام دراسات برنارد لويس لدعم النتائج التي وصلت إليها، ادعت ميلر أن الإسلام يتعارض مع قيم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

 وتعكس الافتراضات التي تربط الاستبداد في الشرق الأوسط بالإسلام تحيزاً جلياً ناشئاً عن توجهها نحو الشرق. ويقدم هؤلاء العلماء معرفتهم السطحية المعممة تقريباً عن الإسلام باعتبارها التفسير الوحيد لعجز الديمقراطية في المنطقة. وكما أشار هينبوش، فإن مثل هذه الحجج ترى أن الثقافات السياسية ثابتة وموحدة بشكل أساسي. وأشار هينيبوش إلى شكوك هنتنجتون في رؤية الثقافة كعائق دائم للتغيير، لكنه كان أكثر ثقة. فوفقاً لهينيبوش، يختلف الإسلام كثيراً حسب السياق والزمان في مقولة تشكيل عائق ديني ثابت أمام توجهات التحول إلى الديمقراطية مثلما قيل بشأن الكاثوليكية ذات مرة عن طريق الخطأ (هينبوش ، 2006 ، ص 375). وللتأكيد على نفس النقطة، رأت بيلين أن الكاثوليكية والكونفوشيوسية كانت متهمة أيضاً بعدم التوافق مع الديمقراطية؛ ومع ذلك، لم يمنع ذلك دول أمريكا اللاتينية أو جنوب أوروبا أو شرق آسيا من تبني التحول الديمقراطي (بيلين، 2004، ص: 141).

 وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الدراسات الاستقصائية البحثية والدراسات التجريبية التي تشكك في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية / الاستبداد لا تجد أي صلة مهمة بين الإسلام وعجز الديمقراطية في المنطقة. ومن أجل اختبار افتراض هنتنجتون أن المجتمعات الإسلامية أكثر عرضة للعنف السياسي، استخدم ستيفن فيش قائمة حوادث العنف السياسي في العالم بين عامي 1946 و 1999. فخلال هذه الفترة ، وقعت 207 حادثة من العنف السياسي الشديد الحاد، كان من بينها 72 حدثاً فقط وقعت في الدول الإسلامية بنسبة35%. بالنظر إلى أن 30% من دول العالم في الأغلب مسلمة؛ فإن حصتهم من العنف السياسي عادلة. خلص فيش إلى أن الأدلة لا تُظهر أن العالم الإسلامي كان البقعة من العالم التي تحوي قدراً غير متناسب من العنف السياسي (فيش، 2002، ص 17). واستخدم فيش أيضاً مؤشرات “الاستقرار السياسي / عدم العنف” وقارن درجات الاستقرار / النقص في العنف في الدول الإسلامية والكاثوليكية. ووفقاً لنتائجه، فإن مستوى التنمية الاقتصادية هو العامل الرئيسي في تحديد استقرار / انعدام العنف في بلد ما، حيث تتمتع الدول ذات الدخل المرتفع باستقرار أكبر / عنف أقل. أما متغير الإسلام فليس ذو دلالة إحصائية في ذلك. وعندما يتناول المرء التنمية الاقتصادية، يكون الدليل على وجود صلة بين الإسلام والعنف ضعيفاً في أحسن الأحوال (فيش، 2002، ص 18). واستنكر فيش أيضاً الافتراضات بأن المسلمين أكثر تديناً من المسيحيين، وأن الحياة السياسية في المجتمعات الإسلامية تتحدد بالدين الذي يعتبر حليفاً للسلطوية. ويجادل فيش بأنه لا يوجد دليل يثبت العلاقة القوية بين الدين والخيارات السياسية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة (فيش، 2002، ص 21). وهكذا، أظهر استطلاع مارك تيسلر (2002)، استناداً إلى بيانات الرأي العام التي تم جمعها في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) والمغرب والجزائر ومصر، أن الارتباط القوي بالإسلام لا يؤثر سلباً على دعم الديمقراطية. وعلى العكس من ذلك، خلص تيسلر إلى أنه كلما كان الالتزام بالإسلام أقوى، كلما زاد دعم الديمقراطية (2002، ص: 348). وهناك نتيجة أخرى لاستطلاعه وهي أن دعم الإسلام السياسي لا ينطوي على رفض الديمقراطية. ووفقا لتسلر أيضاً، فإن أولئك الذين يؤيدون الحركات والبرامج الإسلامية ليسوا أقل من غيرهم في تأييد التنافس السياسي والرغبة في تبني آليات لمحاسبة القادة. هؤلاء الناس لا يرون عدم توافق بين الديمقراطية والحكم الإسلامي. وبدلاً من ذلك، يشتكي الكثير منهم من النظام السياسي الحالي ويدعمون بديلاً يتضمن كلاً من المبادئ الديمقراطية للاختيار والمساءلة والمبادئ الإسلامية للعدالة وحماية الضعفاء (تيسلر، 2002، ص: 349).

في دراسة تجريبية أخرى، قارن ألفريد ستيبان وجرايم ب. روبرتسون (2003) الأداء السياسي للدول الإسلامية في الفترة من 1973 إلى 2002 لرؤية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. ووجدوا أن الاختلافات في مستوى الديمقراطية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في العالم النامي لا تختلف اختلافاً كبيراً. فمن بين 29 دولة غير عربية ذات أغلبية مسلمة كانت محل الدراسة، كان أكثر من الثلث يتمتعون بحقوق سياسية كبيرة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وشهد أكثر من ربعها هذا لمدة خمس سنوات متتالية على الأقل (ستيبان، 2003، ص: 31). ومع ذلك، فقد وجدوا فرقاً بين الدول العربية وغير العربية عند مقارنة مستوى الديمقراطية وفقاً للقدرة التنافسية الانتخابية والحقوق السياسية والمدنية وما شابه. وخلصوا إلى أن “الدولة غير العربية ذات الأغلبية المسلمة كانت أكثر قابلية بـــ 20 مرة لتكون “قادرة على المنافسة الانتخابية”من الدولة العربية ذات الأغلبية المسلمة” (ستيبان وروبرتسون، 2003، ص: 33). ووفقاً لنتائجهم، فرغم أنه قد يكون هناك “عجز في الديمقراطية” في الدول ذات الأغلبية العربية، إلا أنه لا يوجد ذلك في 31 دولة ذات أغلبية مسلمة غير عربية. ولذلك، يمكن اعتبار غياب الديمقراطية في هذا الجزء من العالم سببه الثقافة العربية وليس االدين. وبمعنى آخر، فإن الفجوة الديمقراطية عند المسلمين هي في معظمها فجوة عند العرب فقط، لكن البحث لم يقدم تحليلاً في كيفية تسبب “الثقافة العربية” في هذه النتيجة.

الثقافة العربية والأبوية الجديدة[2]

 في حين أن دراسة ستيبان وروبرتسون، مثل الدراسات الأخرى المذكورة هنا، تدحض الحجج حول أن الإسلام غير متوافق مع الديمقراطية، فإن دراستهم تعاني من ضعف تفسير ثقافي آخر. فمن الممكن العثور على أمثلة أخرى لــ”الاستثنائية العربية” التي تلقي باللوم على الثقافة العربية وليس الدين في عجز الديمقراطية. حيث تلقي هذه الدراسات باللوم على الثقافة السياسية في المنطقة، بما في ذلك المؤسسات السياسية والإجراءات و مواقف المواطن وقيمه، بكونها معادية لظهور المؤسسات الديمقراطية.

 وشرح أحد أنصار هذا النهج، هيرشام شرابي (1998)، مقاومة المنطقة للديمقراطية بمفهوم “الحكم الأبوي الجديد”. جادل شرابي بأن السمة المركزية للمجتمع العربي هي القمع والهيمنة الكاملة للأب في الأسرة وللذكور في العلاقات بين الرجال والنساء. وكذلك لا توجد سوى علاقات رأسية بين الحاكم والمحكوم وبين الأب والطفل. هذه العلاقات تتكرر ليس فقط في المجتمع الأوسع، ولكن أيضاً في العلاقات بين الدولة والمواطن. وتؤسس هذه الآلية لثقافة الهيمنة والتبعية في الحياة الاجتماعية والسياسية (شرابي، 1998، ص: 6-8). وقد تفاعلت هذه الهيمنة التقليدية (الأبوية) مع الحداثة في العالم العربي المعاصر. فالمجتمع العربي “ليس حديثاً وليس تقليدياً” في نفس الوقت (شرابي، 1998، ص 4). وأطلق شرابي على هذه التركيبة الهجين “الأبوية الجديدة”، والتي تؤثر على الحياة الاجتماعية والسياسية في العالم العربي. ونتيجة لذلك، فقد سادت في الدول العربية أشكال حديثة مشوهة، بغض النظر عن البناء المؤسسي والتشريعات الحديثة،. ووفقاً لشرابي (1998، ص: 7)، فإن هذه الدولة “من نواح كثيرة ليست أكثر من نسخة حديثة من السلطة الأبوية التقليدية”.

وفي إطار مشاركة معظم النهج االذي تبناه شرابي بأن الأبوية ظلت النمط السائد للقيادة في سياسة الشرق الأوسط على مدى قرون، أكد بيل وسبرينج بورج (1990) على الدور المحوري للمجموعات المعاونة والمؤسسية في النظام السياسي الغربي. وكان ما يميز بنية المجموعة المهيمنة على الحكم في العالم الإسلامي هو أنها مجموعة “غير رسمية” أكثر من كونها “مجموعة رسمية”. حيث يتطلب تشكيل بنية مجموعة رسمية قابلة للبقاء:

1- مستوى معقول من مهارات التنظيم،

2- درجة أدنى من مدى الثقة والتعاون،

3- أموال ضخمة لتمويل المعدات والتوظيف،

4- التسامح السياسي واستعداد من جانب النخب السياسية لتحمل وجود مثل هذه المجموعات.

ووفقاً لبيل و سبرينج بورج (1990، ص: 89)، فإنه نادراً ما تكون الشروط الواجب توفرها في مثل هذا الهيكل التنظيمي موجودة جميعها في مجتمعات الشرق الأوسط.

وانتقدت أندرسون بشدة توجه بيل وسبرينج بورج. وأكدت أنه حتى الأسرة في المجتمع العربي، وليس المجموعة المعقدة من الأسر التي تشكل القبائل، تفي بمعظم شروط تشكيل جماعة رسمية. وقالت إن الشرط الرابع فقط – التسامح السياسي – غير موجود في العالم العربي (أندرسون، 1995، ص 83). كما لفتت أندرسون الانتباه إلى الهجرة في المناطق الحضرية وهجرة الأيدي العاملة، والتي غيرت تركيبة المجتمع وقلصت نسبة “الأبوية” بشكل عام. ويُشكك معظم العلماء اليوم في التفسيرات المرتبطة بالثقافة. ويوافق فيش (2002، ص 30) على بعض المآخذ المتعلقة بتفسير السياسة من خلال العلاقات الأسرية؛ ومع ذلك، فقد حذر من أنه لا ينبغي التقليل من أهمية هذا الأمر. وهو يرى أن “الأفراد الذين اعتادوا بشكل أكبر على العلاقات الهرمية الصارمة في حياتهم الشخصية قد يكونون أقل عرضة لمقاومة هذه الأنماط من السلطة في السياسة”. وبالتالي، فإن معاملة المرأة هي أمر مهم في هذا الخصوص، ولكنه عامل واحد فقط من بين عدة عوامل (فيش، 2002، ص: 23-32).

 وبشكل عام، تعتبر التفسيرات الثقافية عامل الثقافة شرطاً أساسياً لنجاح تطبيق الديمقراطية وتعتقد أن هناك خطأ ما في الثقافة العربية. ومع ذلك، فإن البحوث والبيانات التجريبية في العالم العربي تشير إلى عكس ذلك. فوفقاً للبيانات التي تم جمعها من 20 دراسة استقصائية مختلفة أجريت في تسع دول عربية بين عامي 2000 و 2006، فإن الدعم الشعبي للديمقراطية واسع الانتشار في المنطقة. وتشير أيضاً البيانات الشاملة لمنطقة الشرق الأوسط والتي جاءت نتيجة لـ “استطلاع القيم العالمية” إلى أن دعم الديمقراطية في العالم العربي مرتفع أو أنه أعلى من أي منطقة أخرى (تيسلر وجاو، 2005؛ تيسلر وجمال، 2008). ووفقاً للورنس روزن (2006)، فإن الثقافة مهمة ولكن هذا لا يشير إلى أن هناك شيئاً متأصلاً في الثقافة العربية أو الإسلام يمنع تطور الديمقراطية. وقال إن بناء المؤسسات قد يتبع مساراً مختلفاً في العالم العربي عنه في الغرب. وحذر روزن من الافتراضات المعدة سلفاً بأن الهياكل الدستورية الغربية سوف تفي بالضرورة بالاحتياجات المحلية في الشرق الأوسط (روزين، 2006، ص: 177).

 تأثير الحاضر

 دور الغرب: تعزيز الديمقراطية

 من المهم أن نلاحظ تأثير القوى الخارجية على عملية التحول الديمقراطي في جميع أنحاء العالم. وتلعب عملية توسيع الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، دوراً مهماً في دمقرطة أوروبا الشرقية. إن لضغوط وحوافز الاتحاد لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على إقرار الديمقراطية، ليس فقط في الدول الأعضاء، ولكن أيضاً في الدول المرشحة للانضمام إليه. ومع ذلك، فإن الضغوط الخارجية التي تهدف إلى دمقرطة المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة لم تجلب الديمقراطية إلى الشرق الأوسط. وخلال سنوات الحرب الباردة تم دعم الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط من قبل كلتا الدولتين العظميين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. لقد قدموا الأسلحة والدعم الفني والمالي بصرف النظر عن نوع النظام الذي تقدم له هذا االدعم ما لم يكن يشكل تهديداً على مصالحهم. وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فرضت الولايات المتحدة سياسة جديدة تستند إلى دعم عملية التحول إلى الديمقراطية من أجل تأمين الأنظمة الموالية لأمريكا ضد تهديدات الحركات الإسلامية المتطرفة التي تزداد شعبيتها في المنطقة. وبعد الحادي عشر من سبتمبر، دعمت الإدارة الأمريكية سياسة تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط. ففي البداية، ركزوا في الأغلب على تعزيز إقامة انتخابات حرة ونزيهة وإصلاح مؤسسات الدولة؛ وفي وقت لاحق، أصبح دعم المجتمع المدني والحقوق المدنية وحقوق الإنسان جزءاً من برامج المساعدات الديمقراطية. ومع ذلك، لم تؤدي كل هذه الجهود إلى إحداث تغيير سياسي حقيقي في الشرق الأوسط. وفي ترويجها للديمقراطية، اتبعت حكومة الولايات المتحدة نمطين اثنين، أحدهما لـ “أصدقاء” الولايات المتحدة والآخر لـ “خصومها” (دالاكورا، 2005). فكان الضغط الذي تمارسه على “الأصدقاء” محدودا للغاية. وبدأت بعض الأنظمة مثل البحرين وقطر والكويت واليمن والسعودية ومصر والأردن والجزائر والمغرب في إجراء إصلاحات، ولكن بشكل محدود وبطريقة خاضعة تماماً للرقابة من النظام (دالاكورا، 2005، ص: 965).  وبسبب تعدد أولويات الأمن والطاقة في الغرب  لم تواجه معظم الأنظمة الاستبدادية ضغوطاً خارجية حقيقية ما لم تهدد مصالح الغرب الحيوية. ونتيجة لذلك، لم تحد هذه الإصلاحات من الصلاحيات الكبيرة الممنوحة لقادة هذه الدول؛ وفي كثير من الحالات، ساعدتهم الإصلاحات على تعزيز حكمهم وإحكام قبضتهم. وباختصار، فقد كان تحقيق الديمقراطية في المنطقة دائماً هدفاً ثانوياً تطغى عليه المخاوف الأمنية الحيوية للولايات المتحدة وأوروبا. وكما أوضح كاروثرز، “عندما يبدو أن الديمقراطية تتناسب مع المصالح الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة تعزز الديمقراطية. وعندما تصطدم الديمقراطية بالمصالح المهمة الأخرى لها، يتم التقليل من أهميتها أو حتى تجاهلها” (كاروثرز وأوتاواي، 200، ص: 3).

وبالمثل، أعطى التوجه إلى تعزيز الاتحاد الأوروبي للديمقراطية الأولوية للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي. فتجاهلت معظم الدول الأوروبية القمع السياسي للأنظمة لصالح مصالحها الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، حصلت مصر، على الرغم من القمع السائد للنظام، على أكبر قدر من المساعدات المالية الأوروبية للحفاظ على الوضع الراهن في الشرق الأوسط الذي أسست له معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979. فقد منحت الدول الأوروبية بشكل فردي والاتحاد الأوروبي كمنظمة الأنظمة الاستبدادية بالمساعدات المالية؛ ومع ذلك، فقد قللوا من اتصالهم بالجماعات السياسية الإسلامية التي واجهت مضايقات أشد من هذه الأنظمة. وبالاختباء وراء ذريعة أن “الإسلاميين قادمون”، تركت أنظمة الشرق الأوسط مساحة محدودة للغاية للقوى الإسلامية غير العنيفة للانخراط في السياسة. فعلى الرغم من السماح للأحزاب السياسية بالترشح للانتخابات في الأردن والكويت واليمن والمغرب، فقد تعرضت للقمع المستمر من قبل الحكام عندما كانوا يُظهرون أداءً جيداً في أي انتخابات. وكان رد فعل الاتحاد الأوروبي على قمع الأنظمة للإسلاميين هو الصمت.

 وتكمن المشكلة الرئيسية لتعزيز الديمقراطية الغربية في أنه تُعطى الأولوية للانتخابات متعددة الأحزاب على أبعاد أخرى للديمقراطية، مثل الحريات المدنية. وبالإضافة إلى ذلك، يجادل ليفيتسكي وواي (2010) بأن الضغط الخارجي من أجل التحول إلى الديمقراطية ليس له نفس التأثير على كل دولة؛ فالنتيجة تعتمد على تأثيرات “النفوذ المالي” و “الارتباطات”. إذا كانت الدولة غير الديمقراطية عرضة للضغط من الغرب (النفوذ)، وكانت هناك روابط واسعة عبر الحدود وتدفقات مالية تربط بين الطرفين، فإن الضغط سيكون عندئذٍ فعالاً. وخلاف ذلك، فإن درجة فعالية الضغط الخارجي محدودة، كما هو الحال في الشرق الأوسط. ويشرح ليفيتسكي وواي (2010 ، ص 361) كيف تشكل موارد الطاقة وقضايا الأمن جدول أعمال تعزيز الديمقراطية في الغرب وتحد من تعرض المستبدين للضغط الخارجي. يفمكن للمملكة العربية السعودية أو مصر، على سبيل المثال، أن تجادل بسهولة بأن الانفتاح السياسي قد يعرض المصالح الأمنية الأمريكية أو وصول الغرب إلى النفط للخطر. ويساعد استغلال الهموم الأمنية المختلفة للغرب الأنظمة الاستبدادية في المنطقة في الحفاظ على الدعم الدولي لها (بيلين، 2004، ص 149).

 وبعد مرور ما يقرب من 30 عاماً، تبدو نتائج الترويج للديمقراطية في الغرب غير ملموسة وغير فعالة في الأغلب الأعم. وقد يكون التوسع في الانتخابات متعددة الأحزاب في الشرق الأوسط النتيجة الوحيدة الملحوظة لهذه العملية الطويلة، لكن الانتخابات لم تجلب الديمقراطية؛ لقد أدت إلى ترسيخ الوضع الاستبدادي القائم في معظم الحالات.

الانتخابات كأداة لنظام استبدادي

 لدى معظم دول الشرق الأوسط اليوم شكل من أشكال الأحزاب السياسية وانتخابات منتظمة. ومع ذلك، فإنه في هذه الأنظمة، لا يعني وجود انتخابات متعددة الأحزاب أنه خطوة نحو تحقيق الديمقراطية لأنها لا تسمح بمنازعتها في ذلك بشكل كبير ولا تزال السلطة السياسية ثابتة في أيدي هذه الأنظمة. فهي تسمح لحركات المعارضة بخوض الانتخابات فقط عند ضمان عدم تعريض سلامة سلطتها للخطر. ومن ثم لا يسمحون بإجراء انتخابات حرة ونزيهة (براونلي، 2007، ص 6). وفي معظم الحالات، يتم حظر أو استبعاد أحزاب المعارضة من الدخول في المنافسة الانتخابية، ويتم وضع زعماء المعارضة في السجون عندما يُشكلون تهديداً للنظام. ويُمنع المراقبون المستقلون أو الأجانب من التحقق من النتائج ومراقبتها، مما يوفر فرصاً واسعة للتزوير في الأصوات (ليفتسكي و واي، 2002، ص: 54). وعلى الرغم من عدم رغبتها في قبول نتائج الانتخابات الديمقراطية، فإن عدد الأنظمة الاستبدادية التي تتبنى انتخابات متعددة الأحزاب يزداد يوماً بعد يوم. فمن عام 1975 إلى عام 2000، عقدت 44 دولة انتخابات محدودة متعددة الأحزاب في ظل ظروف الاستبداد المستمر. ونتيجة لذلك، أصبح استبداد الانتخابات شكلاً حديثاً من أشكال الاستبداد (براونلي، 2007، ص: 25).

 وإذا كانت الانتخابات لا تعبر عن مطالب الناخبين، فما الهدف الذي تحققه الانتخابات في هذه الأنظمة الاستبدادية؟ أوضح بوهلر (2013) هذا الهدف باستخدام استعارة “صمام الأمان”. فالانتخابات تساعد الأنظمة الاستبدادية على إضعاف واحتواء المعارضة السياسية مع تلبية مطالب الديمقراطية في الداخل والخارج. وفي دراسة الحالة التي أجراها على الانتخابات في المغرب، أوضح بوهلر كيف تعاملت النخب والنظام الحاكم في المغرب مع القواعد الانتخابية والمؤسسات الرسمية لتقويض المعارضة الإسلامية بين عامي 2007 و2010. ووفقا له، فقد كانت أفضل وسيلة لكسر المعارضة أن يتم توظيف التغييرات التي أُجريت على قوانين الانتخابات وتجنيد المؤسسات السياسية الرسمية (مثل الأحزاب السياسية) ووسائل الإعلام لتعمل لصالح النظام. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القيام بالتلاعب في نتائج الانتخابات هو بالتأكيد أكثر فائدة وأقل إشكالية من استخدام القوة العسكرية الغاشمة لنزع فتيل المعارضة (بوهلر، 2013، ص 151).

وتلعب الانتخابات دوراً مميزاً في تحديد استقرار النظام من خلال مساعدة الحكام ليس فقط في قمع المعارضة والسيطرة على الناخبين ولكن أيضاً في إدارة النخب الحالية. فقد أكد بوهلر على الحاجة إلى “حزب حاكم” في أي دولة استبدادية. وفي تفسيره لذلك، يقول إن الحزب الحاكم يجعل النظام أقوى من حكم الديكتاتور صاحب الكاريزما أو العنيد أو عديم الرحمة لأن الحزب يوفر الحلول للنزاعات التي تحدث بين النخب ويحول دون استيائهم مما قد يضعف النظام (بوهلر، 2013، ص: 152). فإرضاء النخب أمر هام لمستقبل النظام. ويُظهر البحث التجريبي الذي أجراه (ألبرتوس ومينالدو، 2012، ص: 165) أن الانتقال الديمقراطي يكون أكثر احتمالاً إذا تمكنت النخبة من ضمان الحفاظ مصالحهم. وبهذا المعنى، فإن الانتخابات الاستبدادية مصَمَمة بطريقة تضمن تقاسم السلطة بين ساسة الحزب الحاكم. وفي الحالات التي لا تحظر فيها الأنظمة الاستبدادية المعارضة، يسمح النظام للنخبة بإنشاء أحزاب سياسية مستقلة لهم ويضمنوا لهم أن يكون لها مكان في الهيئة التشريعية (ماجالوني، 2006، ص: 8؛ براونلي، 2007، ص: 203). وفي الوقت نفسه، تشير الانتصارات الساحقة لنظام ما إلى أن النخبة ليس لديها أي مستقبل سياسي خارج النظام الحاكم. فإذا امتثلوا لقواعد الحكم الاستبدادي، فقد يحصلون على السلطة والوظائف والمصالح التي يوزعها من يمسك بزمامها. ولا يقوم النظام من خلال ذلك إلى تثبيط المعارضة المحتملة فحسب، بل يعزز كذلك دعم النخب للنظام (ماجالوني، 2006، ص: 16-19؛ لاست-أوكر، 2009، ص: 128، 130).

ويمكن أن تتحول الانتخابات إلى فخ لجماعات المعارضة تحت النظام الاستبدادي. فبادئ ذي بدء، تزود الانتخابات النظام بمعلومات عن مؤيديه ومعارضيه. هذه المعلومات مفيدة للغاية ليس فقط للسيطرة على المعارضة وقمعها عند الضرورة ولكن أيضاً لفحص المؤيدين واختبار ولائهم. وعلاوة على ذلك، فإن الانتخابات والعمليات الانتخابية السابقة تخدم النظام من خلال السماح له بترتيب الانتخابات وفقاً للدعم الجماهيري للحزب الحاكم وتوزيعه الجغرافي (ماجالوني، 2006، ص: 9).

وتعمل الهيئات التشريعية والانتخابات الاستبدادية أيضاً على تقسيم المعارضة. فيقوم المتنفذون في النظام بتقسيم المعارضة عن طريق منح تنازلات محدودة لجزء صغير منها وترك باقي المعارضة خارج هذه التنازلات (ماجالوني، 2006، ص: 9؛ لاست-أوكر، 2009). ويوضح التحليل المقارن لإيلين لاست-أوكر (2004) عن سياسات الأنظمة ضد المعارضة بعد الانتفاضات الشعبية في الأردن والمغرب كيف أن النظام الاستبدادي يقوي نفسه من خلال تفعيل استراتيجية “فرق تسد”. وتتمتع النخب الاستبدادية بسلطة تحديد المعارضين الذين قد يشاركون أو لا يشاركون في النظام السياسي الرسمي. ووفقاً لتصنيف لاست-أوكر، يؤدي هذا الاختلاف إلى ثلاثة أنواع من البيئات السياسية: غير مقسمة-حصرياً، وغير مقسمة- مع احتواء البعض، ومقسمة. ففي بيئة غير مقسمة، لا يقسم الحكم الاستبدادي المعارضة؛ فهو يسمح إما لهم جميعا أو لا أحد منهم بالمشاركة في العملية السياسية. في البيئة المنقسمة، في المقابل، يسمح النظام لبعض المعارضين السياسيين بالمشاركة في النظام السياسي مع استبعاد الآخرين (لاست-أوكر، 2004، ص: 160). ووفقاً لنتائج دراسة الحالة التي أجرتها لاست-أوكر، عندما لا تستطيع النخب الحالية خلق انقسامات بين جماعات المعارضة، إما عن طريق إتاحة الوصول إلى المشاركة السياسية أو عن طريق منعها تماماً، فمن الأرجح أن تقوم نخب المعارضة بالحشد للاضطرابات السياسية. ومع ذلك، عندما ينجح النظام في إحداث الانقسامات بشكل فعال في صفوف المعارضة السياسية ويحولهم إلى معسكرات موالية وأخرى راديكالية، يكون المعارضون أقل قدرة على التعبئة من أجل الاضطرابات السياسية (لاست-أوكر، 2004، ص: 159).

 وعلى الرغم من وجود العديد من الأدلة على إمكانية تحويل الانتخابات إلى أداة في أيدي الحكام الاستبداديين للحفاظ على النظام، فإن بعض الكتاب يجادلون بأن الانتخابات يمكن أن يكون لها تأثير مزعزع للاستقرار الذي ينشده الحكام، أو حتى في إرساء الديمقراطية. فقد زعم فيليب كونتز ومارك تومسون (2009) أنه في الاستبداد الانتخابي، يكون للاحتيال في الانتخابات القدرة على إثارة احتجاجات واسعة النطاق. وقد تؤدي إلى حشد المواطنين العاديين، وتعزيز المعارضة، والمساعدة على التغلب على الخوف من العمل الثوري الجماعي وتتحول إلى محرك يمكنه تحطيم النظام (كونتز وتومبسون، 2009، ص: 272). ويولي براونلي (2007) أهمية للانتخابات الاستبدادية. ويذكر أن التحول إلى الاستبداد من خلال انتخابات متعددة الأحزاب لا يمثل خطوة غير مقصودة نحو تحقيق الديمقراطية الكاملة، لكن لا يمكن حماية الحكام بشكل تلقائي من خلال الانتخابات التي يتم التلاعب بها. ويرى براونلي أن الانتخابات الاستبدادية هي مرحلة في عملية سياسية طويلة قد تؤدي إما إلى استبداد دائم أو إلى فرص لإرساء الديمقراطية. وعلى الرغم من أن الانتخابات في الأنظمة الاستبدادية ليست نزيهة أو حرة، فإن براون يشير إلى أن هذه الانتخابات توفر معلومات عن الحكام ونقادهم والفصائل المتنافسة التي تدعمها في عموم السكان. ومن المؤكد أنه يمكن التلاعب بالانتخابات وأنها لا تحدث تغييراً كبيراً، ولكنها تؤدي إلى الكشف عن الاتجاهات السياسية (براونلي، 2007، ص: 6-9).

العسكر: في أي جانب؟

 لطالما كان الجيش في الشرق الأوسط فاعلاً سياسياً مهماً يلعب دوراً رئيسياً في التاريخ السياسي للمنطقة. ووفقاً لأحد الآراء في ذلك، فإن هذا اعتماد تمييز القوات المسلحة ينبع من الموروث التاريخي للمنطقة المتمثل في (البرايتورية[3] أو هيمنة الجيش) أو (الباتريونيالية أو السلطة الأبوية الوراثية)، والذي يعود إلى عهد الإمبراطورية العثمانية (أندرسون، 1987، ص 2). فقوات الأمن إما تسيطر على الدولة مباشرة أو تعمل كجهاز أساسي لنظام مدني استبدادي؛ لذلك، فإن لديهم تأثير كبير على مصير التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط. تقول بيلين إن “الانتقال الديمقراطي لا يمكن تنفيذه بنجاح إلا عندما يفتقر جهاز الدولة القسرية إلى الإرادة أو القدرة على سحقه. وحيثما ظل هذا الجهاز القسري سليماً ومعارضاً للإصلاح السياسي، فلن يحدث انتقال ديمقراطي”. ووصفت بيلين هذا بأنه وضع استثنائي حقيقي في هذه المنطقة (بيلين ، 2004 ، ص 143).

وترى بيلين كذلك أنه لا تتطلب قوة الاستبداد قدرة الأجهزة القسرية فحسب، بل أيضاً إرادتها لقمع المعارضة. كما أكد براونلي على العلاقة بين قدرة النظام وجهازه الأمني. ويشير كلا الباحثين إلى أطروحة لـ ثيد اسكوكوبول (1979) ومفادها أن الثورات لا تتحقق إلا عندما يفقد الجهاز القسري للدولة إرادته أو قدرته على قمع خصومه (بيلين، 2004، ص: 143؛ براونلي، 2007، ص: 210). وقد أثبت البحث التجريبي لألبرتوس ومينالدو (2012) أيضاً أن زيادة القدرة القسرية في ظل الاستبداد له تأثير سلبي قوي على مستوى الديمقراطية في بلد ما وكذلك على احتمالية التحول الديمقراطي. ففي الشرق الأوسط، كانت لدى قوات الأمن في العديد من الدول هذه القدرة والإرادة، لكن كيف أدارت هذا الأمر؟ وأشارت بيلين إلى العوامل التي تحدد قدرة وإرادة الجهاز القسري. أول هذه العوامل هو الصحة المالية. بمعنى آخر، عندما يتعذر على الجيش دفع الرواتب أو ضمان إمدادات الأسلحة والذخيرة، يتفكك الجهاز من الداخل (بيلين، 2004، ص 143). ومن هنا فإن القدرة الاقتصادية للدولة مهمة. إن الدول الغنية بالنفط أو المستفيدين الرئيسيين من عائدات الريع المختلفة لا تتردد في إنفاق الأموال للجيش (مايكل روس، 2001، ص: 356). وادعى روس كذلك أن الإيرادات الريعية لها تأثير قمعي من خلال مساعدة القادة الاستبداديين على بناء قوات الأمن الداخلية الخاصة بهم لقمع حركات الاحتجاج. وحتى الدول الفقيرة تجعل من أولويتها الأولى دفع رواتب الجيش من أجل تعزيز أجهزتها الأمنية (بيلين، 2004، ص: 148). إن دول المنطقة رائدة على مستوى العالم في نسبة الناتج المحلي الإجمالي التي تنفق على الأمن. ووفقاً للتقرير الأخير لمركز أبحاث الأمن الداخلي (2014)، فإنه في حين أن قادة السوق هما الصين والولايات المتحدة، من حيث إجمالي الناتج المحلي، فإن دول الشرق الأوسط تنفق ما بين ضعفي إلى أربعة أضعاف ما تنفقه القوى العظمى على الأمن على مستوى العالم.

وفي هذا الصدد، تعد المساعدات الخارجية حاسمة، خاصة بالنسبة للبلدان الفقيرة في المنطقة لتقوية أجهزتها الأمنية. حيث أكدت بيلين على دور الدعم الدولي في تشكيل متانة قوات الأمن. فإذا فقدت المؤسسة الأمنية هذا الدعم المالي أو الفني أو السياسي الهام، فمن المرجح أن تفقد ليس فقط القدرة ولكن أيضاً الإرادة في التمسك بالسلطة (بيلين، 2004، ص 143-144). ومن أجل الحفاظ على المساعدات الخارجية، يتلاعب القادة الاستبداديون بـما يُطلقون عليه “خطر الإسلاميين المتطرفين”. ويُعد الصراع العربي الإسرائيلي ذريعة أخرى تستخدمها هذه الأنظمة لتبرير وزيادة قدرتها العسكرية. وقد بين ستيبان وروبرتسون (2003) أن التهديد الذي تشكله إسرائيل على الدول العربية يشار إليه غالباً على أنه سبب لإنفاق الأموال على المؤسسة الأمنية القوية وبناء جيوش كبيرة في الشرق الأوسط. وقد لعبت هذه الحالة الطارئة دوراً مهماً في تعزيز الاستبداد في المنطقة. فعلى الرغم من أن الصراع العربي-الإسرائيلي يمثل ديناميكية مهمة في السياسة الإقليمية، فإنه ليس محدداً للاستبداد في المنطقة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن تفسير سبب وجود جيوش كبيرة في بلدان بعيدة عن منطقة الطيران الإسرائيلية، مثل المملكة العربية السعودية أو المغرب أو تونس.

ويمثل المستوى المؤسسي لقوات الأمن عاملاً مهماً آخر يحدد قدرة وإرادة المؤسسة الأمنية ضد الانتفاضات الداخلية. ووفًقا لبيلن، فكلما كانت المؤسسة الأمنية والعسكرية ذات طابع مؤسسي أفضل، وكانت معايير الدخول والترقية فيها منطقية، في ظل علاقات أساسية بالسلطة التنفيذية، كلما كانت أكثر استعداداً للسماح بالإصلاحات السياسية. إن الجيوش الأقل مؤسسية تكون أكثر مقاومة للإصلاحات الديمقراطية. في ظل السلطة الأبوية، فإن لدى الضباط سبب للخوف من أن تكون أوضاعهم في خطر من الإصلاحات السياسية بينما يعتقد نظراؤهم في الجيوش المؤسسية أنه يمكنهم حماية مكاسبهم وسلطتهم بعد الإصلاحات (بيلين، 2004، ص: 144-145). في معظم دول الشرق الأوسط، يحكم الجيش المنطق الأبوي. ويمكن للعلاقات الأبوية الواسعة أن تساعد النظام على تحمل التحديات وهزيمة خصومه المحليين (براونلي، 2002، ص: 40-41). ففي الأردن والمغرب، على سبيل المثال، يعيّن الملك أقاربه الذكور بانتظام في مناصب عسكرية رئيسية؛ وفي كل من المملكة العربية السعودية وسوريا ، فإن فروع الجيش والأمن بالكامل هي شؤون عائلية (بيلين، 2004، ص: 149). وعلى النقيض من ذلك، في مصر وتونس وتركيا، أصبح الجيش مؤسسياً للغاية. وهذا أحد العوامل التي تفسر سبب دعم الجيش للانتفاضة ضد المستبدين في مصر وتونس خلال الربيع العربي.

 وتجادل بيلين بأن التكلفة المحتملة لقمع حركات المعارضة لها تأثير على قدرة وإرادة قوات الأمن والنظام. إن التكلفة السياسية والاقتصادية لقمع المجموعات الصغيرة نسبياً أقل من قمع المجموعات الكبيرة (بيلين ، 2004 ، ص 146). وبالتالي، ففي ظل الحكم الاستبدادي القوي المدعوم من جيش كبير، يظل لدى الاحتجاجات الجماهيرية فرصة في إجبار النظام على الإصلاح. ومع ذلك، فإذا كانت تكلفة الإصلاح أعلى من قمع المتظاهرين وكان النظام لديه القدرة على القيام بذلك، فقد تختار النخب الاستبدادية قمع الانتفاضة دون الانتباه إلى حجمها.

 وتُعَد العلاقة القوية بين النظام وجهازه القسري أحد العوامل الرئيسية التي تدعم الأنظمة الاستبدادية القوية في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أن دعم القوات المسلحة ليس مضموناً دائماً، إلا أن الجيوش موالية للحكام الاستبداديين نتيجة للتركيبة الأبوية الموروثة في معظم دول الشرق الأوسط. ولا يختلف المواطنون في دول الشرق الأوسط كثيراً عن غيرهم من الأشخاص من حيث المطالبة بالحقوق. وليس من الصعب أن نجد أعمال شغب وانتفاضات وحركات احتجاجية في تاريخ المنطقة: مثل أعمال الشغب التي وقعت في حماه عام 1982 في سوريا، والإضرابات والثورات التي وقعت في الخمسينيات في المملكة العربية السعودية، وأعمال الشغب التي اندلعت عام 1977 في مصر، والاحتجاجات الاقتصادية في الأردن والمغرب خلال الثمانينات. ومع ذلك، فقد تم قمع أعمال الشغب هذه بعنف من جانب الحكومات، التي تنفق الكثير من ثروتها لبناء أجهزة أمنية قوية لمنع تطلعات السكان الديمقراطية.

التنمية الاقتصادية والدولة الريعية

 أحد أكثر الأساليب انتشاراً للأسباب الكامنة وراء الحكم الاستبدادي هو بناء علاقة بين النظام السياسي وحالة التنمية الاقتصادية. فبالاعتماد على نظرية الحداثة، يعتقد هذا النهج أن مستوى التصنيع والتنمية الاقتصادية (الثروة، التصنيع، التحضر، التعليم) مهم للغاية في هذا الخصوص. وزعم سيمور مارتن ليبسيت (1959) في نصه التأسيسي “بعض المتطلبات الاجتماعية للديمقراطية” أن الدول الأكثر تقدماً من الناحية الاقتصادية وفقاً لمؤشرات الثروة، والتصنيع، والتحضر، والتعليم ، تتمتع بفرص أكبر للحفاظ على الديمقراطية. وبالتالي، فإن متوسط ​​الثروة ودرجة التحول الصناعي والتحضر ومستوى التعليم أعلى بكثير في الدول الأكثر ديمقراطية (ليبست، 1959، ص: 75). وجادل ليبسيت بأن الثروة المتنامية والعوامل الاقتصادية الأخرى تسبب سلسلة من التغييرات الاجتماعية التي تؤدي إلى الديمقراطية. لذلك الديمقراطية غير قابلة للحياة في مجتمعات ما دون الحداثة. وعلى الرغم من حقيقة أن هذا النهجقد  تعرض لانتقادات حادة بسبب تبسيطه في السنوات التالية، فقد تم إعادة إنتاج نظرية الحداثة استجابة لموجة العولمة وإرساء الديمقراطية في التسعينيات. فتسلط هذه النسخة الجديدة منها الضوء على التغييرات الثقافية المستمرة مثل ظهور المساواة بين الجنسين من أجل التغلب على أوجه القصور في الإصدار المبكر للنظرية.

تعاني نظرية الحداثة من مشاكل في تفسير دمقرطة بعض الدول، مثل الهند، والتي لديها مستويات منخفضة نسبياً من الحداثة؛ أو الأنظمة الشيوعية والفاشية الأوروبية ذات المستويات العالية جداً من الدخل والقدرة على التعبئة الاجتماعية. لقد اقترح هينبوسك (2006) أن فشل الدول المعاصرة ذات الدخل المرتفع بسبب ثروات النفط في الشرق الأوسط في إضفاء الطابع الديمقراطي يظهر أيضاً أوجه القصور في نظرية الحداثة. وهو يرى أنه “لا يتم تجاوز عتبات الحداثة طالما أن الكثير من هذا الدخل مستمد من الريع الخارجي الذي يزيد (وينقص) دون وجود الكثير من التعبئة المجتمعية أو التعقيد الذي تعتقد نظرية الحداثة أنه يجعل الحكم الاستبدادي غير قابل للتطبيق” (هينبوسك، 2006، ص: 374-375). ثم كيف يمكن تفسير العجز في الديمقراطية في الشرق الأوسط عندما ينظر المرء بشكل خاص إلى البلدان الغنية بالنفط ذات الدخل العالي؟

ويشرح كثير من العلماء هذا الوضع الاستثنائي لدول الشرق الأوسط باستخدام الطبيعة المحددة لاقتصاد المنطقة على أساس دخل الريع. حيث تُستخدم نظرية الدولة الريعية على نطاق واسع منذ صياغة حسين مهداوي لها لأول مرة في عام 1970. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور ديمقراطيات جديدة، أصبحت النظرية أكثر تداولاً مرة أخرى لشرح عجز الديمقراطية في الشرق الأوسط. أشار هنتنجتون، على سبيل المثال، إلى أن الاتجاه الديمقراطي قد يتجاوز المنطقة لأن العديد من هذه الدول تعتمد اعتماداً كبيراً على صادرات النفط، مما يعزز سيطرة بيروقراطية الدولة (هنتنجتون، 1991 ب، ص: 31-31). وأكد ببلاوي (1990) وأندرسون (1995) وروس (2001) أن الكميات الكبيرة من ثروة النفط تتعارض مع إنشاء مؤسسة ديمقراطية. وعلى الرغم من أن هيمنة إنتاج النفط كمصدر للدخل في الشرق الأوسط، إلا أنه ليس المصدر الوحيد. فالدول الفقيرة المجاورة ترتبط بالاقتصاد النفطي من خلال هجرة العمالة وتحويلاتهم المالية. وبعض هذه الدول يحصل على معونة مباشرة من دول الخليج أو رسوم عبور للمرات المائية أو رسوم مرور لخطوط الأنابيب (بوسوسني، 2004، ص: 130). ومن المعلوم أن أكثر من نصف إيرادات الحكومة في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والكويت وقطر وليبيا تأتي من عائدات بيع النفط. وتحصل إسرائيل ومصر والأردن على كمية كبيرة من المساعدات الخارجية من الولايات المتحدة كل عام. بينما تتمتع حكومات الأردن وسوريا ومصر بإيرادات من رسوم مرور خطوط الأنابيب من أراضيها أو رسوم العبور والمرور عبر قناة السويس. وتعد تحويلات العمال مصدراً مهماً للنقد الأجنبي في مصر واليمن وسوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب (روس، 2001، ص: 329). كما تعد إيرادات السياحة مصدراً مهماً أيضاً، لا سيما بالنسبة لمصر وبعض دول شمال إفريقيا، كشكل آخر من أشكال الدخل (بوسوسني، 2004 ، ص 137).

 كيف تتسبب الدخول الريعية في عجز الديمقراطية أو هيمنة الاستبداد في الشرق الأوسط؟ تؤكد نظرية الدولة الريعية أن تحصيل إيرادات كبيرة ليس من الإنتاج أو الضرائب، بل من مصادر ريعية أخرى (كالثروة النفطية على سبيل المثال) يجعل الدولة منفصلة عن مجتمعها من حيث مصادر دخلها. وهذا في حقيقة الأمر يخلق عقلية ريعية، مما يتسبب في “كسر العلاقة السببية بين ’العمل والمكافأة‘. أما ’دخل المكافأة‘ أو ريع الثروة، فلا يرتبط بالعمل”؛ وهو معزول أيضاً عن الإنتاج (الببلاوي، 1990، ص: 88). وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدولة أو الحكومة التي لا تطلب ضرائب على التمويل، تكتسب القوة من توزيع كميات كبيرة من إيرادات الريع كوظائف وفرص رعاية اجتماعية. كما توفر قوة هذا التوزيع للدولة سلطة إدارة علاقات النخبة، وهذا ما يعتبر بديلاً أوسع للشرعية. ويتم تنظيم المصالح الاجتماعية والاقتصادية بحيث تحصل على حصة جيدة من هذا الريع. وعلى حد تعبير ببلاوي، فإن “المواطنة تصبح مصدراً للمنافع الاقتصادية” (ببلاوي، 1990، ص 89). ونتيجة لذلك، أصبح الناس يعتمدون اعتماداً كبيراً على الدولة في أسباب المعيشة، مما يمنعهم من ممارسة الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبهم. ويتم إعفاء الدولة من المساءلة داخلياً. هذا الهيكل الاقتصادي لا يروج لنظام استبدادي فحسب، بل يوفر أيضاً ثروة من أجل حمايته (أندرسون، 1987، ص: 10؛ هينبوش، 2006، ص: 379؛ روس، 2001).

 تبني نظرية الدولة الريعية علاقة إيجابية بين الديمقراطية وعملية دفع الضرائب وتقبل ذلك كمحرك رئيسي لإرساء الديمقراطية في الغرب. وطبقاً لهذا الرأي، تمنح الضرائب للمواطنين درجة من السلطة على الحكام للمساومة والمطالبة بالمساءلة والتمثيل في الحكومة. ونتيجة لذلك، فإن الحكومات التي تمول نفسها من خلال عائدات النفط من المرجح أن تكون سلطوية. وفي المقابل، فإنه من المرجح أن تصبح الحكومات التي تمول نفسها من خلال الضرائب حكومات ديمقراطية (روس، 2001، ص: 335). ومع ذلك، فبعض الأبحاث التجريبية أسفرت عن نتائج غامضة أو معاكسة حول تأثير الضرائب على الديمقراطية. فعلى سبيل المثال، يقول ووتربيري (1994، ص 29)، أنه “لا يوجد من الناحية التاريخية ولا في القرن العشرين أدلة كثيرة (في الشرق الأوسط) على أن دفع المواطنين للضرائب أثار مطالب لمساءلة الحكومات بخصوص استخدامها لأموال الضرائب. ومع ذلك، فقد أدت الضرائب الباهظة إلى احتجاجات، وخاصة في الريف، لكن لم يتم ترجمة العبء الضريبي إلى ضغوط لإرساء الديمقراطية”.

 منذ تقديم نظرية الدولة الريعية، تغير الهيكل الاقتصادي لمعظم دول الشرق الأوسط. ويلفت جراي الانتباه إلى دول مجلس التعاون الخليجي، البحرين والكويت وقطر وعمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي أكثر ارتباطاً بالعولمة، حيث أنفقت عائدات ثرواتها على تنمية اقتصاداتها ومجتمعاتها وحاولت تنويع إيراداتها لتقليل اعتمادها الكبير على النفط. وكان هناك أيضاً تغيير في علاقة الدولة بالمجتمع. ومع ذلك، فإن كل هذه التغييرات لا تعني حدوث تحول جذري في بنية نظم دول مجلس التعاون الخليجي. حيث إن هذه الدول لا تزال غير ديمقراطية. إنها تحمي طبيعتها الاستبدادية ولا تسمح لأي معارضة أو إصلاحات سياسية بتحدي سلطة الدولة (جراي، 2011، ص 2). وبالتالي، فإن نظرية الدولة الريعية تتمتع بالقدرة على شرح الديناميات السياسية بدلاً من الديناميات الاقتصادية. وأصبحت الهياكل الاقتصادية لهذه الدول أكثر تعقيداً مع التغير في السكان والعولمة وضغوط الأعمال والضرورات التي تفرضها الظروف الدولية الجديدة. ولذلك زعم جراي أن نظرية حالة الريعية الكلاسيكية غير كافية لشرح هذا الهيكل المعقد في اقتصادات مجلس التعاون الخليجي (جراي، 2011، ص: 36-37).

خاتمة

تخضع معظم دول الشرق الأوسط لأنظمة الاستبدادية منذ فترة طويلة. وعلاوة على ذلك، فقد استخدمت هذه الأنظمة أدوات الديمقراطية شكلياً للحفاظ على استقرار أنظمتهم. وتاريخياً، كان الشرق الأوسط أقل المناطق حرية في العالم. والسؤال هو: لماذا تقاوم دول الشرق الأوسط الديمقراطية؟ أو لماذا تتجذر الأنظمة الاستبدادية في هذه المنطقة؟ ومن المستحيل إعطاء إجابة بسيطة على هذا السؤال المعقد. حيث اتضح في العرض المختصر الذي قدمه هذا البح أن الكثير من الباحثين في هذا المجال يحاولون الوصول إلى إجابة لهذا السؤال. ولهؤلاء العلماء توجهات مختلفة في ذلك. حيث تحدد مارشا بريبشتاين بوسني (2005 ، ص 3) نهجين رئيسيين في الأدبيات العلمية السياسية حول الاستبداد وإرساء الديمقراطية: مدرسة “الشروط المسبقة”، التي تفرض جدلياتُها الضرورات الاقتصادية أو الثقافية أو المؤسسية لبدء التحول من الاستبداد؛ ومدرسة “التحول”، التي ترى أن التحول الديموقراطي هو خيار محتمل للنظام والجهات الفاعلة المعارضة يمكن أن يحدث في ظل مجموعة متنوعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”.

وتتمتع حجج المدرستين بوجاهة معينة، لكنها محدودة أيضاً في شرح البنية المعقدة للاستبداد في الشرق الأوسط. فالتاريخ، على سبيل المثال، يعطي نظرة ثاقبة لإقامة حكم استبدادي، ولكن لا يمكن فهم حاضر الشرق الأوسط من خلال النظر إلى الأسباب التاريخية فقط. وكما في أي مكان آخر في العالم، لا يمكن أن يكون مصير المنطقة مرهوناً بالتاريخ. إن تاريخ أوروبا مليء أيضاً بأمثلة للأنظمة الاستبدادية والملكية والديكتاتوريات. فمنذ وقت ليس ببعيد، في ثلاثينيات القرن العشرين، هيمن الصراع بين رؤى الاستبداد والديمقراطية في المجتمع على النضال السياسي في معظم الدول الأوروبية. لكن التحول الديمقراطي تحقق في النهاية. وشهد العقدان الأخيران تغيرات دورية وهيكلية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية هامة والتي تقلل من أهمية التاريخ في تأثيره على الحاضر. ويلقي الربيع العربي، على الرغم من المشاكل المستمرة التي صحبته، شكوكاً على الادعاءات بأن التاريخ أو الإسلام أو الثقافة العربية تشكل عقبة أمام الديمقراطية. وتعطينا هذه الحجج على الأكثر فكرة حول كيفية قيام الاستبداد بتأسيس نفسه أو إيجاد أرضية له في المنطقة، لكنها لا تشرح كيف حافظت هذه الأنظمة على بقائها.

 إن للظروف الحالية تأثير أكبر في تعزيز الأنظمة الاستبدادية على حساب التحول الديمقراطي. وكما تم عرضه هنا بشكل مختصر، تعمل هندسة الانتخابات وسياسة “فرق تسد” على تثبيط المعارضة وجعل الحفاظ على الحكم الاستبدادي ممكناً. أما في الحالات التي توجد فيها معارضة، فإنه يتم قمعها بواسطة جهاز قسري قوي، والذي يعززه الدخل الريعي (من الثروات) والدعم الغربي للأنظمة. وقد شهد الشرق الأوسط العديد من المظاهرات التي تطالب بالحقوق والمساواة الاقتصادية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ لكن في كل مرة كان يتم إسكات الناس وقمعهم بعنف من قبل قوات الأمن. لذلك، فإن إلقاء اللوم على الثقافة والدين في انتشار الأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة أمر شديد التبسيط. ومما لا شك فيه أنه يجمع دول المنطقة روابط تاريخية ودينية وثقافية، وأن لديهم هياكل اجتماعية ومشاكل اقتصادية متشابهة. إلا أنه رغم ذلك، يؤثر كل عامل من هذه العوامل تأثيراً مختلفاً على كل دولة على حدة. وبسبب ذلك، فمن الأفضل دراسة كل دولة على حدة لفهم أسباب عجز الديمقراطية.

 إن المثل العليا الديمقراطية ليست أهدافاً سهلة الوصول إليها. فقد تم تصنيف 45% فقط من دول العالم على أنها ديمقراطيات كاملة، مما يشير إلى أن غالبية الدول تم تصنيفها على أنها أكثر أو أقل في درجة الاستبداد. وحتى “الديمقراطيات الكاملة” مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، فإنها تواجه مشكلات. وفي القرن الحادي والعشرين، لا يزال من المستحيل تقريباً العثور على دولة لديها مؤسسات ديمقراطية تلبي جميع متطلبات الديمقراطية. وهذا بالطبع لا يعني أنه يجب أن نقبل بالحكم الاستبدادي. ومع ذلك، فإذا كان لا يزال من الصعب على الغرب أن يطبق المثل الديمقراطية التي نشأت كنتيجة لتجربته التاريخية، فكيف يتأتى أن نتوقع من بقية العالم أن يُطبقوا الديمقراطية دون مواجهة أي مشكلة؟ لا تزال هناك أسباب تدعو للتفاؤل بمستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط إذا قبلنا أن تتابع هذه الدول طريقها نحو الديمقراطية. وتُظهر التصنيفات أن نوعية الديمقراطية تقدمت في المنطقة كلها بعد الربيع العربي. صحيح أن تصنيفات الدول بما فيها مصر وسوريا والبحرين ولبنان انخفضت في مؤشرات 2014؛ ومع ذلك، فلا تزال اتجاهات الحرية أعلى مما كانت عليه قبل الانتفاضات (فريدوم هاوس ، 2014). إن التغيير الديمقراطي المستمر ليس مستحيلاً في المنطقة، لكنه يعتمد في الغالب على الظروف التي لا يشكلها الشعب بل التحالفات الإقليمية والدولية.

ملاحظات

 1- في كتابه، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين ، جادل صمويل هنتنجتون (1991 أ) بأن عملية التحول الديمقراطي في العالم المعاصر تحدث في ثلاث موجات بدأت في أوائل القرن التاسع عشر وتستمر حتى يومنا هذا. بدأت الموجة الأولى من الدمقرطة في عشرينيات القرن التاسع عشر مع اتساع نطاق الانتخابات لتشمل نسبة كبيرة من السكان الذكور في الولايات المتحدة واستمرت قرابة قرن من الزمان حتى عام 1926، وبذلك تشكلت نحو 29 ديمقراطية. ومع ذلك، فإنه مع صعود موسوليني إلى السلطة في عام 1922، بدأت موجة عكسية استمرت حتى عام 1942، وانخفض عدد الدول الديمقراطية في العالم إلى 12 دولة. وبدأت الموجة الثانية بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ووصلت إلى ذروتها في عام 1962 مع قيام 36 دولة ديمقراطية معترف بها في العالم. وأعقب ذلك موجة عكسية ثانية بين عامي 1960 و 1975 أدت إلى تراجع عدد الديمقراطيات إلى 30 فقط. ثم بدأت الموجة الثالثة في عام 1974 مع ثورة القرنفل في البرتغال، والتي استمرت خلال الثمانينات في دول أمريكا اللاتينية وآسيا والمحيط الهادي واستمرت في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

2- ترتبط الأدبيات التي كتبت عن الأبوية / الأبوية الجديدة ارتباطاً وثيقاً بالدراسات التي قام بها ماكس ويبر، وخاصة “الاقتصاد والمجتمع” (1922 [1978]). وتشير الأبوية إلى الهيمنة التقليدية. ويمكن وصفها بأناه شكل من أشكال الهيمنة السياسية التي تعتمد فيها السلطة على السلطة الشخصية والبيروقراطية التي تمارسها الأسرة المالكة، حيث تكون السلطة تعسفية بشكل رسمي وتحت السيطرة المباشرة للحاكم. ومن أجل المحافظة على سلطته، يعتمد الحاكم على الموظفين الذين يعتمدون عليه تماماً في الوظيفة والرعاية. كان صموئيل إيزنشتات (1973) أول من استخدم مصطلح “الأبوية الحديثة” وذلك للتفريق بينها وبين “الأبوية التقليدية”.

3- يشير مصطلح “البريتوريانية” إلى وضع / نظام تمارس فيه القوة العسكرية سلطة سياسية مستقلة عن طريق التهديد باستخدام القوة. ويكون للجيش القدرة على السيطرة على الهيكل السياسي وتغيير الحكومة [4].

*هذا المقال هو ترجمة لفصل في كتاب باكيس قاراقوش وجولدا قاراقوش ” الاستبداد في الشرق الأوسط قبل وبعد الربيع العربي” بالجراف ماكميلان، المملكة المتحدة، 2015.

 


الهامش

[1] في كتابه، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، جادل صمويل هنتنجتون (1991 أ) بأن عملية التحول الديمقراطي في العالم المعاصر تحدث في ثلاث موجات بدأت في أوائل القرن التاسع عشر وتستمر حتى يومنا هذا. بدأت الموجة الأولى من الدمقرطة في عشرينيات القرن التاسع عشر مع اتساع نطاق الانتخابات لتشمل نسبة كبيرة من السكان الذكور في الولايات المتحدة واستمرت قرابة قرن من الزمان حتى عام 1926، وبذلك تشكلت نحو 29 ديمقراطية. ومع ذلك، فإنه مع صعود موسوليني إلى السلطة في عام 1922، بدأت موجة عكسية استمرت حتى عام 1942، وانخفض عدد الدول الديمقراطية في العالم إلى 12 دولة. وبدأت الموجة الثانية بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ووصلت إلى ذروتها في عام 1962 مع قيام 36 دولة ديمقراطية معترف بها في العالم. وأعقب ذلك موجة عكسية ثانية بين عامي 1960 و1975 أدت إلى تراجع عدد الديمقراطيات إلى 30 فقط. ثم بدأت الموجة الثالثة في عام 1974 مع ثورة القرنفل في البرتغال، والتي استمرت خلال الثمانينات في دول أمريكا اللاتينية وآسيا والمحيط الهادي واستمرت في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

[2] ترتبط الأدبيات التي كتبت عن الأبوية / الأبوية الجديدة ارتباطاً وثيقاً بالدراسات التي قام بها ماكس ويبر، وخاصة “الاقتصاد والمجتمع” (1922 [1978]). وتشير الأبوية إلى الهيمنة التقليدية. ويمكن وصفها بأناه شكل من أشكال الهيمنة السياسية التي تعتمد فيها السلطة على السلطة الشخصية والبيروقراطية التي تمارسها الأسرة المالكة، حيث تكون السلطة تعسفية بشكل رسمي وتحت السيطرة المباشرة للحاكم. ومن أجل المحافظة على سلطته، يعتمد الحاكم على الموظفين الذين يعتمدون عليه تماماً في الوظيفة والرعاية. كان صموئيل إيزنشتات (1973) أول من استخدم مصطلح “الأبوية الجديدة” وذلك للتفريق بينها وبين “الأبوية التقليدية”.

[3] يشير مصطلح “البريتوريانية” إلى وضع / نظام تمارس فيه القوة العسكرية سلطة سياسية مستقلة عن طريق التهديد باستخدام القوة. ويكون للجيش القدرة على السيطرة على الهيكل السياسي وتغيير الحكومة.

[4] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

 لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

(المصدر: المعهد المصري للدراسات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى