مقالاتمقالات مختارة

تكميم أفواه الدعاة.. وإسناد الأمر إلى غير أهله

بقلم د. محمد السباعي – مدونات الجزيرة
إن الناظر في حال أمتنا الإسلامية اليوم، وما تشهده من أزمات وتفرقة، وما تعيشه من حروب وويلات، سياسية واقتصادية واجتماعية، وثقافية، بعضها لا يزال خاضعا للإمبريالية الغربية، وبعضها الآخر طرق إلى الساحة من جراء الصراع على رغد العيش والتربع على المناصب بين أبناء الأمة الواحدة، ليتساءل أين هم علماء الشرع لجمع الأمة على كلمة سواء؟ نعم في هذا الوضع المتأزم يأتي دور العالم المصلح بصفته وارث علم رسول الله ﷺ، وبيان هذا الميراث للناس كي يهتدوا به فيما فيه خير دينهم ودنياهم.
لكن هذه المشكاة النورانية المستضيئة بنور الوحي، أمست في عصرنا الراهن، محاطة بعناية كبيرة، وتحظى بمراقبة دقيقة من لدن أصحاب القرار السياسي المالكون لزمام الأمور، والمتدخلون في كل الشؤون السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وحتى في الشأن الديني! الذي من المفروض أن يكون هو المرجع الأساس لحل كل الخلافات والنزاعات، ومداواتها وفق ما يتناسب وشرعنا الحنيف، بحيث أصبحنا نرى أقوال وفتاوى الدعاة والمنابر الدينية، تخضع لراقبة صارمة أشبه بالتي كانت تمارس في محاكم التفتيش على المسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة.

فمتى كان الدعاء “بالتأليف بين قلوب حكام المسلمين” جريمة يعاقب عليها القانون؟ تالله ما وجد هذا العجب لا عند الأمم الغابرة التي طواها الزمان، ولا في الجاهلية الأولى التي طمس معالمها الإسلام، إلا في عصرنا عصر التقدم والحضارة.

إن من حق العالم الحر الذي لا يخاف في الله لومة لائم، أن يطبق شرع الله تعالى كما أنزل، وأن يمتثل لأمره ونهيه ويبينه للناس، وإن لم يفعل تكن في الأرض فتنة، وفساد كبير، إن الدعاء بالتأليف بين القلوب لم يأت عبثا ولا محاباة في أحد، وإنما كان مستنده قوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، إيمان تتبعه أخوة، يتبعه إصلاح، تجمع كل ذلك التقوى ثم رحمة، وقوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).

فلا هو اقتتال بالرماح والخيول والسيوف، ولا هو اقتتال بالقنابل والطائرات والتوماهوك، بل هو اقتتال سياسي اقتصادي محض، فإذا ما أراد علماء الشرع لَمَّ الصّف ودَرْء الفتن، والنصح بالتي هي أحسن، اتُهموا بترويج الفتن، وخيانة الوطن وبيعه، ومطاردتهم واعتقالهم ورميهم في غياهب السجون، ملفقين لهم التهم سالفة الذكر، فاعتُقل من اعتقل، وحُوكم من حوكم، ونُفي من نفي، كل ذلك لأنهم لم يسبحوا بحمد الحاكم ويقدسوا له. ووضع مكانهم من لا فقه له ولا علم يتكلمون في شرع الله ويفسرونه على أهوائهم وما يوافق بطانة الحاكم الشريفة، شعارهم البرَّاق “الدين لله والوطن للجميع”.

انظروا كيف استحوذ هؤلاء الرويبضة على مراكز القرار، وعاثوا في الأرض الفساد، فأصبحت فتاويهم تخرج من تحت عباءة الشيطان، انظروا إلى مصر بلد الأزهر الشريف، انظروا الى العراق، بل انظروا إلى بلاد الحرمين وقبلة المسلمين كيف سُيِّست الفتاوى فيها وصار الدعاء لغير ولي الأمر جريمة! انظروا كيف يصنف رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على لائحة الإرهاب، لأنه لم يسبح بحمد الحاكم.

لقد أوجب الإسلام احترام العلماء وتقديرهم، فهم قدوة المجتمع، وبهم يرتقي وينهض، وهم الذين يبينون له أحكام الشرع ومقاصده، ويقررون له الأحكام الشرعية لما يعتري حياة أفراده من مستجدات ونوازل، وإن فضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وقد قال ابن القيم في إعلام الموقعين: “العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب”. فتعظيم العلماء وتقديرهم من تعظيم شعائر الله، قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ).

وتكميم أفواه الدعاة ومنعهم من تأدية مهامهم التي أسندها الله تعالى إليهم، لهي جريمة شنعاء، يوشك الله أن يعم أصحابها بشر عظيم، إذ بتكميم هذه الأفواه الزكية يذهب العلم، وإذا كممت أفواه العلماء من سيجتهد ويجدد للأمة أمر دينها؟ والمتتبع لهذا الشأن يلحظ الفساد الذي عم الأمة جراء إقصاء العلماء، وإسناد الأمر إلى التافهين ليتكلموا باسم الدين، حيث أصبحنا نرى الصحفيين والفنانين والممثلين والكتَّاب، عبر مختلف الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، وقد غمرت وجوههم اللحى باسم الموضة، يتكلمون في أمر الدين، ويفتون الناس بغير علم، وفي الحديث: “إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى