بقلم أحمد التلاوي
تنشغل الأوساط الفكرية، والسياسية والإعلامية الإسلامية -في غالب الحال- بمناقشة القضايا الأساسية التي تشكل في إطارها العام، ما يظن الكثيرون أنها المشكلات الأهم التي تواجه أمة الإسلام في الوقت الراهن.
وبشكل عام، تأتي قضية استعادة وحدة الأمة، وبالتالي عوامل فرقتها، سواء أكانت في الإطار الفقهي أو السياسي، على رأس الاهتمامات والأولويات.
وزاد من مستوى الاهتمام بقضية الفُرْقة بعد التوسّع الكبير الذي طرأ على ما يُعرَف بظاهرة “الجماعات الجهادية”، وهو مصطلح غير دقيق، أو غير منضبط بالمعنى العلمي والشرعي، لظاهرة الجماعات المسلحة التي ترفع راية الإسلام كهوية لها، وتعلن أنها تسعى إلى تطبيق أحكام الشرعية، بصورة تتنافى بالكامل مع الآليات التي وضعتها الشريعة الإسلامية لما تزعم هذه المجموعات أنها تقوم به.
المهم، وأيًّا كان، فإن هناك الكثير من القضايا الأخرى، ربما هي على أكبر قدر من الأهمية، وتشكل أساسًا مهمًّا من مشكلات الأمة الإسلامية وقضاياها، ولكنها تتوارى أمام الحدث الظاهر الآني على خطورته، ولا سيما الصراعات المسلحة التي ينخرط فيها “إسلاميون”، أو الحروب السياسية والإعلامية التي تواجهها الدعوة الإسلامية في أكثر من بلد عربي وإسلامي.
ومن بين أهم هذه القضايا التي يجب أن يكون هناك الكثير من التركيز الإعلامي والسياسي عليها في الفترة المقبلة من الطليعة الحركية المسلمة، هي قضية: أين تذهب ثروات الأمة؟!
من بين أهم هذه القضايا التي يجب أن يكون هناك الكثير من التركيز الإعلامي والسياسي عليها في الفترة المقبلة من الطليعة الحركية المسلمة، هي قضية: أين تذهب ثروات الأمة؟!
وهو تساؤل مشروع، وذو أبعاد سياسية وليست اقتصادية كما يظن البعض، من أن منطلق الحديث هو الحرص على التنبيه على أن ثروات الأمة يجري الآن تبديدها من جانب الحاكم، وسرقتها من جانب القوى الاستعمارية الكبرى، أو كذا من هذا القبيل، إنما الأمر أخطر وأعمق من ذلك.
فلقد كشفت السنوات الأخيرة عن جانب أو بعد شديد الخطورة لهذه المسألة، حيث إن الطريقة التي يتم بها توظيف ثروات الأمة من جانب بعض الأنظمة والحكومات، تحولت إلى أكبر عامل من عوامل التشرذم الحالي، بل والاقتتال الداخلي بين المسلمين بعضهم البعض، وكذلك أداة شديدة التأثير في إراقة دماء المسلمين في المناطق التي تشهد صراعات أهلية.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه قصة شديدة الأهمية، وبحاجة أن تُروى من أجل التنبيه عليها، لعلها تأخذ حظها من الاهتمام مثل القضايا الكبرى الأخرى.
ومبدئيًّا، فإننا لسنا هنا في معرض الحديث “التقليدي” الحماسي أو المراسيمي، عن حجم الثروات التي تملكها الأمة، فهذه معروفة، حيث تشمل حدود العالم الإسلامي –الدول التي تشملها عضوية منظمة التعاون الإسلامي– الجانب الأكبر من احتياطي الغذاء والمياه والطاقة العالمي، مع استثناءات بسيطة في أقاليم وبلدان مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة.
ولكن المقصد هو توضيح كيف يتم توظيف هذه الثروات التي هي من المفترض أنها ملك الأمة، وأحد أهم عوامل قوتها ومناعتها الذاتية، في إضعاف الأمة ذاتها .
وأهم ما ينبغي التنويه إليه في هذا الصدد، هو ما جرى بعد أحداث ثورات الربيع العربي، عندما تم استغلال الأرصدة النقدية والثروات النفطية، وغير النفطية، في كثير من بلدان العالم العربي، من أجل تمويل عمليات وأنشطة سياسية وغير سياسية، من أجل زعزعة الاستقرار في المجتمعات التي شهدت ثورات نجحت في تغيير الأنظمة الحاكمة فيها، والتي كانت تنتمي إلى ما يُعرَف بمحور الاعتدال في المنطقة.
وحتى لا نُتَّهم بالتحيُّز، فإن القضية ليس أن هذه الأموال والثروات، والتي تبلغ عشرات وربما المئات من المليارات من الدولارات، قد تم بذلها لإضعاف وإسقاط حكومات محسوبة على أحزاب وحركات إسلامية معينة، مثل الإخوان المسلمين، حيث إن البعض يضع ذلك التوجُّه في الحديث، في إطار السياسة الحزبية الضيقة.
ولكن ما لا خلاف عليه، هو أن هذه الأموال قد أنفقت لإراقة دماء مسلمين، وكذلك غير مسلمين من الأبرياء والمستأمنين وغيرهم من الفئات التي تساكن المسلمين في بلادهم، وكانت دماؤهم أحد أكبر الآثار التي رتبت صورة ذهنية سلبية عن المشروع الإسلامي للحكم، والمشروع الحضاري الإسلامي بشكل عام.
ما لا خلاف عليه، هو أن هذه الأموال قد أنفقت لإراقة دماء مسلمين، وكذلك غير مسلمين من الأبرياء والمستأمنين وغيرهم من الفئات التي تساكن المسلمين في بلادهم
فلقد تم توظيف جانب كبيرًا من هذه التمويلات، في تأسيس ودعم جماعات عنف وجماعات فوضوية من أجل زعزعة الاستقرار في هذه البلدان، وتعطلت العديد من المصالح الاقتصادية فيها، أضرَّت أيما ضرر بمصالح عشرات الملايين من أبناء هذه الشعوب الفقيرة التي لا ناقة لها ولا جمل في أية أوضاع سياسية، ومغلوبة على أمرها من الديكتاتوريات الحاكمة، ولم تخترها أصلاً لحكمها.
الجانب الآخر الذي يتم فيه توظيف ثروات الأمة في غير صالحها، هو أن جانبًا كبيرًا من هذه الثروات، يذهب إلى خزائن القوى الاستعمارية الكبرى، والتي تُعتبر من أهم داعمي الكيان الصهيوني في فلسطين، بل ومن أبرز داعمي النظم المستبدة التي تقتل شعوبها في المنطقة.
فعندما نتكلم –على سبيل المثال– عن صفقات سلاح عربية أمريكية، فإن هذا معناه دعم شركات السلاح الأمريكية التي تُعتبر أكبر موردي السلاح للكيان الصهيوني، وللأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي، التي تسعى حركات التغيير والإصلاح كافة -إسلامية ومدنية وغيرها- لتغييرها.
كما أن دعم الاقتصاد الأمريكي واقتصاديات الدول الغربية الأخرى التي تتبنى سياسات معادية لمصالح الأمة الإسلامية، وتعمل على تعميق الانقسامات فيها، وتعميق أزماتها، ودعم الصراعات السياسية والمسلحة فيها، من أهم عوامل تمزيق الأمة.
ولعل مشكلة الطائفية والمذهبية من صميم الحديث عن ذلك. فأموال بعض الدول العربية والإسلامية، وثرواتها، تُستَخدم من جانب بعض الأنظمة؛ من أجل كسب موقف الدول الكبرى لصالحها، في صراعاتها مع دول أخرى مسلمة، ولكن بين الأنظمة صراعات أخذت –لأسباب وبواعث سياسة الأنظمة ومصالحها الضيقة– الشكل الطائفي والمذهبي المخيف الذي تُنفق أموال طائلة كذلك على الآلة الإعلامية من أجل تعميقه بين صفوف المسلمين في العالم الإسلامي بالكامل، لكسب موقفهم بجانب هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي تتعمق الانقسامات الطائفية والمذهبية بين المسلمين.
أموال بعض الدول العربية والإسلامية، وثرواتها، تُستَخدم من جانب بعض الأنظمة؛ من أجل كسب موقف الدول الكبرى لصالحها، في صراعاتها مع دول أخرى مسلمة
يأتي ذلك، بينما هذه الثروات هي ثروات الأمة كلها بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث كانت تُوزَّع ويُوزَّع معها ريعها على كل المسلمين، وكل سكان الدولة الإسلامية، حتى من غير المسلمين، من رعاياها، عندما كانت دولة الإسلام، دولة المواطَنة الحقة.
إن هذه الأمور تُعتبر مجرد رؤوس موضوعات لهذا الملف شديد الأهمية، والذي يستوجب مناقشته على أوسع مدى ممكن.
ولعل أهم المستويات الواجب طرح هذا الملف عليه، هو مستوى الرأي العام في الدول العربية والمسلمة التي تملك ثروات تُوظَّف ضد مصالح الأمة، من أجل توجيه هذا الرأي العام لممارسة ضغوط على الأنظمة الحاكمة من أجل “فرملة” –على الأقل– السياسات الهدَّامة التي تتم في هذا السياق .
(المصدر: موقع بصائر أونلاين)