مقالاتمقالات مختارة

تفتيت أدوات السلطة (2) .. حق العقاب

بقلم د. عمرو عادل

 

يعتبر العقاب أحد أكبر مظاهر السلطة، وهو يعبر عن أقصى درجات هيمنتها وسيطرتها على المجتمع، ولا يختلف ذلك في كافة أنظمة الحكم عبر التاريخ، ويمكن بدرجة ما قياس مدى سطوة النظام الحاكم بقدرته على إنفاذ العقاب فيمن يريد، ولا يوجد فارق كبير في هذا المعنى بين أكثر الدول ديكتاتورية وأكثرها حرية – من حيث علاقة السلطة بحق العقاب – ولكن يظهر الفارق في علاقة العدالة بالقانون بالأخلاق، وهذا موضوع فيه الكثير من الكلام ليس هذا محله.

ما يهمنا الآن هو علاقة العقاب والقانون والسلطة وما هي العوامل الحدِّية التي تدفع المجتمع إلى وجوب انتزاع حق العقاب من السلطة؟ أو على الأقل الرفض الإيجابي وبناء منظومة عدالة موازية، وبالتالي يظهر تساؤل؛ هل حالة مصر بل ربما كل المنطقة العربية تستدعي ذلك؟

إن القانون هو نصوص تعبر عن إرادة الأقوى، وفي النظام الحديث لا يوجد ما هو أقوى من الدولة ومؤسساتها، ولذلك هي صاحبة الحق في وضع القانون، وهو يتغير طبقاً لمن في رأس السلطة وطبقاً للمصالح التي يراها. ولذلك؛ فالنظام التشريعي الإسلامي الذي يفصل كل المنظومة التشريعية تقريباً عن الدولة ويجعلها جزءاً من نسيج المجتمع، يعتبر واحداً من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية ومانعاً كبيراً ضد استبداد السلطة باستخدام نصوص القانون.

نعود للوضع الحالي؛ فالنظام الحديث للدولة في سلطاته الثلاث – حتى في الدول الديمقراطية – لم يعد قادراً على الادعاء بالفصل الحقيقي بينها، وهي – كما في أدبيات اليسار – تعتبر وهماً كبيراً وأداة لاستنزاف الطبقات الأكثر فقراً والأقل في المستوى الاجتماعي، وهذه المؤسسات الثلاث – بدرجات متفاوتة – أصبحت منظومة إنتاج قوانين تزيد من قدرات السيطرة للسلطة “البرجوازية” وإضعاف شديد لقدرة المجتمع على الصمود والتحرر.

والوضع في الدول الاستبدادية أكثر قسوة، فلم يعد الخلل فقط بنيوياً في طبيعة النظام؛ بل زادت المأساة بغياب هذا الفصل النظري الوهمي، وأصبحت علنية استخدام كافة أدوات السلطة وأهمها حق العقاب؛ أداة انتقام وتدمير وقتل تماماً كمدافع الهاون والكلاشنكوف، وتحولت كل المؤسسات ومنها المؤسسات القانونية لأدوات قتل مباشر ضد المجتمع.

فالسلطة المنفصلة تماماً عن المجتمع تنتج قوانين لحماية وجودها، وبالتالي فهي قادرة على العقاب على أي فعل تراه مضاداً لها، وأصبح القانون منفصلاً عن العدالة وليس له علاقة بالتبعية بالأخلاق، ولهذا فإن عد المنظومة القانونية بكل أذرعها – الشرطة والنيابة والقضاء – منظومة قمع بل وقتل =حق مطلق لكل المجتمع غير الموجود في مساحة السلطة، وفي هذه الحالة يجب على القوى المجتمعية الحرة التي تسعى إلى الخلاص العمل على تفتيت تلك المؤسسات الثلاث كجزء من تفتيت أداوت السلطة، وهو أحد المسارات الضرورية للثورة.

فهناك مساران رئيسيان لأي عمل مقاوم، الأول هو تقوية بنية المجتمع المقاوم، والثاني هو إضعاف السلطة لأقصى درجة ممكنة عن طريق معرفة أدواتها والعمل على تفتيتها.

وتنشأ هنا أزمة غياب القوانين المنظمة لحياة البشر، فبعد أن قامت السلطة الحديثة بتفتيت قدرات المجتمع وانتزاع كافة أدواته لصالحها؛ أصبح غياب منظومة قانونية حتى لو ظالمة – من وجهة نظر البعض – كارثة أكبر من الظلم؛ قد يكون ذلك مقبولاً في مستوى معين، أما مع تحول تلك المنظومة إلى عصابات مسلحة فهذا الكلام يعتبر حالة من الجنون أو على أقل تقدير غياب كامل للمنطق والعقل.

وما أراه أن القوى المجتمعية يجب أن تقوم بعدة إجراءات في مسار تفتيت السلطة للمؤسسات الثلاث الشرطة والنيابة والقضاء.

أولا: على المستوى الفكري

1- يجب الإيمان المطلق أن المجتمعات قادرة على إدارة نفسها وعلى حماية نفسها بدون الدولة وخاصة المستبدة، وهناك الكثير من التجارب تشير إلى أن المجتمعات تكون أكثر أماناً في غياب دولة الاستبداد، وقد عاش المصريون ذلك في أثناء يناير 2011 عندما اختفت المؤسسات الثلاث وقام الشعب بإدارة نفسه ونجح بنسبة كبيرة.

2- إدراك أن تكلفة بقاء الوضع الكارثي سيذهب بنا إلى الجحيم الكامل، وأن بقاء سيطرة النظام المستبد على مسارات القانون والعقاب نتائجه أسوأ بمراحل كثيرة من غيابها، مهما كان حجم ما يمكن حدوثه.

3- الخروج من حالة الرعب المصنوع الذي تصنعه الأنظمة بأن غيابها يساوي الفوضى والموت للمجتمع، وأن وجودهم هو الحامي الأوحد للبشر.

4- الإيمان بأن الأخلاق والعدالة هما رفيقا السلطة، وأن غيابهما يحول السلطة إلى حالة من استعباد البشر، والدين الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية هو الفيصل في قضايا الأخلاق والعدالة، ولذلك لن يتحقق تحرر إلا بربط السلطة والعدالة والأخلاق تحت مظلة القيم والنظام الإسلامي في تلك المجتمعات.

5- المتخصصون في هذا المجال عليهم نشر ما يطرحونه من نظم وأفكار بديلة متوافقة مع الواقع ومستوحاة من نظام ما قبل الدولة الحديثة وينشرونها بقطاعات المجتمع، مثل القضاء العرفي ونظام المحاكم المحلية وغيرها من الإجراءات التي تعيد نسج النظام القضائي بالمجتمع.

أما على المستوى الإجرائي ضد ما تسمى مؤسسات العدالة الثلاث “الشرطة والنيابة والقضاء” فيمكن توضيحها كالتالي:

1- التعامل مع مؤسسة الشرطة بكل أفرادها كمؤسسة معادية للشعب وأحد أدوات القمع المباشر، ونشر تلك الفكرة داخل أكبر عدد ممكن من القطاعات الشعبية يحتاج للكثير من الوقت، ولكن استمرار الدفع بها وترويجها الدائم أحد أكبر الأمور الممهدة للثورة.

2- تقليل التعامل بأكبر قدر متاح مع كافة عناصر الشرطة بالدول المستبدة، وإظهار الاحتقار الدائم لكل أفراد القطاع داخل الأسرة والشارع والأماكن العامة دون الاحتكاك بهم، فالتجاهل أحد أقوى وسائل الاحتقار.

3- البدء في بناء تنظيمات محلية لإدارة العمل الشرطي واكتساب خبرات الحماية والتأمين، وهي متاحة بقدر مقبول في الفضاء المعلوماتي، وهذه التنظيمات المحلية تستطيع القيام بدور الشرطة في بداية المد الثوري، وتستطيع حماية المجتمع من العصابات الشرطية وأتباعها المنظمين الموجودين أصلا لإحداث أكبر قدر من الفوضى عند سيطرة الشعب.

4- رصد كافة المراكز الشرطية على مستوى البلاد والتخطيط لحصارها وشل حركتها عند بداية المد الثوري.

هذه الأمور تحتاج لقدر كبير من العمل لا يوجد من يقوم بها سوى الشعب، وفكرة انتظار قيام أحد من الفضاء بهذه المهمة، هو أحد وسائل الثورة المضادة للحفاظ على الوضع الحالي.

أما قطاعي القضاء والنيابة العامة فيمكن عمل التالي:

1- البدء – والبدء فوراً – في بناء منظومة قضاء موازي داخل نسيج المجتمع بالاستعانة بالخبراء في هذا المجال.

2- تقليل التعامل مع المحاكم والنظم القانونية إلى أقل درجة ممكنة، والاعتماد على القوى المجتمعية بكافة أشكالها في الحصول على الحقوق أو التسوية بين الأطراف.

3- الاستمرار في فضح كافة الكوارث التي تقوم بها المؤسستان بكل الطرق المتاحة.

4- الاستمرار في نزع ثقة الجماهير في تلك المؤسسات وتدمير الاعتقاد بأنها مؤسسات للعدالة أو أنها مؤسسات بالأساس.

5- فصل بين القانون والنصوص وتطبيقها من ناحية؛ وبين فكرة العدالة من ناحية أخرى، وأن القانون أصبح لا يتجاوز كونه وسيلة لتحطيم المجتمع ووسيلة لوأد العدالة.

إن كل ذلك يحتاج بالأساس إلى الإيمان بضرورته وأنه حتمي في مسار طويل لإعادة انتزاع حقوق الجميع ولانتزاع حق الحياة الذي دمرته هذه السلطة المتمردة على إرادة الشعب، إن هذا الطريق يبدأ بخطوة إدراك حتميته مهما كان طويلاً وأن البدء به تأخر طويلاً ولكننا لا نمتلك رفاهية تجاوزه.

 

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى