ثنائية الحطمة 1
بقلم د. فضل مراد
يقول الله سبحانه:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)..
هذه السورة تعالج موضوعين هامين:
الأول: أخلاق المجتمع.
الثاني: السياسات المالية المعوجة .
ويل سواء كان معناه الخزي والعذاب والتهلكة أو واد في جهنم، فهو يدل على أن هاتين الخصلتين لا يجوز فعل واحدة منها.
وقد تبلغ دلالة هذا اللفظ على التجريم والتحريم إلى درجة تصنيف هذا التصرف والفعل ضمن مصفوفة الجرائم الكبرى في الشرع (الكبائر(
– بل إن هذا التجريم لا استثاء فيه كما تعطيه لفظة
“لكل..” المفيدة للعموم
نعم.. إن جميع أنواع الهمزة اللمزة
لا يستثنى منها شيء، فلا توجد همزة مباحة ولا لمزة يمكن فعلها.
بل هي بأنواعها يشملها هذا الويل المفيد للتحريم.
إن الهمزة واللمزة على وزن «فُعَله» وهي تدل مع الهاء على المبالغة والكثرة.
وتصدق على سبعة معان: ذكرها أهل اللسان مسطورة في كتب التفسير
وحاصل معانيها.
راجع الى الغيبة والنميمة وعيب الناس والطعن فيهم سواء بالأقوال أو الحركات بل بأدنى الحركات..
نعم بأدنى الحركات وهذا ما لحظه ابن كيسان
بقوله الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ.
واللمز الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه.
يا الله …
إلى هذا الحد حمى الإسلام الأعراض وبنى الأخلاق.
إن هذه السورة المكية تحمل تشريعا لحماية القيم والأخلاق من الانحطاط والتصرفات الدونية.
يحمي الأعراض من القيل والقال..
إنه يريد مجتمعا طاهرا نقيا عفيفا..
واضحا في تعامله مع الآخرين..
ايها الاخوة …
لابد أن يجلس الإنسان في مجلس ثم يولي منه وهو آمن على عرضه من أدنى شيء.. نعم أدنى شي…
أدنى جرح للمشاعر، أدنى تنقص، أدنى حركة.
حتى حركة الحواجب التي تعبر عن انقباض القلب وضيقه قبل ضيقها هي.
أو حركة حاجب واحد الدالة على العلو والفخر والكبر..
أو النظر بطرف العين، أو حتى عدم النظر أعراضا وعدم مبالاة واكتراث.
هكذا تحمى الكرامات والاعراض في شريعتنا
بالله عليكم أي دين هذا الذي يحمي المشاعر من أدنى خدش، ويرفع معدل الأخلاق إلى مقاييس عالية.
نعم لابد أن تحافظ على مشاعر الآخر حتى بحركة العين.
بل والرأس والحاجب كما قال ابن كيسان في معنى الهمزة واللمزة.
أيها القارئ الكريم إن الشريعة جاءت لحماية الدين والنفس والمال والعقل والعرض وزدنا مقصدا سادسا هو حفظ الجماعة العامة قررنا ذلك في غير هذا الموضع
ونقول هنا إن حفظ الأعراض أحد المقاصد الكبرى التي جاءت بها الشريعة الغراء.
كن آمنا أيها الإنسان إذا كنت في أهل الإسلام، آمنا من كل جهات الأمن الشامل حتى ما يشمل المشاعر أن تجرح بتنقص أو عيب.
فهذا الدستور العظيم قد جرَّم من فعل هذا.
إنه الأمن الشامل في هذا الدين.
وهذا يعطينا دلالة أن شريعة الغاب وهتك الأعراض وترويع الآمنين وقتل الأبرياء لا تمت إلى ديننا بصلة.
عش آمنا بكل معنى الكلمة
فهذا الدين يحفظ عليك الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
إن مجتمعاتنا واجب أن تلتزم بهذا التشريع العظيم، لا لتعكس الدين وأخلاقه وقيمه ومكارمه فقط، بل لتتعبد الله بذلك وهذا ما يميز الفرد والمجتمع المسلم عن غيره.
نعم إنه يتعبد الله بهذا السلوك القويم.
لا يلتزم رياء ولا كسبا للعملاء بابتسامة صفراء واسعة لا يخطئها النظر من أول وهلة..
بل لأن الله أمره بهذا؛ لأن دينه نص على ذلك، فالأخلاق ولزومها والقيم والمبادئ والثبات عليها هي ضمن منظومة موحدة للتعبد لله وحده.
انظر إلى المجالس كيف أصبحت؟ إلى الأقلام كيف تتنابز وتتلامز، إلى الشعراء كيف يلمز بعضهم بعضا.
إن الهمزة اللمزة ليس خلقا بسيطا، بل هو عبارة عن متتالية فيزيائية معنوية متلاحقة.
فكما أن عيب ولمز الأشخاص والشخصيات محرم..
كذلك اللمز المجتمعي القائم على تنقص وكبر وبطر فوق الآخرين من مجتمع إلى مجتمع.
وهكذا اللمز واللمز القبلي الذي تقوم به قبيلة لأخرى حتى يضرب المثل في التنقص القبلي ببعض القبل وتفخر قبائل على أخرى بعددها أو قوتها أو أموالها أو موقعها المجتمعي أو الجغرافي.
و اللمز المناطقي القائم على المناطقية البغيضة حتى تتأثر التعاملات بالجغرافيا النفسية هكذا يمكن أن أسميها.
من أين أنت.. من أي البلاد؟ من أي منطقة؟
إن المناطقية والتلامز بها أو التفاخر هو معنى من المعاني الحيوانية لا غير.
أما النظر الشرعي فإن الله سبحانه وضع الشعوب والقبائل جغرافيا على وجه البسيطة وقسم بينهم المعيشة يحتاج بعضهم لبعض في ذلك.
والهمزة واللمزة النسبية والعرقية وهاهنا حلت كوارث بالأمة.
فأناس زعموا أن الله فصل عرقهم النسبي على الناس
فأقاموا الحروب وشرعوا لأنفسهم من الأموال وكانوا أسيادا وغيرهم عبيدا لهم.
وهذه البلية تعيشها الأمة اليوم.. دعوى التفضيل والحق الإلهي لطائفة من البشر.
وأما الهمزة اللمزة المذهبية والفكرية فههنا تسكب العبرات.. تنقص وتناكر وغيبة وتضليل وتفسيق وتكفير.
وهكذا الهمزة السياسية والصحفية والحزبية وهلم جرا
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)