تقديم لكتاب ( العلمانيون والقرآن الكريم )
تقديم د. نور الدين عتر
بسم الله الرحمن الرحيم
اتخذت الفلسفة لنفسها في هذا العصر – كما سبق لها في العصور الأولى – صفة السيطرة على الفكر الإنساني، وراحت تخاطب الناس من علو، سالكة سبلاً من التعقيد والإبهام، ووسائل من التعبير الشاذ في اللغة مثل التاريخانية، والعلمانوية، والأصولوية وغير ذلك توهم بذلك خالي الذهن أن عندها شيئاً ولكن الحقيقة أن دعاتها يبالغون في شأنها وكأنما يريدونها بديلاً عن دين الله الذي أنزله لعباده ؟!!!.
وقد أخذت العلمانية – بزعمهم – طابع التعميم الظالم في حكمها على الأديان، وجازفت في هذا مجازفة عظيمة لا تليق بذي لب فضلاً عن ذي حكمة – كما هو معنى الفلسفة- فقد خلط أصحابها بسبب تقليدهم الأعمى للأجانب بين الدين الذي نهض بالعلم والحضارة وسبق العالم في ذلك على مدى ألف ومائتي عام، وبين دين أو أديان حاربت العلم وفتكت بالعلماء بوحشية عجيبة حتى بلغ عدد المعاقبين في أوربة في عصر النهضة رقماً مذهلاً تجاوز ثلاثمائة ألف، أعدم منهم اثنان وثلاثون ألفاً إحراقاً بالنار كل ذنبهم أنهم اتبعوا الحقيقة ونهضوا بالعلم.
كذلك خلط دعاة الفلسفة الحديثة بين دين يشيد بالعقل ويحتكم إليه حتى تبلغ الآيات القرآنية في ذلك ثلاثمائة آية أو أكثر، وبين دين يعلن رجله الأعلى منصباً فيه أن اليقين بالله لا يخضع للعقل…!
والحقيقة أن الفلسفة والفكر الإنساني كله ليعجز عن الوفاء بحاجة الإنسانية سواء في العقيدة أو الشريعة. أما في العقيدة فلا تستطيع الفلسفة والعقول البشرية أن تتوصل لأكثر من الإيمان بالله عز وجل، وأنه عظيم عظمة لا حد لها، ثم لا تلبث أن تتخبط فيما وراء ذلك حول ما يجب لهذا الإله من صفات أو ما يستحيل عليه منها. وقديماً لم تُجْدِ اليونانَ فلسفتُهم أن تنقذهم من عبادة الأصنام بل زادت الطين بلة أن زينت عبادة النجوم بزعم أنها مساكن العقول العشرة المزعوم أنها تدبر العالم، وأن النجوم كائنات علوية قدسية، لا تقبل التقسيم والتجزيء، مما أبطله العلم الحديث بالمعاينة لأرض القمر، ووصول مراكب الفضاء لغيره، والحصول على قطع من سطح القمر، ليسجل العلم إعجاز القرآن بأن هذه النجوم لا تعدو أن تكون مخلوقة مسخرة لأمر الله{والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } بل زاد القرآن وسبق العلم فقرر هذه القاعدة التي بيناها في كتاب ” فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة “: الإنسان سيد والكون له خادم، وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى:{سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } لقمان.
وأيضاً فإن الفلسفة والعقل البشري يعجز عن التوصيل إلى الأخلاق الصحيحة التي يجب التخلق بها والتزامها والأخلاق السيئة التي يجب تطهير النفس منها واجتثاثها، ومن قرأ كتاباً في نظريات الفلاسفة الأخلاقيين وجد اختلافاً عظيماً لا يحله إلا العالم بخفايا النفوس سبحانه وتعالى، حتى تباينت نظرياتهم من أسفل الواقعية الإباحية إلى المثالية الخيالية كما أن مصدر الطاعة في الأخلاق لا يمكن إلا أن يكون إلهياً.
وفي مجال تعامل الناس بعضهم مع بعض تتباين الوجهات تبايناً عظيماً وحسبنا انقسام العالم بشأن الاقتصاد وحده أحزاباً وشيعاً {كل حزب بما لديهم فرحون } وكلها نظرات محدودة تحكمها ظروف البلد، وثقافة واضع النظام وبيئته ومصالحه ومصالح من حوله وغناه وفقره ومنزلته وأسرته…. إلخ، أما التشريع الرباني فإنه تشريع العليم بخلقه الحكيم في شرعه لا ينفعه غنى الغني، ولا قوة القوي فيحابيهم، ولا يضره فقر الفقير ولا ضعف الضعيف فيجور عليهم، ولا ينحاز إلى الفقراء ضد الأغنياء، ولا غير ذلك فأحكم شرعه لخلقه، وألزمهم بما أنزل على عبده ورسوله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
من هنا يأتي هذا الكتاب القيم الذي أعده زميل اليوم وتلميذ الأمس البار السيد الدكتور أحمد إدريس الطعان ليحتل مكانه في عالم الفكر عامة، وعالم الدراسات الإسلامية خاصة، فقد راجت دعايات الفكر المعاصر وفلسفته العلمانية، ووُجد لها أنصار من مختلف الطبقات في مختلف البلاد حتى التي يُظن بها البعد عن الاغترار بهذه البهارج، بسبب التقليد الأعمى للأجانب واغتراراً بأساليب الفوقية المتسترة بأسلوب التعقيد والإبهام واستعمال المصطلحات الأجنبية المطولة يوهمون القارئ أن عندهم شيئاً فوق ما عند الناس…!!.
فجاء هذا الكتاب ينزع منهم سلاحهم بأن يكشف معاني كلامهم ويوضحه، ويعرض حججهم بغاية الإنصاف، ثم يكر عليها بالنقد والإبطال، بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، ويبرز القيم الصحيحة التي يجب أن يعتصم بها القارئ.
إن هذا الكتاب مرجع مهم في بابه، وحجة يُرجَع إليه في القضايا التي عرض لها، نرجو لصاحبه عظيم القبول عند الله جل شأنه، ولقـارئه مزيد الفـائدة في مـواجهة تحديـات الفكر المسلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)