بقلم الشيخ وليد الهويريني
أصبحت عين المراقب لا تخطئ حركة متسارعة من الحراك على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، والتي تسببت في حالات متفاوتة من التغيرات والتبدّلات التي طالت الكثير من الناس، وقد جُبل الإنسان على تسويغ أي تصرف أو موقف يبدر منه؛ فالإنسان بطبعه شديد الاعتداد برأيه وقناعاته، و”مطلق التغيير” ليس مذموماً بإطلاق.
فلو سلطنا عدسة التاريخ والرصد في سير الأئمة والعلماء والعظماء والساسة والعباقرة والأدباء لوجدنا من هذا الشيء الكثير، وعلى صعيد التصورات والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان يختلف تقييم المفكرين والعلماء بحسب خلفيّتهم العقدية والفكرية؛ فالثقافة الغربية المعاصرة – لضعف أو غياب شعاع الوحي الرباني في منظومتها الفكرية – تجعل “مطلق التغيير” قيمة يثنى عليها و يُحمد صاحبها، فخُواء القلب من العلم اليقيني يفضي لشعور متعاظم بأن “الثبات” على أي مبدأ يُعدّ أمراً مذموماً دائماً؛ فالمثقف الغربي يستحضر دائماً “النكبة الكبرى” في القرون الوسطى المظلمة فيما لو بقي ثابتاً على حاله، بل إنك تلحظ أن القيم الإنسانية المطلقة التي جاءت البشرية باحترامها “كالصدق” و”العدل” “وكرامة الإنسان” يتم دفنها وتهميشها في العقل الجمعي الغربي، فتصمّ الشعوب الغربية آذانها إذا تعلق الأمر بمصالح دولها الاستعمارية في العالم الإسلامي، ويبقى في تلك الشعوب قلة قليلة أهل عدل ووفاء، ولكن لم يسجل التاريخ الحديث – حسب علمي – حالة واحدة ارتفع فيها منسوب هذا الشعور الإنساني لدى تلك الشعوب لترفع هراوة ظلم أنظمتها عن “الآخر”، بينما أسقطت تلك الشعوب العديد من حكوماتها عندما تقلص مستوى الرفاهية لدى مواطنيها.
في العالم العربي – الذي يرزح منذ عقود عديدة تحت أغلال التبعية الفكرية والثقافية – يحار المثقفون والفقهاء الغيارى في كيفية مجابهة مثل هذا الهدير المتدفق من التصورات والمفاهيم المنحرفة، فيلجؤون إلى خفض سقف خطابهم الدعوي والفكري لشعورهم بُغربة الكثير من التصورات والمفاهيم الشرعية لدى عموم الناس، وهذا ربما كان في كثير من الأحيان مقتضى “الفقه الرشيد” والحكمة الربانية (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)، ولكني أعتقد أن العديد من النخب الفكرية والشرعية بالغت في هذا الخط، حتى أدّى هذا الأمر لغياب المفاهيم والتصوّرات الشرعية لدى عموم الناس.
عندما اعترضت إحدى المثقفات العربيات على وصف شيخ لها – وقد كشفت عن شعرها ونحرها – بأنها “عاصية”، فإن هذا ينبئ عن خلل خطير؛ فهي تعتبر ما هو معلوم حكمه من الدين بالضرورة محل الاستهجان، وقسْ على ذلك وصف غير المسلم “بالكفر”، والذي لا يقتضي -كما هو معلوم بداهة لدى كل متخصص- استباحة دمائهم وأموالهم، بل إن الشريعة توعدت من اجترأ على معاهد أو ذمي بوعيد شديد، ولكن وجود طوائف غلت في استحلال دماء غير المسلمين كالمعاهدين والمستأمنين، وحرص الداعية على التلطف بالعبارة مع غير المسلم، والذي يمكن تفهمه في سياق الحوار مع غير المسلمين، إلاّ أن هذا لا يسوّغ تغييب “المصطلح الشرعي” عندما يكون الخطاب موجهاً لعموم المسلمين، ولو أردنا القفز إلى قضايا الأمة الكبرى كحق الشعوب المسلمة المحتلة في مقاومة المحتل – الذي كفلته شرائع السماء ودساتير الأرض، وفُطرت عليه المخلوقات – لوجدنا أن ثمة قطاعاً عريضاً من الإعلاميين والمفكرين والفقهاء من أصبح ينازع في هذا “الحق الطبيعي”، ويضع لذلك احترازات وقيود محصلتها تعطيله بالكلية، ولئن كنا كمراقبين قد نلتمس العذر لبعضهم عندما اختلطت صور المقاومة الشريفة والجهاد المقدس بصور أخرى من الإرهاب والفتك بالدماء المعصومة في بعض الأماكن، إلاّ أن قضية جوهرية في ضمير الأمة كقضية “فلسطين”، وعدو قبيح الوجه لم تفلح أدوات التجميل التغريبية في تطبيعه كإسرائيل، لم تسلم من صوت إعلامي وفكري أصبح يلوم الفلسطينيين في استراتيجية مقاومتهم أو طبيعة تحالفاتهم أو موقفهم من أذناب المحتل أكثر من لومهم لأنفسهم وخذلانهم لإخوانهم وتسويغهم لهذا الخذلان.
ليس أضر على أمة الإسلام من شيء كضرر غياب المفاهيم والتصورات المنبثقة من كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام؛ فالخسائر المادية والبشرية مهما كانت جسامتها يمكن تعويضها، ولكن غياب التصورات والمفاهيم الشرعية يفضي إلى غياب المحركات الفاعلة في مسيرة النهضة والإصلاح.
(المصدر: مجلة كلمة حق)