مقالات مختارة

تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة

بقلم د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي

إن المصالح العامة، والمصالح الخاصة من العبارات التي يكثر استخدامهما في المجتمعات الإنسانية، وهي من لوازم الحياة، فلكل نوع مجاله، وحدوده، وربما المعروفة لدى الكثير من أفراد المجتمع، وخصوصاً أصحاب البصائر النيّرة، والرؤى المعتدلة، وإذا عَرف كل إنسان مسؤولياته، وواجباته انتظمت الحياة، أما إذا قُدمت المصالح الخاصة على المصالح العامة، فهنا تكمن المشكلة، وتتعالى الصيحات بالإصلاح ليتحقق للمجتمع استقراره، وتقدمه، ورقيه.

إن بعض المجتمعات الإسلامية للأسف الشديد اليوم تعاني من تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة في الكثير من شؤون الحياة، وقد أشتهر تسمية ذلك بين الناس بالفساد الإداري، وأي فساد، وضرر أعظم من التعدي على المال العام، والحقوق العامة، والتساهل في ذلك دون خوف من الله تعالى، أومن خلقه.

إن التعدي على المصالح العامة تعدٍّ على حقوق المجتمع بأكمله، وضرر يلحق بالجميع، بل هو في الحقيقة جريمة في حق المجتمع لما له من آثار سلبية خطيرة، ولا نبالغ في القول أن ذلك أصبح مشكلة متلازمة مع المجتمعات النامية ومنها بعض المجتمعات في العالم الإسلامي.

ولاشك أن الثورات التي قامت مؤخراً في بعض المجتمعات الإسلامية تؤكد بجلاء تام أنها عبارة عن ردود أفعال طبيعية لتفشي سيطرة المصالح الخاصة على المصالح العامة، وهذه المشكلة الخطيرة من الأسباب الرئيسة التي جعلت أكثر المجتمعات الإسلامية في تخلف، وموضع ازدراء من المجتمعات المتحضرة اليوم.

إن الإسلام بتشريعاته السامية أرسى دعائم المجتمع بحفظ الحقوق العامة، والخاصة من التعدي بأي صورة من صور التعدي، فلا يجوز لأحد كائن من كان أن يتعدى، أو يستخدم سلطته في تحقيق مصالحه الخاصة البتة، وقد كانت سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصحابته الكرام، وسلف الأمة الصالح – رضي الله عنهم – زاخرة بالمواقف الناصعة، والمشرقة في المحافظة على المصالح العامة، وعدم استخدام المصالح الخاصة، بل جعلوا مصالحهم الخاصة مسخرة لخدمة المصالح العامة.

ومن الأمثلة التطبيقية في حياة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء في الحديث الشريف: عن أم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله عنها – أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترئ عليه إلا أُسامة حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ” أتشفع في حد من حدود الله “،ثم قام فخطب، قال: ” يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها “.[1]

والحديث الشريف يتضمن المحافظة على المصالح الخاصة، وتتمثل في عدم التعدي على حقوق الآخرين، وإيذائهم بسرقة أموالهم، كما يتضمن المحافظة على المصالح العامة بتطبيق الحق العام، وهو إقامة حد السرقة على السارق، وفيه ردع لكل من تسوّل له نفسه التعدي على حقوق الآخرين سواء عامة، أو خاصة.

وقد تضمن الحديث الشريف فوائد تربوية عظيمة جداً ترسم منهجاً واضحاً في المحافظة على المصالح العامـة، والمصالح الخاصـة على حـد سـواء، وسوف أشير إلى بعض هذه الفوائد المهمة ذات العلاقة بمـوضوعنا، ومنها:

الأولى: المحافظة على الحق العام بتطبيق شرع الله تعالى على كل من وجب عليه حد من حدود الله تعالى، وهذا من أهم وأعظم المصالح العامة التي تجب المحافظة عليها.

الثانية: قَسَم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الصادق المصدوق بقطع يد ابنته فاطمة الزهراء الشريفة – رضي الله عنها – فيما لو سرقت، وحاشاها – رضي الله عنها -، وهذا تأكيد منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أول من يحافظ على المصالح العامة، وعدم محاباة من له صلة قرابة في تقديم المصالح العامة لصالحه دون غيره.

الثالثة: بيان الآثار السلبية لتفشي تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وأنها دليل الضلال، والهلاك للأمم في شؤون الحياة كلها: الاقتصادية، والسياسية، والتربوية، والاجتماعية، والثقافية،… الخ، وهذا توجيه نبوي شريف بأن الأمم السابقة (ضلت) كما هي رواية البخاري، (وهلكت) كما هي رواية مسلم عند عدم المحافظة على المصالح العامة بإقامة العدل، والمساواة بين الجميع.

الرابعة: الاهتمام والعناية بشدة إنكار عدم المحافظة على المصالح العامة، وتسلط المصالح الخاصة، وكَشْف خيانة من يثبت تعديه على المصالح العامة ليكون أبلغ في الإنكار، وعبرة للغير.

الخامسة: السرعة في معالجة ذلك بالوسائل الممكنة، فقد قام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإلقاء خطبة بليغة تحتوي على عبارات قصيرة، ولكن تحتوى معان واسعة ترسم وتوضح منهج الإسلام في قضية رعاية المصالح العامة، وعدم تسلط المصالح الخاصة عليها.

السادسة: وضع القوانين، والعقوبات اللازمة، والرادعة لكل من تسوّل له نفسه الاعتداء على حق المال العام.

السابعة: شدة غضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإنكاره لأسامة – رضي الله عنه – في هذا الموضوع لأنه من الموضوعات المهمة التي لا تقبل المسامحة، أو التنازلات، لأنه سيترتب عليها فساد، وضلال، وهلاك للمجتمع.

الثامنة: تحذير الناس وتنبيههم إلى خطـورة الشفاعـة المفسدة (وليست الحسنة)، والتي يسعى لها بعض الناس دون إدراك ووعي في أنها تعدي على المصالح العامة، واهتزاز للموازين في العدل، والمساواة بين الناس، وأن هذه صفة من صفات الجاهلية، وأهل الضلال، ووضع الأمور في غير موضعها.

ومن الأمثلة المشرقة في حياة سلف الأمة، ما قام به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في المحافظة الشديدة على المصالح العامة، فمن مواقفه المعروفة: إن ابنه عبد الله بن عمر – رضي الله عنه -: اشترى إبلاً وأرسلها إلى الحمى حتى سمنت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ… بخ… ابن أمير المؤمنين، ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى، أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.[2]

موقف في غاية الورع، والزهد، والمحافظة على المصالح العامة، وعدم تقديم المصالح الخاصة عليها، وفي الحقيقة أن السيرة النبوية الشريفة، وسيرة الخلفاء الراشدين، وسلف الأمة الصالح زاخرة بهذه المواقف المضيئة، والمشرقة في سماء المجتمع المسلم، ولا شك أن هذا سر عظيم، ومفتاح أساس في المحافظة على المجتمع، وتطوره، والرقي به، فحينئذ نحن بحاجة ماسة جداً للعودة الصادقة إلى سيرة سلف الأمة، وتلمس أسرار نجاحها، وتفوقها حتى نستطيع أن نعيد للأمة مجدها وعزها.

منطلقات وأسس مهمة:

لقد مر معنا آنفاً حديث المرأة المخزومية، وقد تضمن العديد من الفوائد العظيمة التي ترسم وتضع العلاج الناجع للمحافظة على المصالح العامة، وسوف أشير إلى بعض المنطلقات والأسس المهمة في ذلك:

أولاً: غرس العناية بالمصالح العامة، وتقديمها على المصالح الخاصة في الناشئة منذ المراحل الأولى في حياتهم، ابتداء من الأسرة، فالمدرسة، فالجامعة، وأن يكون الوالدان، والمعلمون قدوة حسنة للنشء.

ثانياً: تكثيف الدروس، ولمحاضرات، والخطب، واستخدام كل الأساليب، والوسائل الدعوية، والإعلامية الممكنة، لغرس الوازع الديني في نفوس الناس، بالرقابة الذاتية، والورع من التعدي على المصالح العامة.

ثالثاً: على الإنسان المسلم العاقل البالغ أن يعرف أن المحافظة على المصالح العامة، وعدم تقديم مصلحته الخاصة عليها واجب ديني، ووطني، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا ضرر ولا ضرار “.[3]، وأن تقصيره في ذلك محاسب عليه ومجزي به، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾.[4]

رابعاً: إن شيوع مشكلة ضعف المحافظة على المصالح العامة قد يكون بسبب وجود مشاكل أدت إلى ذلك، وقبل أن نعالج النتائج يجب أن نبحث عن الأسباب، فمثلاً ضعف رواتب العاملين في المجتمع، قد يؤدي إلى الاعتداء على المال العام، والفساد الإداري بشتى صوره.

خامساً: وضع سياسات، وآليات واضحة، ومعلنة للمحافظة على المال العام في كافة المستويات، والتأكد من عدم وجود ثغرات في النظام يتسلل منها ضعاف النفوس.

سادساً: أهمية وجود نظام دقيق للمحاسبة لكل من يعتدي على المال العام، فبعض النفوس لا يفيد معها الوعظ والإرشاد، فيكون العقاب المحسوس أكبر رادع لهم عند تجاوزهم.

سابعاً: أهمية إبراز القدوات الحسنة في المجتمع على مختلف المستويات، والتي تميزت بالمحافظة على المصالح العامة، ليكون مثابة نماذج ُيحتذى بها.

—————————————

[1] ( البخاري، صحيح البخاري، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، حديث رقم : 6788 )، ( مسلم، صحيح مسلم، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم : 1688 ).

[2] ( البيهقي، السنن الكبرى، باب ما جاء في الحمى، حديث رقم : 12156 )، ( ابن عساكر، تاريخ دمشق، باب سيرة عمر بن الخطاب، ج 44 ، ص 327 ).

[3] ( ابن ماجه، سنن ابن ماجه، باب من بُني في حقه ما يضر بجاره، حديث رقم : 2340 ),

[4] ( الزلزلة : 7-8).

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى