مقالاتمقالات مختارة

ثقافة التسامح عند المسلمين – د. يوسف القرضاوي

ثقافة التسامح عند المسلمين – د. يوسف القرضاوي

من أشد الأمور خطرا، والتي تهدد المجتمعات بالتمزق والتعادي، بل قد تفضي إلى إشتعال الحروب بين المجتمعات بعضها وبعض، بل بين أبناء المجتمع الواحد، والوطن الواحد: التعصب.

وليس المراد بالتعصب: اعتزاز الإنسان بعقديته أو بأفكاره التي اقتنع بها بمحض اختياره، فهذا لا يمكن أن يعاب. إنما المراد بالتعصب: انغلاق المرء على عقيدته أو فكره، واعتبار الآخرين جميعاً خصومه وأعداءه، وتوجس الشر منهم، وإضمار السوء لهم، وإشاعة جو من العنف والكراهية لهم، مما يفقد الناس العيش في في أمان واطمئنان. والأمن نعمة من أعظم نعم الله على الإنسان، لهذا امتن الله على قريش فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِالَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش:4،3). واعتبر القرآن الجنة دار أمن كامل: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ} (الحجر:46).واعتبر شر ما تصاب به المجتمعات: الجوع والخوف، فقال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112).

ومن الناس من يتصور أن الإيمان الديني ملازم للتعصب لا يفارقه لا محالة. لأن المؤمن بدينة يعتقد أنه على الحق، وما عداه على الباطل، وأن إيمانه هو سبيل النجاة، ومن لم يتمسك بعروته الوثقى: لم يهتد إلى طريق الخلاص، وأن من لم يؤمن بكتابه المنزل، وبنبيه المرسل، فهو ذاهب إلى الجحيم، ولا تنفعه أعمال الخير التي قدمها، لأنها لم تبن على الإيمان، فلا قيمة لها عند الله. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ( النور:39)، وكقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}(إبراهيم:18).

وهذه التصورات للآخرين: تنشئ العداوة والبغضاء بين الناس بعضهم وبعض، وكثيراً ما تؤدي إلى حروب دموية بين الطوائف والشعوب المختلفة دينياً. كما سجل ذلك التاريخ في عصوره المختلفة: بين الأديان بعضها وبعض؛ كما بين المسلمين والنصارى، وبين الطوائف والمذاهب الدينية داخل الدين الواحد، كما بين الكاثوليك والبرتستانت، وكذلك السنة والشيعة.  فما الحل أمام هذه المشكلات الفكرية والعملية التي تتجسد في الواقع، وتمثل تحديات تحتاج إلى مواجهة، وتساؤلات تفتقر إلى أجوبة؟

وأود أن أبادر هنا فأقول: إن الإسلام قد عالج هذه التصورات النظرية، والمشكلات العملية، من خلال ثقافة أصلية واضحة أسسها وأرساها، وعلمها لأبنائه، وهي ثقافة تؤسس: التسامح لا التعصب، والتعارف لا التناكر، والحب لا الكراهية، والحوار لا الصدام، والرفق لا العنف، والرحمة لا القسوة، والسلام لا الحرب.

مصادر ثقافة التسامح لدى المسلم:

ومصادر ثقافة التسامح لدي المسلم كثيرة وأصيلة. وأعظمها بلا ريب هو: القرآن الكريم؛ الذي أسس أصول التسامح، ورسخها في سوره المكية والمدنية، بأساليبه البيانية المعجزة، التي تخاطب الكيان الإنساني كله، فتقنع العقل، وتمتع العاطفة، وتحرك الإرادة. وسيرى القارئ الكريم أن الدعائم الشرعية والمنطقية التي سنعتمد عليها في الدعوة إلى التسامح وإشاعته وتثبيته: مستمدة من القرآن أساساً.

وبعد ذلك تأتي السيرة والسنة النبوية شارحة موضحة ومفصلة، فالسنة هي البيان النظري، والتطبيق العملي للقرآن، كما قال تعالى:{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:44).

ويأتي بعد ذلك عمل الصحابة رضي الله عنهم، خصوصاً الخلفاء الراشدين، وسنتهم امتداد لسنة النبيr، وهم تلاميذ مدرسة النبوة، بها اقتدوا فاهتدوا، وعلى ضوئها اقتبسوا تشريعاتهم وتوجيهاتهم، فهدوا إلى سراط مستقيم. كما نستأنس أيضاً بأقوال أئمة الأمة وفقهائها وعلمائها الراسخين، الذين هم ورثة النبوة، وحملة علمها، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

ومن مصادر ثقافة التسامح لدى المسلم: الواقع التاريخي لأن الإسلام، بهذا التاريخ قام على التسامح مع المخالفين، لم يخالف في ذلك خليفة أو سلطان، أو قائد ، أو وزير في المشرق والمغرب، في خلافة بني أمية، أو بني، أو بني العباس، أو بني عثمان. ولقد شهد بذلك مؤرخون منصفون من الغربيين وغيرهم، ونقلنا ذلك عنهم في أكثر من كتاب لنا، منهم تومس أرنولد، وغستاف لوبون، وغيرهما.

خصائص ثقافة التسامح الإسلامي:

ولثقافة التسامح الإسلامي خصائص متعددة، بيد أن هناك خصيصة مهمة، وهي: أن صبغتها الدينية، ومصدرها الرباني، وانبثاقها أصلا من الأوامر الإلهية، والتوجهات النبوية: تجعل لها سلطة على المسلمين، نابعة من قلوبهم وضمائرهم، يذعنون لها، ويحرصون على تنفيذ أحكامها، بدافع من إيمانهم، وخشية لربهم.

وفرق بين سلطة القوانين الوضعية التي يحاول كثير من الأفراد التحلل منها، والتحايل على أحكامها، وبين الأحكام الإلهية، التي بشر المؤمنون بها: أنهم باحترامها وإتباعها، يكسبون رضوانالله تعالى، ومثوبته في الآخرة، وسكينة النفس، وراحة الضمير في الدنيا، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97).

الركائز العقدية والفكرية للتسامح الإسلامي

تقوم ثقافة التسامح عند المسلمين على جملة من الزكائز العقدية والفكرية، بيانها فيما يلي:

إقرار التعددية

الركيزة الأولى وهى: اقرار ظاهرة التعددية، أو التنوع، وأنها ظاهرة طبيعية، وسنة كونية، كما يؤمن المسلم بوحدانية الخالق، يؤمن بتعددية الخلق في مجالات شتى.

فهناك التعددية العرقية:{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات:13).وهناك التعددية اللغوية: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}(الروم:22). وهناك التعددية الدينية:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَإِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:118،117) قال المفسرون: وللاختلاف خلقهم[1]، لأنه لما أعطى كلا منهم العقل والإرادة، تنوعت مواقفهم ودياناتهم. وهناك التعددية المذهبية والفكرية، داخل الدين الواحد، لأن الله أنزل الدين نصوصاً قابلة لتعدد الرؤى والاجتهادات، ولو شاء أن يجمع الناس على رأي واحد، وعلى مذهب واحد، لجعل الدين كله قائم على نصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، فلا مجال فيها لاختلاف. وهناك التعددية السياسية والحزبية، وما دمنا قد أجزنا تعدد المذاهب في الفقه، يلزمنا أن نجيز تعدد الأحزاب في السياسة، فما الأحزاب إلا مذاهب في السياسة، وما المذاهب إلا أحزاب في الفقه[2]. الاختلاف واقع بمشيئة الله تعالى

والركيزة الثانية: أن اختلاف الدين واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته سبحانه، فلا يشاء إلا ما كان فيه حكمة، لأن من أسمائه (الحكيم) فهو لا يخلق شيئاَ باطلا، ولا يشرع شيئاً عبثاً.

وقد أعلن القرآن أن هذا الختلاف الديني واقع بمشيئة الله عز وجل كما قال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس:99) وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام:35).ولو شاء ربنا أن يجعل كل الناس مؤمنين مهديين مطيعين له، لجعلهم على صورة أخرى، كما خلق الملائكة مفطوريين على طاعته وعبادته {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}(الأنبياء:20)، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6).وما دام هذا الاختلاف الدييني واقعا بمشيئة الله سبحانه، فمن ذا الذي يقف ضد مشيئة الله؟ ومن الذي يفكر في محو الأديان كلها إلا دينه؟ إنه لو فعل هذا لم يكن مصيره إلا الخيبة والإخفاق، وانتصار مشيئة الله الواحد القهار.

حساب المختلفين إلى يوم القيامة

والركيزة الثالثة: أن حساب المختلفين في دياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الدينية والأخلاقية التي نشأوا عليها، ليس إلينا، ولكن إلى خالق الجميع، إلى الله وحده وليس في هذه الدنيا، ولكن في الدار الآخرة، يوم القيامة. وهذا ما قرره القرآن في مواضع شتى. يقول تعالى مخاطبا رسوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج:68،69). وفي سياق آخر يقول له في شأن أهل الكتاب:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى:15).ويعدد أصحاب الديانات المختلفة من كتابيين ووثنيين، ليبين لنا أن الله هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17).

وهذه الفكرة أو العقيدة، من شأنها أن تخفف من النظرة السوداوية للآخرين، مهما يكن اعتقاد المتديّن، ونظرته إلى نفسه، ونظرته إلى غيره، فكل متدين يؤمن أنه هو المهتدي، وغيره هو الضال، وهو المبصر، وغيره هو الأعمى، ولكن حساب ذلك إلى الله، يوم تبلى السرائر، وتنكشف الحقائق: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور:25).

اعتبار البشرية كلها أسرة واحدة

والركيزة الرابعة: أن الإسلام ينظر إلى البشرية كلها – أيا كانت أجناسها وألوانها ولغاتها وأقاليمها وطبقاتها- بوصفها أسرة واحدة، تنتمي من جهة الخلق إلى رب واحد، ومن جهة النسب إلى أب واحد، وهذا ما نادى به القرآن الناس؛ كل الناس، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1)، وما أجدر كلمة {الأرحام} في هذا السياق أن تفسر بما يشمل الأرحام الإنسانية كلها. كما قال الشاعر المسلم:

إذا كان أصلي من تراب فكلها *** بلادي وكل العالمين أقاربي !

وقد أعلن رسول الإسلام هذه الحقيقة- وحدة الأسرة البشرية- أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع، قائلا: “يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم”[3]. وهو تقرير وتأكيد لما جاء في الآية الكريمة من سورة الحجرات{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13). فالمراد بالذكر والأنثى في الآية: آدم وحواء، وهما أبوا البشر. ويستأنس لهذا بما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم وإن كان في إسناده ضعف: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة : “اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه؛ أنا شهيد أنك وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه؛ أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه؛ أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة”[4].

وقد أثبت القرآن أن هناك أخوة دينية بين أهل الإيمان أو أهل الدين الواحد، كمــا قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْـــوَةٌ}(الحجرات: من الآية10)، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(آل عمران: من الآية103). كما أثبت أن هناك أخوة قومية ووطنية، كالتي أثبتها بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }(لأعراف: من الآية65)، {إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}(النمل: من الآية45). والأخوة هنا قطعا ليست دينية، وإنما هي أخوة قومية، ولهذا كان يبدأ كل رسول من هؤلاء نداءه بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }(لأعراف: من الآية59). فلا غرو أن يكون هناك أخوة إنسانية آدمية بحكم الانتساب إلى آدم أبي البشر، ومن هنا نودوا جميعا بقوله تعالى :{يَا بَنِي آدَمَ َ} في القرآن خمس مرات.

تكريم الإنسان لإنسانيته وحدها

والركيزة الخامسة للتسامح في الإسلام: هي تكريم الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن لون بشرته أو لون عينيه، أو صبغة شعره، أو شكل أنفه أو وجهه، أو بالنظر إلى لغته أو إقليمه الذي يعيش فيه، أو عرقه الذي ينتمي إليه، أو طبقته الاجتماعية التي ينتسب – أو ينسبه الناس-إليها، أو حتى دينه الذي يعتنقه ويؤمن به.

وذلك أن أساس التكريم في نظر القرآن هو: الآدمية ذاتها، كما قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:70). وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4).وقال سبحانه: {الرَّحْمَنُعَلَّمَ الْقُرْآنَخَلَقَ الإنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن:1-4). وقال في أول ما نزل من القرآن:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5). وقال عز وجل {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة:30). نعم عقد مسابقة بين آدم والملائكة، ظهر فيها فضل آدم أبي البشر على الملائكة الكرام. ومن ثم أمر الإسلام باحترام الإنسان، فلا يجوز أن يؤذى في حضرته، أو يهان في غيبته، حتى بكلمة يكرهها لو سمعها، ولو كانت حقيقة في نفسها، ولكنها تؤذيه، وحتى بعد موته لا يذكر إلا بخير، ولا يجوز أن تمتهن حرمة جسده حيا أو ميتا، حتى جاء في الحديث: “كسر عظم الميت ككسر عظم الحي”[5].

ومن الأحاديث الصحيحة التي لها دلالة: ما رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفا، إكراما للميت، فقال له الصحابة: يا رسول الله؛ إنها جنازة يهودي! (يريدون أنها ليهودي أي أنها ليست جنازة مسلم) فقال عليه صلى الله عليه وسلم- وما أروع ما قال- : “أليست نفسا؟![6]“. فما أروع الموقف المحمدي، وما أروع التفسير والتعليل؛ “أليست نفسا؟!” بلى إنها نفس إنسانية، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكانة. وهذا على الرغم مما وقع من اليهود من الإساءات الكثيرة للرسول ولأصحابه.

البر والقسط للمسالمين من غير المسلمين

والركيزة السادسة: إقرار التعامل بالبر والقسط مع المسالمين من غير المسلمين، وهو ما سجلتُه في أول كتاب لي دخلت به ميدان التأليف العلمي، وهو كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان. فقد ذكرت في فصل (علاقة المسلم بغير المسلم) ما يلي: إذا أردنا أن نجمل تعليمات الإسلام في معاملة المخالفين له – في ضوء ما يحل وما يحرم- فحسبنا آيتان من كتاب الله، جديرتان أن تكونا دستورا جامعا في هذا الشأن. وهما قوله تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } سورة الممتحنة:8 ،9.

فالآية الأولى لم ترغب في العدل والإقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم – أي أولئك الذين لا حرب ولا عداوة بينهم وبين المسلمين- بل رغبت الآية في برهم والإقساط إليهم. والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه، فهو أمر فوق العدل. وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وذلك هو (برُّ) الوالدين. وإنما قلنا: إن الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } والمؤمن يسعى دائما إلى تحقيق ما يحبه الله. ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية: أنها جاءت بلفظ { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ } فهذا التعبير قصد به نفي ما كان عالقا بالأذهان – وما يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برا ولا قسطا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فبيّن الله تعالى أنه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم.

العداوات بين الناس ليست أمرا دائما

والركيزة السابعة، التي قررها الإسلام، وعلّمها للمسلمين، وغرسها في عقولهم وضمائرهم: أن الناس قد يعادي بعضهم بعضا، لأسباب مختلفة، دينية أو دنيوية، ولكن هذه العداوات – على حق كان أو على باطل- لا تدوم أبد الدهر، فالقلوب تتغير، والأحوال تتبدل، وعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم، وبعيد اليوم قد يصبح قريب الغد، وهذه قاعدة مهمة في علاقات الناس بعضهم ببعض، فلا ينبغي أن يسرفوا في العداوة، حتى لا يبقوا للصلح موضعا، وهذا ما نبه إليه القرآن بوضوح بعد نهيه عن موالاة أعداء الله وأعداء المسلمين في أول سورة الممتحنة، وضرب مثلا بصلابة إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }(الممتحنة:4). بعد هذا قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الممتحنة:7).

فهذا الرجاء من الله سبحانه الذي ذكره بكلمة (عسى) يملأ القلوب أملا بتغيير القلوب من العداوة والبغضاء إلى المودة والمحبة، والله قدير على تغيير القلوب، فهو الذي يقلبها كيف يشاء، والله غفور لما مضى من الأحقاد والضغائن، رحيم بعباده الذين تصفو قلوبهم، ولا عجب أن اشتهر بين المسلمين قولهم: وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما[7].

الدعوة إلى الحوار بالتي هي أحسن:

والركيزة الثامنة للتسامح الإسلامي هي: الدعوة إلى حوار المخالفين بالحسنى، وذلك في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(النحل:125)، فالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة – غالبا- مع الموافقين، والجدال بالتي هي أحسن – غالبا – مع المخالفين. فالمسلمون مأمورون من ربهم أن يجادلوا مخالفهم، بالطريقة التي هي أحسن الطرق، أمثلها وأقرب إلى القبول من المخالف.

والجدال بالتي هي أحسن، هو: الحوار الذي ندعو إليه مع المخالفين لنا، وهو الذي لا يسعى إلى إيغار الصدور، أو المباعدة بين القلوب، وإثارة ما يشعل الفتنة، أو يورث الضغينة، بل يعمل على تقريب القلوب بعضها من بعض، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت:46). فالآية تركز على الجوامع المشتركة التي يؤمن بها الفريقان، لا على نقاط التمايز والاختلاف، وهذا من أصول الحوار بالحسنى. وبهذا يرى الإسلام ضرورة الحوار بين المتخالفين، ولا يرى حتمية الصراع بينهم، كما ادعى الكاتب الاستراتيجي الأمريكي (صمويل هانتجتون).

وقد بدأ الحوار الإسلامي المسيحي منذ حوالي أربعين سنة، ولم يزل مستمرا إلى عهد قريب، وقد شاركت في أكثر من مؤتمر لهذا الحوار، منها: مؤتمر القمة الإسلامية المسيحية في روما (أكتوبر2001) التي دعت إليها جمعية (سانت جديو) وقد شار فيه كبار الكرادلة، وكبار علماء المسلمين. والقمة الإسلامية المسيحية في برشلونة (2003م) ومؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي مع الكنائس الشرقية خاصة في القاهرة. ولكن بعد كلمات بابا الفاتيكان (بندكت السادس عشر) في محاضرته بألمانيا (12سبتمبر 2006) التي أساء إلى الإسلام ونبيه وعقيدته وشريعته وحضارته: توقف الحوار بيننا وبين القوم؛ حتى يظهر موقف آخر يمحو الأذى السابق.

أعلى درجات التسامح عند المسلمين وحدهم

والركيزة التاسعة: أن المسلمين وحدهم هم الذين لهم أعلى درجات التسامح الديني. ذلك أن التسامح الديني والفكري له درجاتومراتب:

فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة علىاعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أوالنفي أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات التي يقوم بها المتعصبون ضدمخالفيهم في عقائدهم.. فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباتهالدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.

والدرجةالوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب ثم لا تضيق عليهبترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته. فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمليوم السبت فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم. لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفةدينه[8]. وإذا كانالنصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذااليوم.

والدرجة التي تعلو هذه في التسامح: ألا نضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم. وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك. وهذا ما كانعليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة. إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا منالتسامح. فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له فيذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم. وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك مراعاة لشريعةالدولة ودينها ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل، ذلك لأن الشيء الذي يحله دين منالأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه.

فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج منأمه أو أخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج. وإذا كان دين النصراني يحل له أكلالخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنموالطير متسع له. ومثل ذلك الخمر، فإذا كانت بعض الكتب المسيحية قد جاءت بإباحتهاأو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحيالخمر.

فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكلالخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أيُّ حرج ديني،لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجبمقدس.ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمريعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.

روح التسامح عند المسلمين:

الركيزة العاشرة للتسامح الإسلامي تتجلى فيما نسميه (روح التسامح الديني) عند المسلمين، ذلك أن هناك شيئًا لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات. ذلك هو (روح السماحة) التي تبدو في حُسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان. وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء. وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي.تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(لقمان: 15).

وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (الإنسان:8.ولم يكن الأسير ين نزلت الآية إلا من المشركين. وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المُصِرِّين: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (البقرة:272).

وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدوِّن مذهبه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم[9]. هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه. وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبى بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفـأصِلها؟ قال: “نعم، صِلي أمك”[10].

وفي قول القرآن يبين أدب المجادلة مع المخالفين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ }(العنكبوت:46). وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم. ذكر ابن إسحق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ـ لما قدموا على الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “دعوهم” فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم[11]. وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في (الهدي النبوي) فذكر مما فيها من الفقه: (جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك)[12].

وروى أبو عبيد في (الأموال) عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تُجْرَى عليهم[13].

وروى البخاري عن أنس: أن النبيصلى الله عليه وسلمعاد يهوديًا، وعرض عليه الإسلام فأسلم، فخرج وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”[14]. وروى البخاري أيضًا: “أن النبيصلى الله عليه وسلمتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله[15]“،وقد كان في وسعه صلى الله عليه وسلمأن يستقرض من أصحابه، وما كانوا لِيَضِنُّوا عليه بشيء ولكنه أراد أن يُعَلِّم أمته. وقبل النبيصلى الله عليه وسلمالهدايا من غير المسلمين[16]، واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرًا ولا كيدًا.

وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين.فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين، ثم يقول: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (سورة التوبة: 60) وهذا من مساكين أهل الكتاب[17].

ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين. وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة ـ أبي لؤلؤة المجوسي ـ فلم يمنعه ذلك أن يوصى الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول: (وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم)[18].

وعبد الله بن عمرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام، وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟ قال ابن عمرو: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال:” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”[19]. وماتت أم الحارث بن أبي ربيعه وهي نصرانية، فشيعها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم[20]. وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى ولا يرون في ذلك حرجًا. بل ذهب بعضهم ـ كعكرمة وابن سيرين والزهري ـ إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها. وروى ابن أبي شيبة عم جابر بن زيد: أنه سُئل عن الصدقة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتهم…)

(المصدر: موقع اعتدال)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى