مقالاتمقالات مختارة

ثغرات منهجية في منهج التكوين في مؤسسات الدراسات الإسلامية

ثغرات منهجية في منهج التكوين في مؤسسات الدراسات الإسلامية

 

بقلم محمد جميل مبارك

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فإن اختيار دار الحديث الحسنية موضوع التكوين في مؤسسات الدراسات الإسلامية للبحث فيه، والخروج منه بنتائج تفيد مؤسسات التعليم العالي دليل على شعورها العميق بوجود “أزمة” تحاصر مؤسساتها التعليمية التي هي المحتضن الثقافي الذاتي للأمة، ودليل على الرغبة الصادقة في إصلاح شامل لنظامنا التعليمي، وعلاج أي علة يتوقف على إدراك العلة وأعراضها، والرغبة في التخلص منها، ولا ينفع أحد الأمرين مع غياب الآخر.

وإدراك العلة التي في التكوين ومؤسساته مع الرغبة في مداواتها برهان على الإحساس واليقظة، وإصلاح شأن التكوين والتعليم والتربية من أعظم أولويات الإصلاح الشامل الذي يتوق إليه جم غفير من عقلاء الأمة، نظرا لأن إصلاح التعليم لبنة من لبنات الإصلاح الحضاري الشامل الذي يتوقف انبعاث الأمة على تحقيقه.

ودار الحديث الحسنية كمثيلاتها من مؤسسات التعليم العالي في بلدنا هي المرشحة لمدارسة إصلاح التعليم، وإزالة ما علق به من الشوائب المتراكمة بتراكم التجارب، لما يفترض أن تمتلكه من معرفة سمات وخصوصية الشخصية الحضارية للأمة، ولما يعرف من أنه مصدر إمداد المجتمع بعيون العلم الجارية التي ترشف منها أفراده كل على قدر استعداده ما به تتحقق الحياة الروحية والمعنوية والجارية للمجتمع، مع شق جداول تصل المؤسسة ببلاد أخرى عن طريق استقبال طلبة منها لتكوينهم تكوينا ملائما.

الوظائف  الكبرى  لمؤسسات  التكوين :

ولمؤسسات التكوين الإسلامية وظائف كبرى تنجح بقدر تمكنها من تحقيقها، وتفشل بقدر إخفاقها في تحقيقها.

الوظيفة الأولى : هي الوظيفة العلمية المتمثلة في وظيفة التعليم والتكوين والبحث العلمي، وهي وظيفة كبرى بها يتميز المتعلمون عن الجهلة والمهتدون عمن في طغيانهم يعمهون.

وهذه الوظيفة الكبرى تدور حول محورين كبيرين: القرآن والسنة، بما يتفرع عنهما من كل المعارف والعلوم بلا استثناء. وذلك مما يجعل أداء هذه الوظيفة من أشق الأمور وأجلها، إذ تتسع معارف المحورين الكبيرين لتشمل كل العلوم الإنسانية والعلوم المدنية، وإن كانت الاستفادة من هذا الشمول تتوقف على ضوابط منهجية تحمي المستفيدين من التيه والتخبط –وتفصيل ذلك في مناسبة أخرى-.

الوظيفة الثانية : الوظيفة التربوية، وتتجلى في حسن تمثيل المتلقى لما يلقنه في هذه المؤسسات، ففي الإنسان أداتان يتيه إذا قصر في تحسين ورعاية العلاقة بينهما، وهما: العقل والقلب، فالعقل يشحن بالعلم، والقلب يصقل بالتربية، والاقتصار على شحن العقل بالمعارف يصيب الروح بجفاف قاتل، وإهمال المعرفة مع الإقبال على اقتناء مصاف للقلب قد يجر للانحراف عن الجادة المرسومة بمعالم العلم.
الوظيفة الثالثة : الوظيفة الاجتماعية، وتتمثل فيما تقدمه هذه المؤسسات من خدمات معنوية مادية وروحية للمجتمع الذي توجد فيه، في محيطه القريب وفي محيطه البعيد.
فقد كانت هذه المؤسسات عبر تاريخ طويل توفر مخزونا روحيا وفكريا ووحدويا تزود به كل مكونات الأمة على اتساع رقعتها، وهو مخزون يوحد الأهداف عبر الأزمنة والأمكنة لاستقائه من المحورين الكبيرين المذكورين آنفا.
ولا ريب أن لمؤسسات التكوين والبحث العلمي ظلالا ترف على المجتمع من علاقة قد تكون سيئة عندما تزوده بأنماط منحرفة من المكونين والمثقفين، وقد تكون جيدة عندما تزود بأنماط مستقيمة، كما أن للمجتمع ظلالا ترف على تلك المؤسسات من علاقة قد تكون سيئة وقد تكون جيدة حسبما يغلب على المجتمع أن ينتظره من تلك المؤسسات، وأن تزوده بها تلك المؤسسات.
والعلاقة البينة بين المجتمع وبين مؤسسات التكوين فيه تؤدي إلى تذمر فئات في المجتمع من وضع تلك المؤسسات، وإلى عدم تجاوب جماهير المجتمع معها، في غياب قواعد متفق عليها ترفعها المؤسسات التكوينية ويحترمها المجتمع. ()
والغالب في مؤسسات التكوين الإسلامي أن تكون علاقتها بالمجتمع علاقة حميدة لما يتوفر فيها من هذه الوظائف، لكن قد يتسرب إليها الوهن أو التوتر إذا كان فيها قدر من الإخلال بتلك الوظائف.
الوظيفة الرابعة : الوظيفة الاستخلافية التي تتحقق في بناء فلسفة هذه المؤسسات على نسق فكري وعلمي وتربوي وثقافي متماسك يحمي حصون الأمة من الدخيل المتسلل من خارجها، ويعالج من يحمل خصائص الهدم من الداخل، وهذا النسق المتماسك لا يوضع إلا بمكونات من المحورين الكبيرين المذكورين آنفا.
تجليات  هذه  الوظائف  الأربعة  :
وهذه الوظائف لا تكون لها تجليات إلا في عالم الإنسان بما يحمله من خصائص ونوازع، وبما تتوقف حياته عليه من حاجات.
فالوظيفة العلمية تعالج فكره بتزويده بمعارف سليمة تؤدي إلى إدراك سليم.
والوظيفة التربوية تعالج روحه بالمزج المتوازن بين متطلبات حياته المادية، وبين متطلبات حياته الروحية، عن طريق استثمار المعارف والإدراك المبني عليها في توليد انفعالات متجددة نحو القيم والأخلاق والمثل، ومنصهرة كلها في الموقف من الدين الذي يرشد المعارف، ويطهر الإدراك، ويسدد الانفعالات.
والوظيفة الاجتماعية تؤهله للإحساس بالروابط التي توجد حتما في كل مجتمع تضعف أو تقوى بضعف وقوة الإحساس بالآخر بما يمثله من مخدوم وخادم، ومعط وآخذ، لكن لا بروح الاستباق إلى تحصيل المنافع الذاتية وحدها، بل بروح التفاني في قصد منفعة الآخر بدافع الحب الذي يتسامى عن خصائص الفناء.()
والوظيفة الاستخلافية تهديه إلى استثمار مهاراته في خدمة أهداف تتجاوز حدوده الزمانية والمكانية لترتفع نحو أفق “الأمة” بما يجب أن يوفر لها على الدوام من وسيلتي الصلاح والقوة المرشحتين للبقاء.
ومن وسائل تحقيق هذه الوظيفة تحليل المعارف التي تلقاها والعلوم التي ثقفها، وتركيبها، ثم تطبيق الصورة المركبة منها تطبيقا لا تنتهي آثاره بانتهاء ذلك الإنسان الفرد، وذلك هو الذي يحقق الصبغة الاستخلافية لهذه الوظيفة التي هي قمة يتدرج إلى ارتقائها بتهييئ الوظائف الثلاث قبلها لتكون سلما إليها.
ومن ثم فالوظائف الثلاث الأولى ليست في حقيقتها إلا روافد لهذه الوظيفة الاستخلافية، وإلا تحولت الحضارة القائمة عليها إلى حضارة مادية ترابية لا علاقة لها بفلسفة الوجود القائمة على تحويل الكون إلى محراب فسيح لعبادة الله، بما تمثله من نواة الاستخلاف التي تخرج منها شجرة الحياة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.()
ولعل هذا هو الفرق الوحيد الذي ينبغي أن يميز مؤسسات التكوين عامة في العالم الإسلامي عن مثيلاتها في العالم الآخر.
وإذا سلكنا هذه الوظائف في سلك، فلا بد أن نضعه في ميزان النقد لنرى مدى اتسامه بسمات وخصائص تجعله في مأمن من الثغرات التي توهن تماسكه، وقد تفضي إلى انتشاره، وإذا انتشر السلك انبتر النظام!.
وهذا ما يدعو دوما إلى تقويم كل الجهود التي تبذل في تنشيط هذه الوظائف وهو تقويم لا يجوز أن يتوقف كما لا يجوز أن ينفلت من القيود المشار إليها في الحديث عن هذه الوظائف.
دعوات  كثيرة  للإصلاح :
يلاحظ أن هناك دعوات كثيرة للإصلاح والتقويم تصدر هنا وهناك، غير أن هذه الدعوات لا تقوم على فلسفة واحدة، ولا يتوفر لها حظوظ الاستجابة والتطبيق بمقدار ما يتوافر فيها من دواعي القبول.
فمن دعوة نابعة من خارج الذات تعالج وضعا غير وضع الذات، فتم إيرادها إلى بيئة منافية لبيئتها.
ومن دعوة أسقطت من حسابها بعض الوظائف التي تنهار المنظومة كلها بسقوطها، لا تزال تعالج ويتفانى في علاجها ثم لا تبرأ من علتها التي تنتقل بفعل العدوى إلى المحيط كله!.
وقد تنتفي بعض أعراض المرض فيها فيظن أنها دعوة سليمة واجبة التطبيق، كما يقع لمريض السرطان الذي يخدعه اختفاء بعض أعراض المرض إلى أن يستجمع كل قواه ليهجم هجومه الكاسح، ويقضي على صاحبه القضاء المبرم!
ومن دعوة استكملت كثيرا من شروط القبول غير أنها متهمة من الجهات التي نيطت بها مهمة الإصلاح والتقويم، إذ لا يمكن أن تملي علاجا على طبيب يؤمن بغيره مع غياب وسائل الاقتناع بنوعيها الترغيبي والإلزامي.
وإذا كان التمثيل لهذه الدعوات فليكن بمثاليين:
أحدهما: مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
وثانيهما: المؤتمر التربوي لوزراء التربية والتعليم في البلاد العربية المنعقد بليبيا يوم 5 دجنبر 1998 لمناقشة موضوع: رؤية مستقبلية للتعليم في الوطن العربي.
وقد شارك المغرب في وضع ملامح هذه الرؤية المستقبلية إلى جانب دول عربية أخرى.
والمشروعان يعانيان من أزمة حادة في فلسفة التكوين وأهدافها، يطول الحديث باستعراض تجلياتها، ويمكن تلخيصها في التجليات الآتية:
1. اضطراب صورة الهوية في نسيج المشروعين.
2. عدم التركيز على مقومات الهوية من وحي وتراث ولغة وتاريخ وأرض.
3. غبن المادة الإسلامية في المشروعين.()
وأمر علاج الثغرات في مناهج التكوين في مؤسسات الدراسات الإسلامية، في ظل الإصلاحات المطبقة، لا يعدو أن يكون اقتراح وصفات مناسبة لعلاج تلك الثغرات، بعد إقامة براهين على كونها ثغرات تعوق تلك المؤسسات عن القيام بوظائفها، إلى أن تتضافر جهود المدركين لهذه الثغرات المحيطين بخطورتها، المؤمنين بنجاعة العلاج المقترح.
والثغرات التي تذكر إنما هي أمثلة لعدم أداء تلك المؤسسات لوظائفها المذكورة إما اختيارا وإما جبرا.
والثغرات التي يمكن العثور عليها بسهولة كثيرة، ويمكن التمثيل للثغرات الموجودة في فلسفة التكوين، وللثغرات الموجودة في وسائل التكوين، والثغرات الموجودة في أهداف التكوين، فلسفة التكوين هي أساسه، ووسائل التكوين هي الأدوات اللازمة لإقامة البناء على الأساس، وأهداف التكوين هي الغاية الكبرى منه.
وإذا وضعنا المؤسسات التكوينية برمتها وبجميع تخصصاتها في إطار فلسفي عام، وأعملنا فيها المقاييس النقدية فسنجد ثغرات كبرى.
الثغرة الأولى من هذه الثغرات التي سأمثل بها، هي أن فلسفة التكوين بثنائياتها المختلفة: الديني والدنيوي، والأدبي، والعلمي.. إلخ، تتسم بسمات أقل ما يقال عنها إنها أعراض مرضية، ومن أهم هذه الأعراض:
1 – أنها حبيسة المجالات النظرية، ولا يفسح لها المجال بالقدر الكافي لخدمة الأهداف العليا التي هي الغاية الكبرى من أي مؤسسة للتكوين كيفما كان تخصصها، مثل الحفاظ على شخصية المواطن عقيدة وتربية وسلوكا، ومثل تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة بالقدر الذي يحقق لها استقلالها وحريتها في اتخاذ أي قرار يتناسب والمصلحة العليا للأمة.
2 – أنها فلسفة غير واضحة المعالم في كثير من المؤسسات إلى حد أنه قد يصدق على معظم مؤسسات التكوين أنها مؤسسات التكوين في العالم الإسلامي وليست مؤسسات للتكوين الإسلامي بصورته المتميزة، فالوصف الأول لا يعدو أن يكون جغرافيا، بينما الوصف المطلوب هو أن يكون إسلاميا منهجا ومضمونا وغاية بقطع النظر عن التخصصات.
فمؤسسات التكوين يغلب عليها إما الطابع التغريبي، وإما الطابع الإسلامي مشوها لكونها لا تعكس الرؤية الكلية الشاملة بجميع أبعادها المادية والروحية والعقلية والجسمية والدنيوية والأخروية.
ومن أول ما تتطلبه هذه الرؤية الكلية ما يمكن تسميته بأسلمة “حركة الحياة” التي منها أسلمة التكوين وأسلمة المعرفة “التي تقتضي إصلاح منهج المعرفة، وتوحيد مصادرها الإلهية والإنسانية، حيث يوفر لها الوحي البعد الكلي الروحي الأخلاقي لمجال الفعل الإنساني، وتوفر السنن الكونية وسائل ذلك الفعل”.()
وأحيانا تكون الفلسفة واضحة نظريا في مجال الألفاظ والمصطلحات، لكنها تفتقر إلى منفذين ومتابعين ومقومين لمعرفة نسب تطبيقها وأسباب النجاح والفشل فيها، ومهمة المتابعة والتقويم تتحملها الوزارات المعنية بالدرجة الأولى مع تحمل أعضاء هيئة التدريس قسطا من هذه المهمة.
3 – أنها تضخم الاهتمام بالتكوين في التخصصات العلمية والتقنية مقابل تهميش للتكوين الشرعي والأدبي، فتنشأ عن ذلك ظاهرتان خطيرتان في التكوين في التخصصات العلمية والتقنية.
إحداهما: تكوين علميين وتقنيين يعانون نقصا “أدبيا” حادا فلا شعور لديهم بالانتماء الديني والأخلاقي والوطني لأمتهم، فهم يعانون هزيمة نفسية شديدة لا يجدون ما يخففون به من غلوائها إلا التنكر للقيم العقائدية والشرعية، والظهور بمظهر السيد الغربي المتعجرف! حتى إن من دواعي الشعور بالنقص عندهم التكلم بلسان آبائهم أو التحلي بحليتهم أو التخلق بأخلاقهم!.
وأخراهما: غلبة التقليد عليهم في الجانب العلمي والتقني، بمعنى أنهم لا يبدعون ولا يجددون ولا يطورون إلا قليلا، إنما ينتظرون إنتاج شيء من الغرب ليسارعوا إلى تعلم كيفية التعامل معه وربما إلى آداب التعامل معه!! فيحسبون بذلك أنهم يسايرون التطور والتقدم، فيزدادون استلابا وانبهارا وتخلفا من حيث يحسبون أنهم متقدمون!
كما تنشأ عنه ظاهرتان خطيرتان في التكوين الشرعي والأدبي:
إحداهما: تكوين باحثين مقلدين لآبائهم تقليدا لا تمييز فيه، فالتقليد –في منظومة التكوين عندنا- سمة مشتركة بين الباحثين في التخصصات العلمية والتقنية، وبين الباحثين في العلوم الشرعية، وللتقليد في المجالين آثار سيئة، فمن آثاره في العلوم التقنية أنه يؤدي إلى غياب معنى تسابق الأمم والحضارات عن أذهان الباحثين وعن أعمالهم، وتسابق الأمم محسوم لمن يملك فلسفة واضحة المعالم، وينظر إلى غاية مشرقة القسمات، ويستخدم الوسائل التي تمكن من إحراز السبق من سلكها.
ومن آثار التقليد في التخصصات الشرعية أنه يؤدي إلى ضمور روح الإبداع والاجتهاد لدى الباحثين فيها، وإلى التقصير في تأطير الأجيال تأطيرا دينيا مبنيا على أصول علمية متينة.
والأمة التي يغلب التقليد على مؤسساتها التكوينية بتخصصاتها المختلفة لا تقطع شوطا في مضمار التسابق حتى تصير منبتة لا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت! لا هي حمدت تقدما هو من إبداعها، ولا هي حمدت الاستمساك بفطرتها، والإمساك بزمام قاطرة الأخلاق والعقائد في عصر فقير في العقائد والأخلاق، ولا هي سايرت المتغيرات الطارئة على الحياة بفقه واقعي ملائم يحمي من الانفلات من قيود الشرع.
ومن توابع هذه الظاهرة أن التدريس التكويني لا يكون –في الغالب- إلا تدريسا وصفيا تقريريا دون تحليل ولا تركيب ولا إبداع، حتى إن بعض المواد التي يفترض فيها أن تطلق العقول من عقال التقليد تحولت إلى قيود جديدة تضاف إلى القيود الموجودة أصلا، كما يلاحظ في مادة “أصول الفقه” التي تؤهل للاجتهاد والفهم والتنزيل، والتي تحولت –في كثير من الأحيان- من مادة للتدريب على الفهم والاستنباط والاجتهاد إلى مادة للتدريب على اكتساب كيفيات اجتهاد السابقين()، وكما يلاحظ في مادة “الفقه المقارن” التي تؤهل لدراسة الأدلة والترجيح بينها والتي تحولت إلى مادة تؤهل لمجرد الاطلاع على الاختلاف بين أهل العلم في الفروع، وللاختيار من الأقوال اختيارا مبنيا على التخمين أو التعصب أو التقليد.
ومن توابع هذه الظاهرة: تهييء نفسيات الباحثين في التخصصات الأدبية والشرعية ودفعهم للشعور بالنقص أمام الباحثين في التخصصات العلمية والتقنية، ترسيخا لأفضلية التخصصات (المادية) على التخصصات الشرعية والأدبية، وترسيخا للاتجاه العلماني في حقول التربية والتعليم، وفي ذلك خطر أي خطر على الرصيد البنيوي للمقومات الثقافية التي ترتكز عليها الأمة.
وأخرى الظاهرتين: تضخم الإنتاج في ميدان المعاملات والأحوال الشخصية وبعض المعاملات البسيطة، مقابل ضحالة النتاج في ميدان المعاملات المعاصرة المعقدة، وفي ميدان الفقه الجنائي والإداري والدستوري والقضائي والعلاقات الدولية بمختلف تشعباتها، وفي ميادين أخرى تولتها جهات لا تنطلق من عقيدة الأمة ولا من حضارتها ولا من فقهها.
وفي بعض الحالات التي يترشح فيها باحثون للخوض في هذه الميادين المنسية لا تتاح لهم فرصة استثمار تجربتهم العلمية النظرية في الحياة العملية، ويعد ذلك من العوامل التي تزيد هذه الثغرة اتساعا!.
ولا يمكن تنمية طاقات الاجتهاد التي تدفع لتجاوز مضيق التقليد في ظل تغييب الفقه الإسلامي بجميع مكوناته عن حياة المجتمع.
ومن الظلم البين أن ننحي باللائمة كليا على الباحثين والفقهاء في المجالات الشرعية، لكونهم لا يجتهدون لحل مشكلات الناس، ذلك ظلم أي ظلم: أن تكبل طاقات البحث بتغييب تطبيق نتائجها في الساحة العملية، ثم تلصق تلك التهمة جزافا بالفقهاء والباحثين، وإن كان أحد لا يعفيهم من تحمل كفل مما حصل.
الثغرة الثانية: الضعف العام في وسائل التكوين والبحث العلمي بنوعيها الموضوعي والمادي.
فمن أهم ظواهر ضعف الوسائل في الجانب الموضوعي:
1 – ضيق الأفق العلمي للباحث، فقد أصيب طلبة العلم عامة، وطلبة العلم الشرعي خاصة، بمحدودية المعلومات وضحالتها، على عكس ما عند علمائنا السابقين من موسوعية ووفرة معلومات.
ومن أسباب هذا الضعف في الأفق العلمي، الانحباس في زاوية ضيقة من التخصص، وعيب هذا المظهر يكبر في حقل العلوم الإسلامية أكثر منه في الحقول المعرفية الأخرى، وإذا كان التوجه العام في محاولات الإصلاح إلى هذا النوع من التخصص الذي يعد الانزواء في ركنه دون الموازنة بينه وبين المكنات العلمية والمعرفية للتخصص أقرب إلى الأمية يصاب بها صاحبه كلما خرج أو أخرج من زاويته التخصصية الضيقة.
ومن أسباب هذا الضعف: عدم تقدير المسئولية، وعبر عنه بعض الباحثين بقصور الأداء()، وهو قصور عام يلحظ في صفوف الطلبة والباحثين وفي صفوف الأساتذة وفي صفوف الإداريين، والمطلوب أن تكون هناك حالة استنفار قصوى لتدارك النقص الحاصل  لكيلا يتفاقم في القصور.
وتبدو مسئولية الباحثين والأساتذة أكبر، وتأثير الأساتذة المكونين أعظم، إذ بإمكانهم إن هم تغلبوا على قصور الأداء أن يرفعوا معنويات الباحثين إلى المستوى الذي يجيدون فيه أداءهم، ويجعلهم مؤهلين لاستلام المسئولية بعد جيل أساتذتهم.
ومن الملاحظ أن بعض الأساتذة يودعون البحث العلمي فور مناقشتهم لأطروحاتهم، ويخلدون إلى ترديد معلومات طيلة سنوات بلا تجديد في المضمون، ولا تحسين في الأداء!.
ولا شك أن قصور الأداء إذا تسرب إلى مؤسسات التكوين فتسربه إلى سائر الميادين يكاد يكون حتميا، ولا علاج له إلا بمراجعة شاملة وتغيير جذري.
2 – ضعف اللغة العربية كتابة وإلقاء، وآثار هذا الضعف بادية حتى على مضمون ما يكتب من أبحاث، فضعف الوعاء يسري إلى ما فيه.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا: ضرورة حماية مؤسسات التكوين الشرعي للغة العربية بتدريسها في جميع المراحل، وبصرامة التعامل مع الأبحاث العلمية في مسألة اللغة التي تكتب بها.
وقد انتقد المشروع الوطني للتربية والتكوين في هذا الجانب بأن أمر اللغة العربية ينتهي في الابتدائي مع مزاحمة لغتين أجنبيتين له، أما عندما نصل إلى الإعدادي، وبالخصوص إلى الثانوي فإن العربية تدخل في منافسة محسومة لصالح اللغة الأجنبية، إذ التلاميذ سيذهبون إلى أكثر التخصصات مردودية وإلى أقواها… وكل ذلك إلى اللغة الأجنبية().
وقد يقوي هذا الاتجاه “الشعور لدى المتعلمين والطلاب في مختلف مراحل التعليم بأن اللغة العربية لغة العبادات والوجدانات ولا صلة لها بالعلم والحياة”.
3 – ضعف الحس النقدي عند الطلبة الباحثين نتيجة لمراحل الضعف التي مروا منها، وضعف الحس النقدي مما يحول بين صاحبه وبين تمييز الصواب من الخطأ، ومما يحول بينه وبين الترجيح بين الأدلة المتعارضة، ومما يحول بينه –في النهاية- وبين الإبداع الذي هو ثمرة من ثمار الاجتهاد.
ومن أسباب هذا الضعف غلبة روح التقليد وانحباس الباحثين –وقبلهم الأساتذة المؤطرون- فيما كتبه السابقون دون محاولة البناء عليه للوصول إلى حلول للمشاكل المعاصرة.
وقد يكون من أسباب هذا الضعف عدم حصول الباحثين على نصيب من العلوم الحديثة، وانحصار معرفتهم بالحياة المدنية وتشعباتها في أبجديات قليلة.
وفي هذا يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “وأرى ضرورة تنظيم محاضرات فلكية وطبية وجغرافية وجيولوجية وكيميائية.. على المشتغلين بالعلم الديني حتى بعد تخرجهم، فإن التخلف في هذا المضمار مصيبة، ونلاحظ أن هناك وحشة بإزاء عدد من العلوم الإنسانية مثل علم النفس والتربية والأخلاق والاجتماع”.()
4 – ضعف المنهج مقابل وفرة المعلومات بالنسبة للباحثين المستثنين من إطار المحدودية والضحالة في المعلومات المشار إليها من قبل.
ومن مظاهر هذا الضعف طغيان الدراسات والأبحاث النظرية على الدراسات والأبحاث التطبيقية والواقعية.
ومن مظاهر هذا الضعف: طغيان الكم على الكيف في الرسائل والأطروحات المنجزة.
ومن أسباب هذا الضعف: عدم كفاءة الإشراف أو عدم كفايته، فقد لا يكون المشرف كفئا، وقد يكون كفئا ولا يكون كافيا، وقد لا يكون لا كفئا ولا كافيا!.
والمفروض أن الباحث لا يُسلم إلى مجاهل البحث العلمي يتيه فيها ويتخبط، بل لا بد من طرف خبير يأخذ بيده كما يأخذ البصير بيد الأعمى.
ومن أسباب هذا الضعف: غياب منهج يساعد على اكتشاف المواهب العلمية في المراحل السابقة للتعليم العالي، وعلى إمدادها بالإرشادات الكفيلة بتنمية إبداعات أصحابها، وتهيئتهم لمراحل البحث في التعليم العالي.
ومن أهم مظاهر هذا الضعف في الجانب الشكلي:
1 – ضعف التجهيزات في المكاتب والمكتبات التي يتردد إليها الباحثون، وقلة المصادر والمراجع والدوريات والإحصائيات واللوائح، وهذا الضعف ينفق معه الباحث أوقاتا طويلة للحصول على نتائج ضعيفة، فما يمكن أن يحصله الطالب في بضعة أيام مع وفرة هذه الوسائل قد لا يحصله إلا في أشهر أو أكثر مع ضعف وقلة تلك الوسائل.
2 – ضآلة الميزانيات المخصصة للبحث العلمي مما ينتج عنه تقلص إمكانيات النشر لدى الباحثين، وضعف الحوافز التي لها تأثير في الجوانب النفسية للباحثين وجودا وعدما، فكثيرا ما يحجم الباحثون عن الاستمرار في البحث العلمي تجنبا للعجز عن التمويل.
وضعف التمويل في عالمنا برهان على النظرة السطحية للبحث العلمي، وهي نظرة غير سديدة بلا شك، فالتمويل قوة وضعفا مرتبط بقيمة البحث العلمي في المجتمع قوة وضعفا.
3 – ضعف التواصل العلمي بين مؤسسات التكوين داخل بلد واحد وداخل العالم الإسلامي كله، ومعه ضعف التواصل بين الجهات الثلاث التي تشترك في تقدم أو تخلف البحث العلمي وهي: الحكومات والجامعات والمجتمعات.
ويرتبط بهذا الضعف في جانبه الشكلي جانب آخر موضوعي هو: التقصير بالمواد التي تتلقى الأبحاث التي تنجز عن صفة “العالمية” والاكتفاء بالمحلية الضيقة في انطواء على الذات غير محمود، مع أن المحورين الكبيرين اللذين تدور كل الأبحاث حولهما كما سبق يقتضيان إضفاء الصبغة العالمية على هذه الأبحاث.
لكن جعل ما يعطى في هذه المؤسسات يتجاوز المحلية إلى العالمية، يتطلب يقظة خاصة لما يتعرض له من معاكسة قد تتفاقم إلى أن تصبح حربا شعواء، فهناك جهات لا يرضيها أن تعود مؤسسات التكوين الإسلامي إلى امتلاك زمام توجيه الثقافة في بلاد الإسلام كما كانت من قبل.
وهناك التوتر المعروف بين المحلية والعولمة بمصطلحها الغربي الحديث بما تحاول فرضه من تحديد سياسات الدول، وقد تسرِب إليها في دهاء نهجا لتنمو على نحوه في أخص الخصوصيات كالثقافة والحضارة الأخلاق والقيم، مما يجعل المعركة غير متكافئة بالنسبة لمن يدركون الرؤية العالمية التي تضمنها تراثهم. وهذا ما أعنيه باليقظة الخاصة المطلوبة في تجاوز المحلية إلى العالمية، والتي تتلخص في إعداد ما في المستطاع من قوة في الفكر والمنهج والرؤية تمكن صاحبها من إقناع غيره بما يمتلك، وبسطه على بساط المشهد العالمي، وذلك لن يتم إلا بوحدة القوة التي تنتج عنها بلا شك قوة الوحدة، فلا قِبل اليوم لكل دولة على حدة بقوة العولمة، بل لا بد من توحيد الدول لتكون كتلة قوية تواجـه طغيـان العولمـة، ومـن حسـن حـظ الـدول الإسلاميـة –وداخلها مؤسسات التكوين الإسلامي- أن لديها مقومات عظمى للتجمع الوحدوي الكبير تتجاوز تلك التي تقوم عليها العولمة من الفردية وقيم الاستهلاك.
ومن أخطر العقبات في هذا السبيل، عدم اقتناع كثير من أبناء هذه المجتمعات بصلاحية ما لديها لتجاوز المحلية إلى العالمية، بل من هؤلاء الأبناء من ينكر بشدة وجود هذه الصلاحية تحت ضغط الدوافع الإيديولوجية، ويصدق عليهم قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما      والماء فوق ظهورها محمول !
الثغرة  الثالثة : اضطراب أهداف التكوين.
ومن أهم مظاهر هذا الاضطراب:
1-عدم وضوحها نتيجة لغموض الفلسفة المبنية عليها.
2-الإخفاق في نقلها من مجالها الإنشائي النظري إلى المشهد الواقعي الحياتي.
3-تناقض مضمون بعض الأهداف مع مضمون الأخرى!
ويجدر التمييز هنا بين الأهداف كما ينص عليها في كل مؤسسة على حدة، وبين الأهداف كما ينص عليها في بعض مشاريع الإصلاح، فأهداف التكوين التي ينص عليها في دليل كل مؤسسة أهداف جميلة في معظمها، لكن الثغرة فيها تتمثل في الإخفاق في نقلها من المجال النظري إلى المجال العملي، كما تتمثل في غياب التقويم المستند لمدى تحقق الأهداف المسطرة في أشخاص المكونين فكرا وسلوكا.
أما أهداف التكوين كما ينص عليها في بعض مشاريع الإصلاح، فالثغرات فيها أكثر، والخرق فيها أوسع.
ولا عذر في عدم التصريح بأهداف التكوين في أي مشروع إصلاحي لارتباطها بالفلسفة العامة للتكوين، كما لا عذر في التنصيص على أهداف بعضها يناقض بعضا لا سيما إذا تعلق الأمر بأهداف التكوين المحلية، وبأهداف التكوين العالمية.

(المصدر: مجلة “الواضحة” العلمية المحكمة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى