مقالاتمقالات مختارة

تنزيه التوحيد

بقلم أحمد سمير قنيطة

إن عقيدة التوحيد هي وتد الخيمة وحجر الأساس لهذا البناء الإسلامي الشامخ، وهي أول ما أمر به الله سبحانه وتعالى عباده فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)، ولا شك في أن عقيدة التوحيد بمفهومها البسيط والواضح ألا وهو عباده الله وحده والكفر بالطاغوت والإيمان بحاكمية الشريعة، هي متحققة في عموم المسلمين المخلصين والمجاهدين المحبين لدينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم.
الإشكال هو في استخدام بعض الغلاة من التيارات الجهادية لهذا المصطلح وتعقيده وتقييده بقيود ليست منه البتة، حتى أصبحوا يرون -وعن قناعة- أنهم هم الأوصياء على دين الله وعلى عقيدة التوحيد، وأن لديهم الصلاحيات المطلقة في إعطاء المسلمين شهادات في سلامة التوحيد، بل ويتعدى بعضهم لإجراء “اختبارات التوحيد” للمسلمين، فإنك إن دخلت في نقاش مع أحدهم يسألك ابتداءً: ما تقول في الزعيم الفلاني أو الحكومة الفلانية “التي لا تقيم شرع الله”؟ فإن قلت بكفرهم فأنت من حماة التوحيد، وإن قلت خلاف ذلك لأسباب شرعية حقيقة تراها، مثل الحصار والاستضعاف وانعدام التمكين فأنت في نظرهم كافر مرتد، وفي أحسن الأحوال مميع للتوحيد!
الأمر ليس بهذا التعقيد كما يفهمه الغلاة والمتنطعون، فعقيدة التوحيد سهلة واضحة ولها عناوين جلية تكاد لا تخفى على مسلم، فلا تُدخلوا فيها ما ليس منها، وهنا لا بد من التفريق بين الإيمان التام بعقيدة التوحيد بمتطلباتها وشروطها، وبين ما تنتهجه بعض التيارات الإسلامية من اجتهادات سياسية في ظل تعقيدات المشهد الدولي والإقليمي والحرب على كل ما يمت للإسلام بصلة، فما إن يجتهد ذاك التيار أو غيره في قرار سياسي وفق قاعدة “السياسة الشرعية” إلا وتثور ثائرة “أنصار التوحيد” بأن هؤلاء مميعون باعوا الدين وفرطوا بعقيدة التوحيد وخانوا الأمة!

هوِّنوا عليكم، ما هكذا تورد الإبل وما هكذا تُقاس الأمور، فالأصل في أبناء الإسلام وحماة العقيدة أن يكونوا على درجة عالية من الفهم العميق والتفكير الدقيق بمجريات الأحداث التي تدور من حولهم وتكاد أن تعصف بهم، وأن يجدوا -بوعيهم لطبيعة الصراع الذي تخوضه الأمة- العذر لإخوانهم وقادتهم وأن يسألوا ويستفسروا ويستقصوا قبل إصدار الأحكام، لا أن يطلقوا لألسنتهم العنان في القدح والتجريح والتشهير، خصوصاً إن كان ذاك المجتهد “سياسياً” مشهود له بالثبات والتضحية في دفع صيال أعداء الأمة، فالسياسة الشرعية تقتضي أن تقاتل العدو الواضح الصريح اليوم، وأن تهادن أو تؤجل قتال عدو آخر، وأن تنسج علاقات مع هذه الجماعة التي تشترك معها في كثير من الأهداف والطموحات، وأن تتفاهم مع تلك الدولة التي تلتقي معها ببعض المصالح المشتركة.

أجزم أن معظم التيارات الإسلامية المجاهدة التي تدافع عن حياض الأمة على اختلاف توجهاتها ومشاربها هي على عقيدة سليمة في قضية التوحيد سواء أكانوا قاعدة أو جهاديين أو إخوان، فكلهم يؤمنون بالله وحده ويكفرون بالطاغوت ومقتنعون بحاكمية الشريعة، ولكنهم يجتهدون، فبعضهم يرى أنه لا سبيل لتحكيم الشريعة إلا بالجهاد ودق الرقاب ومعاداة الطواغيت جملة واحدة مثل تنظيم القاعدة، وبعضهم يُخيل إليه أنه يمكن أن يصل إلى تحكيم الشريعة عبر الاستفادة من القوانين الدولية بالتماهي معها مثل الديمقراطية وغيرها، من أجل الوصول مجتمع مسلم ثم حكومة مسلمة قوية تمتلك غذاءها وسلاحها ودواءها فيعمل بعدها على تحكيم الشريعة من واقع القوة والسيطرة مثل اخوان مصر، ومنهم من حاول الجمع بين هذا وذاك (الجهاد والديمقراطية) كـ “حماس” في فلسطين، ومنهم من رفع لواء الجهاد وكفر بالديمقراطية ولكنه يحاول نسج التحالفات والتفاهمات مع بعض الحكومات العلمانية وفق قاعدة المصلحة كـ”هيئة تحرير الشام” في سوريا، رغبة منه في تخذيل الأعداء وحشد الطاقات لمحاولة خدمة مشروعه الجهادي.
كل هؤلاء على عقيدة سليمة، يجتهدون فيخطئون في جانب ويصيبون في آخر، فليس كل اجتهاد سياسي ينطلق من قاعدة عقيدة التوحيد، فديننا فيه الفرض والواجب، والمندوب والمستحب، والحلال والمكروه والحرام، وكذلك هي السياسة الشرعية، فالبعض لظروف معينة يأخذ بالعزيمة في غير موضعها -ظناً منه أن فيها المصلحة- وبعضهم يأخذ بالرخصة كذلك، وآخر يوازن بين هذا وذاك في هذا الوقت الحرج الذي تمر فيه أمتنا، حيث يسعى أعداؤنا إلى تمزيقنا إلى كيانات متناحرة لجعل بلادنا بركاً من الدماء، حتى لا نفكر في نهضة أمتنا واستعادة عزها وسؤددها ومجدها التليد.

على القادة والنخب أن يزرعوا في وجدان جنودهم أن لكلٍ مسئوليته واختصاصه، فالسياسي له اختصاصه في السياسة، والشرعي مهمته الموازنة بين الراجح والمرجوح، والجندي مهمته حماية الأرض والعرض

لذلك فإنه من أوجب الواجبات في هذه الأوقات أن نعيد النظر في قناعاتنا السابقة، وأن نفهم جيداً أن السياسة الشرعية باب واسع بأن نتركها لأهلها من أصحاب الاختصاص، فهم الذي يستطيعون تقدير الأمور بشكل سليم، ويعرفون الموازنة بين تحقيق مصلحة مهمة على حساب مصلحة أقل أهمية، أو تجنب مفسدة كبرى بمفسدة أقل، كل ذلك لا يفلح به إلا الراسخون في العلم من العلماء العاملين، فما أورد الأمة والأحزاب الإسلامية المهالك إلا تصدر السفهاء من الغلاة والمتنطعون ممن يدعون العلم والفهم، فراحوا يكفرون هذا ويخونون هذا ويرمون ذاك بتهم الردة والزندقة وغيرها، حتى اختلط الحابل بالنابل ووصل حال أمتنا إلى ما نحن عليه اليوم من فرقة وشقاق وتمزق.

كل مجاهد مسلم يدافع عن حياض أمته ويدفع عنها صيال الأعداء عليه أن يتفرغ لهذه المهمة الشريفة الراقية، وأن يترك الجدل والمراء والأخذ والرد في مسائل السياسة الشرعية المعقدة لأهل الحل والعقد، وأن يعلم أنه يجب أن يتسع صدره لإخوانه من التيارات الجهادية أو التحررية الأخرى ممن يدافعون أيضاً عن أمتهم وشعوبهم ومقدساتهم، فمعركتنا اليوم هي معركة أمة وليست معركة مشاريع، فعلى القادة والنخب أن يزرعوا في وجدان جنودهم أن لكلٍ مسئوليته واختصاصه، فالسياسي له اختصاصه في السياسة، والشرعي مهمته الموازنة بين الراجح والمرجوح، والجندي مهمته حماية الأرض والعرض، كل ذلك مضبوط بكتاب ربنا وسنة نبينا واجتهادات أهل العلم والفقه.
أخيراً، فإن تعظيم عقيدة التوحيد بوضعها في محلها السليم وتنزيهها عن سفاسف الأمور وعدم استخدامها فيما يخدم مصالح الحزب أو التنظيم، وتجنب تفصيلها على مقاس فكر أو منهج معين، فإن من يفعلون ذلك إما أن يعادوا العالم بأسره كما فعلت داعش حرصاً على “سلامة التوحيد”، وإما أن يُحرِّموا اليوم أمراً “سياسياً” على أنفسهم وعلى غيرهم، فيقدحون في سلامة توحيدهم بسببه، ثم يجدوا أنفسهم لاحقاً مضطرين لسلوك ذات الطريق التي سلكها غيرهم مع استدعاء الأدلة الشرعية والأحداث النبوية، فيسقطونها على واقعهم للدلالة على سلامة خطواتهم واجتهاداتهم السياسة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى