مقالاتمقالات مختارة

جدلية التطرف و الاستبداد

جدلية التطرف و الاستبداد

بقلم أ. عبود العثمان

لكي نسهل على أنفسنا هذه الجدلية بين “التطرف” و”الاستبداد”-بعيداً عن أروقة الفلسفة ومنظريها- ولكي نصل إلى العلاقة بين هذين النهجين اللذين هما سبب شقاء المجتمعات البشرية وتخلفها عبر التاريخ، ولكي نصل إلى القواسم المشتركة بينهما، لا بد من التعريف بهما -مصطلحاً ومفهوماً-.
فالتطرف: هو الغلو في المعتقد-معتقد ديني او دنيوي- والنحو به ،مقصداً واتجاها،ً إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، وغالباً ما يأتي هذا المعتقد من خلفية فكرية ذات طبيعة منغلقة تنطلق من مقدمات لا تقبل الجدل أو التحاور حولها، للوصول بها إلى نتائج ومسلمات يعتقد المتطرف بصحتها وحتمية وقوعها ولا تحتمل الخطأ !

فالتطرف هنا ليس معتقداً وفكراً فقط، بل هو سلوك مجتمعي متشدد منغلق، مما يحتم على حامليه إتباع مسلكاً منضبطاً مختلفاً عن غالبية ابناء المجتمع.

أمّا المستبد فهو:المتفرّد بالأمر، الرافض لقبول فكرة مشاركة الآخرين باتخاذ القرار،وبأنه لا يريهم إلاّ ما يرى!
وللمستبد هيئات وصفات وأشكال عدة، ولا يقتصر مفهوم الإستبداد على نمط الحكم السياسي للدولة، بل يتخطاه إلى نماذج مجتمعية أخرى ،فقد يكون المستبد داخل الأسرة الواحدة، كأن يكون أباً أو أخاً أو أمّاً، يرغم بقية أفراد الأسرة على طاعته والإمتثال لإرادته. وقد يكون المستبد “معلّماً” يفرض على طلابه أسلوب تعلّم تلقيني، يكون الطالب فيه متلقياً فقط، ولا يسمح له بمناقشة معلمه أو بالإستفسار عن مسألة ما بشكل أوسع مما جاء به هذا المعلم.
وقد يكون المستبد، “رب عمل”، لا يرى في عماله سوى مجموعة بشرية مسخرة لخدمته وطاعته دون مراعاة لمشاعرها وحدود تحملها لما هو فوق مقدرتها وطاقتها.
وقد يكون المستبد “كاتباً”،او “مفكراً” لا يقيم وزناً لآراء الآخرين ويقلل من شأنهم، ولا يقبل نقداً أو اعتراضاً على ما يخطه قلمه.

ولكي لا نذهب في هذا الامر أبعد من المقصد، فإن المعني بالمستبد هنا هو: “الحاكم المستبد”الذي يحكم شعبه وبلده بطريقة قمعية، وبقوة قهرية، ترغم أبناء الشعب على طاعته والإمتثال لإرادته دون تردد، والإنصياع التام لقوانين مؤسسات حكومته التي هي من صنع يديه، والتي تعمل بسياسة تخويف وترهيب الشعب بأدوات أجهزة أمنية مجرمة.

وهنا، وبعد هذه المقدمة، نصل إلى الهدف من الكتابة في هذا الموضوع، لنقول:
هل ثمة علاقة جدلية او سببية بين الإستبداد والتطرف؟ أي هل يكون أحدهما سبباً لوجود الآخر؟ أو أن يكون نتيجة له؟
وللإجابة عن ذلك نقول:
إن كلاً منهما غالباً ما يتلازم مع وجود الآخر، فيكون سبباً ونتيجة في آن واحد، أي أن الإستبداد يؤدي إلى التطرف، والتطرف يؤدي إلى الإستبداد، فكيف يكون ذلك:
إن سلوك المستبد القمعي، وتهميشه للآخرين، وحرمانهم من المشاركة في القرار السياسي، يولّد لدى الآخرين مع مرور الزمن شعوراً بالإضطهاد، والإحساس بالدونية، فتولد في نفوسهم النقمة، ونزعة التمرد والبحث عن الذات المقهورة، ومن خلال هذه النزعات، تأتي الأفكار و الأيديولوجيا التي تحض المقهورين على الخروج عن الطاعة بأساليب عنفية متشددة، يغلب عليها النزعة الثأرية الإنتقامية، فيولد “المتطرف” نتيجة للإستبداد، ولا يرتبط هذا التطرف بدين أو مذهب او عرق، ومن الظلم أن نقرنه بقوم او بديانة كما نراه اليوم من تسويق لفكرة التطرف والإرهاب الإسلامي، ولو عدنا بالذاكرة للوراء، وبحثنا عن التطرف لوجدناه في صفحات التاريخ بأزياء ومسميات عدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، فنقول:
-أليست الحملات الصليبية على بلدان المشرق، ودوله الإسلامية خاصة، جاءت بتحريض من تطرف الكنيسة الغربية، بمسوغات دينية وضعها رجال دين مسيحيين متطرفين؟

  • أليست الصهيونية كحركة عنصرية وكدعوة دينية هي من صنع أحبار اليهود المتطرفين الذين وضعوا توراتهم المزورة في خدمة مشروعهم الإستعماري؟
    -أليست النازية، والفاشية، وكثير من الحركات العنصرية الغربية، تقوم على فكرة النقاء العرقي، وبأن الغربيين هم أسياد العالم، ولهم الأحقية في قيادته والسيطرة على شعوبه؟
    إذن:
    التطرف ليس جينات تورث في قوم او جماعة، وليس هو دعوة دينية نزلت من السماء، وليس للتطرف نظرية دنيوية وضعها مفكرون أصحاء العقول والسلوك، بل هو ظاهرة وحالة تظهر كلما كان هناك خلل في علاقةالحاكم بالمحكوم، وكلما زادت الشقة بينهما، لتصبح علاقة حاكم مستبد، بمحكوم مقهور، أي بظالم ومظلوم.

اما عن الكيفية التي تأتي بالحاكم المستبد، وكيف يكون للتطرف دور في صناعة الحاكم المستبد فهي كالتالي:
إن الفكر المتطرف، يحتاج بالضرورة إلى سلوك منضبط بشدة، وإلى تنظيم دقيق وأحياناً إلى السرية والغموض، وبالتالي فإن هذه الحالة تتطلب من المتبع للفكر المتطرف أن يكون صلباً متشدداً في قيادته للآخرين، ومنفذاً للأوامر التي تأتيه من مصدر أعلى دون تردد أو محاكاة عقلية، وصولاً إلى رأس الهرم في السلسلة التنظيمية، والذي تصبح له المكانة التي تضفي عليه صفات القدسية لدى الأتباع، وسرعان ما يصبح هذا الرأس -مع الأيام-قائداً تاريخياً، تُخلع عليه الألقاب والمسميات المقدسة! فإذا كان هذا الرأس قد أتى من خلال خلفية معتقد ديني متطرف، أصبح “إماماً” أو “خليفة” أو آية من آيات الله! وعلى هذه الشاكلة أيضاً ،ووفق هذه الآلية المتطرفة، جاء عتاة الإستبداد، فقد خرج “هتلر ” من بين صفوف التطرف النازي، و”موسوليني” من الفاشية، و”ماوتسي تونغ” و”ستالين” من التطرف الماركسي… وهكذا الأمثلة كثيرة.
أخيراً نستطيع القول، أن ثمة علاقة عضوية بين المستبد والمتطرف، وكأن لهم تلازماً في المسار، ووجود احدهما ضرورة لبقاء الآخر والعكس صحيح.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى