مقالاتمقالات مختارة

تناولتها الكتب القديمة وأحيطت بأساطير.. ما سر البلاطات السوداء في الأقصى؟

تناولتها الكتب القديمة وأحيطت بأساطير.. ما سر البلاطات السوداء في الأقصى؟

بقلم جمال أبو عرفة

بلاطات سوداء رخامية تتوزع في أماكن متفرقة قليلة بساحة صحن قبة الصخرة في المسجد الأقصى، تنفرد بلونها وشكلها المغاير عن محيطها، في دلالة رمزية وظيفية لا جمالية، لا يلاحظها إلا فاحص باحث، متسائلا عن سرها ودلالتها في ظل غموضها وشُح آثار السلف والخلف عنها.

صمدت حتى اليوم بلاطتان فقط من أصل 4، وهما بلاطة سوداء على شكل محراب باتجاه القبلة بين قبة الشيخ الخليلي وقبة الخضر، وأخرى مستطيلة في قبة الأرواح شمال قبة الصخرة، أما الأخريات فبلاطة عند البائكة الجنوبية أزيلت خلال الترميم العثماني، وأخرى عند باب الجنة شمال قبة الصخرة أزيلت في عهد الوالي العثماني أحمد جمال باشا (السفاح)، وهي الأهم بينها.

ويرجح سبب إزالة بعض البلاطات إلى قطع ارتباط المصلين بها بعد تداولهم خرافات بشأنها وتقديسها وارتكاب البدع حولها، لكن ما دلالة هذه البلاطات؟ وما الروايات المأثورة بشأنها؟ توجهت الجزيرة نت إلى عدد من الباحثين في تاريخ المسجد الأقصى، والذين أجمعوا على أن وجود البلاطات حول صخرة المعراج لم يكن صدفة أبدا.

بلاطة سوداء على شكل محراب بين قبة الشيخ الخليلي وقبة الخضر (الجزيرة نت)

قداسة شعبية شفوية
ينفي الباحث في تاريخ القدس والأقصى إيهاب الجلاد ارتباط البلاطات السوداء بأصل ديني ثابت، مؤكدا أنها اكتسبت قدسية شعبية شفوية تطورت عبر الزمن بتطور المفهوم الشعبي للقداسة.

ويبين الجلاد للجزيرة نت أن المسلمين في العهد الفاطمي مثلا حاولوا الربط بين المسجد الحرام والأقصى، فنصبوا حجارة سوداء في الأقصى تيمنا بالحجر الأسود في الكعبة ورمزيته كأحد حجارة الجنة، ولتعميق ارتباط الأقصى بالسماء على اعتبار أنه “بوابة السماء وموقع المعراج”.

مكان البلاطة السوداء قرب الباب الشامي في قبة الصخرة والتي أزيلت في عهد الوالي العثماني أحمد جمال باشا (الجزيرة)

بلاطة قبة الصخرة
تركز روايات كتب فضائل بيت المقدس القديمة على ذكر البلاطة السوداء داخل قبة الصخرة قرب باب الجنة، ويقول الجلاد إن أول ذكر لها كان في كتاب “فضائل البيت المقدس” للإمام الخطيب أبو بكر محمد الواسطي، والذي كتبه في القرن الرابع الهجري (900 ميلادي) في العهد الفاطمي.

وكتب الواسطي في كتابه تحت باب “فضل البلاطة السوداء” قائلا “حدثتنا بُجيلة -وكانت ملازمة لصخرة بيت المقدس- فقالت: لم أعلم يوما إلا وقد دخل عليّ من الباب الشامي (باب الجنة) رجل عليه هيئة السفر فصلى ركعتين أو أربعا ثم خرج، فتعلقت بطرف ثوبه، فقلت: يا هذا، رأيتك قد فعلت شيئا لم أدر لأي شيء فعلته، فقال لها: أنا رجل من أهل اليمن، وإني خرجت أريد هذا البيت (الأقصى)، فمررت بوهب بن منبه (تابعي)، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: بيت المقدس، فقال: فإذا دخلت المسجد فادخل الصخرة من الباب الشامي، ثم تقدم إلى القبلة فعلى يمينك عمود وأسطوانة، وعلى يسارك عمود وأسطوانة، فانظر بين العمودين والأسطوانتين رخامة سوداء فإنها على باب من أبواب الجنة، فصلِّ عليها وادع الله، فإن الدعاء عليها مستجاب”.

بلاطة سوداء داخل قبة الأرواح وقد تغير لونها وتكسرت بفعل الزمن (الجزيرة نت)

حقيقة أم خرافة؟
يقول شهاب الدين المقدسي في كتابه “مثير الغرام إلى تاريخ القدس والشام” معلقا على رواية “بُجيلة” عن البلاطة السوداء “قاتل الله القُصاص الوضاعين (الذين يسردون القصص في المساجد)، ولا شك في فضل هذا المسجد، ولكنهم غلوا (زادوا)، إنما صح ذلك لمسجد رسول الله في قوله “ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة”، مع أن بعض العلماء تأوله، وبعضهم حمله على ظاهره”.

وعن البلاطة السوداء قرب باب الجنة أيضا، يقول الباحث الجلاد إن مسامير من فضة ثُبتت عليها في فترة ما حتى ظهرت خرافة تقول إن زوال كل مسمار منها يشير إلى اقتراب يوم القيامة.

زاوية الخضر أسفل قبة الخضر والتي تحولت إلى مكتب لدائرة الأوقاف الإسلامية (الجزيرة نت)

دلالة سفلية
بدوره، يرى مدير مركز المخطوطات في المسجد الأقصى رضوان عمرو أن لبعض البلاطات السوداء دلالة سفلية، فيقول للجزيرة نت إن هضبة بيت المقدس التي بنيت فوقها قبة الصخرة ليست صخرة صماء في مجملها، وإنما تحتضن أسفها آبارا وقناطر ومغارات.

وأضاف أن البلاطة السوداء قرب قبة الصخرة يوجد أسفلها فضاء سفلي أو صهريج سمي “زاوية الخضر”، وتحول لاحقا إلى مكتب لدائرة الأوقاف الإسلامية، أما الجلاد فيعتقد أن البلاطة المضافة في العهد الأيوبي تشير إلى مكان صلاة الخضر واستجابة الدعاء شأنها كشأن بلاطة قبة الصخرة.

ويعتقد عمرو أن البلاطة السوداء في قبة الصخرة تشير أيضا إلى دلالة سفلية، مبينا أنها علامة أموية على مدخل سرداب طويل سفلي طويل يخرج من تحت القبة شمالا، وله درج ينزل لسرداب آخر تحته يوصل إلى المغارة الشمالية تحت صخرة بيت المقدس.

ويستدل على ذلك بما أورده شهاب الدين المقدسي في كتابه “مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام” في القرن السابع الهجري (1300 ميلادي)، قائلا” روى الوليد بن حماد قال: حدثنا علي بن سلامة، حدثنا أبو سلامة عن أبيه عن جده قال “أمرني المهدي (الخليفة العباسي) أن أزيد المسطبة التي عند البلاطة السوداء في الصخرة ففعلت، وقلعت بلاطة من البلاط الذي عند البلاطة السوداء فإذا زقاق مضيء، فنزلت ومشيت فيه نحو الباب الشامي (الجنة)، وإذا ثَمّ كوة (فتحة للتهوية والإضاءة) مما يلي القبة..”.

باب الجنة شمال قبة الصخرة والذي توجد قربه البلاطة السوداء التي ذكرت في كتب فضائل بيت المقدس (الجزيرة نت)

بلاطات أخرى
أما عن البلاطة المزالة قرب البائكة الجنوبية فيقول الباحث الجلاد إنها ارتبطت رمزيا بالمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل جنوب القدس، وعن البلاطة السوداء داخل قبة الأرواح المبنية من نفس حجارة صخرة هضبة بيت المقدس الأصلية يقول عمرو إنها لم ترد في كتب فضائل بيت المقدس، ولكنها تدل على رمزية علوية كشأن باقي البلاطات.

موضع البلاطة السوداء داخل قبة الأرواح شمال قبة الصخرة والتي بنيت من حجارة هضبة بيت المقدس الأصلية (الجزيرة نت)

آثار مرتبطة بالتصوف
بدوره، يقول أستاذ دراسات بيت المقدس في جامعة “إسطنبول 29 مايو” عبد الله معروف للجزيرة نت إن البلاطات السوداء في الأقصى ترتبط بالتصوف، حيث كانت توضع بأماكن رأى بعض شيوخ المتصوفين في منامهم أن صالحا يصلي عليها كالخضر مثلا، وتشير -أينما وجدت- إلى موضع مرتبط في الذاكرة الشعبية الصوفية باسم نبي أو صالح، وتم تمييزها لمن أحب الصلاة عندها.

ويشير معروف إلى أن هناك موضعا غرب قبة الصخرة رُجح أن النبي عليه الصلاة السلام صلى فوقه إماما بالأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج، فعُلّم ببلاطات حمراء وبنيت فوقه قبة لاحقا سميت قبة “محراب النبي”.

ويضيف أن أغلبية البلاطات السوداء في الأقصى أقيمت بعد الاحتلال الصليبي، وذلك في الفترات الأيوبية المتأخرة أو المملوكية، فيما أضاف العثمانيون القباب إلى بعضها.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى