تطور شخصية عماد الدين زنكي القيادية و بزوغ نجمه السياسي
إعداد د. علي الصلابي
كان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على ظهور عماد الدين زنكي مُنذ عهد طفولته ذلكَ الدور الذي لعبه أبوه آق سنقر في شؤون الدولة السلجوقية السياسية ، والعسكرية ، والإدارية في الأعوام (465 هـ 487 هـ) ، والمكانة التي حصل عليها نتيجة خدماته للسلاطين السلاجقة ، وعملهِ على تدعيم كيانهم ، حتى إنه ضحى بحياته ـ كما رأينا ـ في سبيل الولاء للسلطان السلجوقي بركيارق ، ولم ينس هذا تضحية آق سنقر في سبيل عرشه، فجازاه ـ بعد مقتله ـ بتوجيه العناية والاهتمام نحو ابنه الوحيد عماد الدين زنكي الذي كان آنذاك في العاشرةِ من عمره ، وكان يقيم في حلب تحت رعاية مماليك أبيه ، وأصحابه الذين كانوا يكنون الحب العميق لآق سنقر.
1 ـ مكانة زنكي عند أمير الموصل كربوقا: لما تولى الموصل قوام الدولة كربوقا سنة 489 هـ ، باسم السلطان بركيارق أولى زنكي اهتماماً خاصاً ، وطلبَ من بعض مماليكِ والدهِ المقيمين في حلب إحضار عماد الدين إليه ، وقال لهم: «هو ابن أخي ، وأنا أولى الناسِ بتربيته» فأحضروه عنده ، ويبدو أن كربوقا أدركَ مكانة آق سنقر والد عماد الدين في نفوس كثير من التركمان ، وعرف ما يكنُّونَ له من الولاء والطاعة ، فحرصَ على أن يضمَّ إليهِ ابنهُ عماد الدين ليحصل على الولاء نفسه الذي يحملهُ التركمان لوالده ، إضافة إلى أن كربوقا أثناء ملازمته لآق سنقر قد أدركَ نجابة عماد الدين، ومكانتهُ بينَ مماليك والده، فأراد أن يضمه إلى جانبهِ للاستعانةِ به، وبمماليك والده في حروبه ضدَّ خصومه ، وربما ليضمن عدم منافسته له مستقبلاً ، وقد حظي عماد الدين بمكانة مرموقة عند قوام الدولة كربوقا ، وظل عماد الدين زنكي ملازماً له بالموصل إلى أن توفي كربوقا سنة 495 هـ/1101 م.
2 ـ مكانته عند الأمير جكرمش والي الموصل: بقيت العلاقة طيبة بين زنكي وشمس الدولة جكرمش الذي أعقب كربوقا على ولاية الموصل (495 ـ 500 هـ) والذي كان أحد مماليك السلطان السلجوقي ملكشاه وعلى معرفة بالخدمات التي أداها والد زنكي للسلاجقة ، ومن ثم توثقت العلاقة بينهُ وبين زنكي؛ حيث قرَّبهُ ، وأحبه ، واتخذه ولداً ، وظل الأخير ملازماً له؛ حتى وفاته عام 500 هـ.
3 ـ في عهد ولاية جاولي سقاو على الموصل: بعد وفاة جكرمش تولى جاولي سقاو (500 هـ 502 هـ) على ولاية الموصل وكان زنكي قد بلغ مرحلة الشباب (وبدت عليهِ علائم الشهامة) وساد الصفاء علاقاته بالوالي الجديد. إلا أن عصيان الأخير للسلطان محمد عام 502 هـ وهروبه إلى الشام ، دفع زنكي إلى الانفصال عنهُ وجماعة من كبار الأمراء في نفس الوقت الذي عين فيهِ السلطان والياً جديداً على الموصل هو الأمير مودود بن التونتكين (502 ـ 507 هـ) ، فانضم زنكي ورفاقه إليه. مما كان له أبلغ الأثر في نفس السلطان والوالي الجديد على السواء ، الأمر الذي رشحه لأن يكون من كبار أمراء هذا الوالي ، وأن يحصل على مزيد من الإقطاعات.
4 ـ ملازمته للأمير مودود في حرب الصليبيين: لما استقر الأمير مودود بالموصل ، واتصل به عماد الدين؛ عرف له مكانته بالإضافة إلى منزلة أبيه ، ولما رأى منهُ العقل والشجاعة؛ زاد في إقطاعهِ ، وشهد زنكي حروبه كلها وخاصة مع الصليبيين في طبرية ، وقبل مجيء مودود كان زنكي قد تميز بشجاعته ومقدرته وقد شارك في الغزوات التي قام بها ضد اللاتين ، ويذكر المؤرخون بكلِّ اعتزاز: أن عبقريته كرست للجهاد من السنوات الأولى من عمره ، وقد أظهر في عهدِ مودود من البطولات في جهاده ضد الصليبيين ما أكسبهُ شهرة واسعة لدى المسلمين ، وظل ملازماً لمودود حتى مقتلهِ عام 507 هـ على أيدي الباطنية في جامع دمشق.
5 ـ في خدمة الأمير آق سنقر البرسقي: عاد زنكي بعد استشهاد مودود إلى الموصل ليلتحق بخدمة الوالي الجديد «جيوش بك» ثم ما لبث أن انضم إلى الأمير آق سنقر البرسقي الذي وجهه السلطان السلجوقي لقتال الصليبيين ، في نفس العام ، فقاتل في الرُّها ، وسميساط وسروج ، وأظهر من الشجاعة والمقدرة خلال ذلكَ ما زاد من شهرته لدى المسلمين ، ودفع السلطان محمد إلى أن يطلب من واليه على الموصل تقديم زنكي ، والرجوع إلى مشورته تقديراً لإخلاصهِ وقدراته.
6 ـ بعد وفاة السلطان السلجوقي محمد 511 هـ: عندما توفي السلطان محمد سنة 511 هـ ، سعى «جيوش» إلى استغلال وجود ابنه مسعود ـ إذ كان أتابكاً له ـ ودفعه إلى التوجه إلى بغداد لكي ينصب نفسه سلطاناً على سلاجقة العراق ، مستهدفاً من وراء ذلكَ التحكم الفعلي في شؤون الدولة السلجوقية باسم السلطان الجديد ، وقد أيد زنكي هذه المحاولة ، وسار الوالي ومسعود متوجهين إلى بغداد على رأس حشد من قوات الموصل إلا أن المحاولة أخفقت بعد سلسلة من الحروب والمناوشات شهدتها منطقة بغداد ، واستتب الأمر للسلطان محمود الذي أعقب أباه الحكم. وبعد ثلاثة أعوام حاول جيوش بك أن يثور ثانية ضد السلطان محمود ، غير أن زنكي رفض تأييده ، وأشار على المتمردين بطاعة السلطان ، وترك مخالفته ، وحذرهم عاقبة العصيان ، لكنهم لم يلتفتوا إلى قوله ، وأقدموا على تنفيذ محاولتهم التي انتهت هي الأخرى بالفشل بعد هزيمة جيوش بك ، ومسعود على يد السلطان محمود الذي بلغهُ موقف زنكي منهُ فقدَّره حقَّ قدره ، وأوصى البرسقي والي الموصل الجديد بالعناية به وتقديمه على سائر الأمراء.
7 ـ تولي عماد الدين زنكي إمارة واسط ، والبصرة: وعندما عين البرسقي عام 516 هـ شحنة العراق رافقه زنكي واشترك إلى جانبه في المعركة التي دارت ضد دبيس
أمير الحلة ، وانتهت بهزيمة البرسقي الذي رأى أن يزيد من اعتمادهِ على زنكي في صراعه ضد دبيس ، فولاه واسط ـ ذات الموقع الهام ـ وكلَّفه مهمة الدفاع عنها ضد هجمات أمير الحلة ، وقد استطاع زنكي أن يسحق في طريقه إلى واسط القوات التي حشدها دبيس للدفاع عن النعمانية ، وأن يستولي على هذا الموقع ، وأظهر زنكي في منصبهِ الجديد حزماً وكفاءة ، وأبان عن مقدرة إدارية فذة، الأمر الذي دفع البرسقي ، حاكم العراق إلى إضافة البصرة إلى ولايته ، لكي يصدَّ هجمات الأعراب الدائمة عليها ، وينشر الأمن في ربوعها ، فانتقل زنكي إليها لكي يحقق فيها ما أنجزهُ في واسط من نشر الأمن والقضاء على الفوضى. وقد تمكن في وقت قصير أن يوقف هجمات الأعراب ، وغاراتهم المتتابعة عند حدها ، وأن يجليهم إلى أعماق الصحراء ، كما قضى على الفتن التي عمت البصرة ، وأظهر مقدرة عسكرية وإدارية كالتي أظهرها في واسط من قبل ، مما زاد من مكانته في نظر رجالات الدولة السلجوقية ، ومن رهبته للأعداء ، حتى إن دبيس بن صدقة ـ أقوى أمراء الجنوب ـ تجنب الاصطدام معهُ؛ لأنه أدركَ أن ليس في طاقتهِ مجابهتهُ والتغلب عليه ، وفضَّل توحيد جهوده ضد الخليفة العباسي في بغداد بدلاً من مقارعة هذا الأمير القدير.
8 ـ دفاع زنكي والبرسقي عن الخليفة المسترشد: لم يترك البرسقي وزنكي الخليفة يجابه بمفردهِ حشود دبيس، فجمعوا قواتهم والتقوا به في مطلع عام 517 هـ قريباً من الحلة ، واستطاعوا ـ بفضل الله ، ثم الخطة البارعة التي اتبعها زنكي ـ أن يلحقوا به هزيمة نكراء ، وأن يقتلوا ، ويأسروا الكثير من جندهِ ، واضطر هو ومن سلم من قواته إلى الفرار ، بينما عاد المسترشد ، وحلفاؤه إلى بغداد يستقبلهم الأهالي هناك استقبالاً حافلاً بعد خلاصهم من خطر محقق كاد يحيق ببغداد ، ويعرضها للنهب والتخريب، وكان زنكي ـ لدى مغادرتهِ البصرة ـ قد فوض شؤونها لمقدم حاميتها الأمير «سخت كمان» فاستغل دبيس بُعد زنكي عنها وهاجمها على حين غرة ، وتمكن من قتل مقدم حاميتها ونهب أهاليها ، ولكن زنكي ما لبث أن عاد إلى البصرة ليقر الأوضاع فيها من جديد ، فانسحبَ دبيس من المنطقة واتَّجه إلى الشام للعمل مع الصليبيين.
9 ـ عماد الدين في خدمة السلطان محمود: أقيل البرسقي من شحنكية العراق في عام 517 هـ وأعيد إلى الموصل لقيادة حركة الجهاد ضد الصليبيين ، وعين يرنقش الزكوي شحنة بعده ، فأرسل البرسقي إلى زنكي يستدعيه إلى البصرة ليتجه معه إلى الموصل ، غير أن الأخير فضل أن يربط مصيره بالسلطان محمود ، يصحبهُ عدد من كبار الأمراء، وقرر السلطان محمود تزويجه بأرملة أحد أمرائه الكبار ، وتم ذلكَ في احتفال شهدهُ السلطان وعدد كبير من القادة والمسؤولين ، الأمر الذي هيّأ لزنكي فرصة الظهور في محيط كبار الأمراء وتعريف رجالات الدولة السلجوقية بمكانته.
10 ـ تكليف السلطان محمود عماد الدين بتوطيد الأمن في البصرة: غدت البصرة بعد مغادرة زنكي لها ، مسرحاً للفوضى ، وهدفاً للنهب والتخريب ، وهجمات الأعراب ، وبلغ السلطان ذلكَ فأمر زنكي بالعودة إليها ، بعد أن أقطعهُ إياها عام 518 هـ وطلب منهُ اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتوطيد الأمن في المنطقة ، كما كلفه مهمة الإشراف على واسط ، والسعي للدفاع عنها إذا ما فكر الخليفة بإرسال جيش للاستيلاء عليها؛ إذ كانت هدفاً لمحاولاته التوسعية ، غادر زنكي أصفهان إلى البصرة، وباشر مهام منصبه، فأحسن معاملة أهلها، واستطاع أن يخلصهم من هجمات الأعراب ، وذلكَ عن طريق تنظيم دوريات عسكرية دائمة للقيام بهجمات مضادة على الأعراب ونصب الكمائن لهم ، كما اهتم ـ بالوقت ذاته ـ بأمور واسط ، وأخذ يمد السلطان بأخبار العراق بحيث لم يخف على الأخير شيئاً من أموره ، الأمر الذي زاد من تقديره لزنكي ومن ارتفاعِ منزلتهِ عنده ، ورشحهُ لمنصب شحنكية العراق.
11 ـ الصراع بين الخليفة المسترشد والسلطان السلجوقي: في عام 519 هـ تدهورت العلاقات بين الخليفة المسترشد والسلطان محمود الذي رأى نفسهُ مضطراً للتوجه إلى بغداد للحد من مطامح الخليفة ، وفرض سيطرته المباشرة على العراق. وكان الخليفة قد أرسل بعض جيوشه بقيادة عفيف الخادم للاستيلاء على واسط ، إلا أن زنكي تمكن من صده ، والانتصار عليه في المعركة التي دارت بين الطرفين عند مشارف واسط. وفي العشرين من ذي الحجة وصل السلطان إلى بغداد وأرسل إلى الخليفة يطلب منهُ إقرار الصلح ، فرفض الأخير طلبه ، الأمر الذي أدى إلى نشوب القتال بين الطرفين ، وقد رأى السلطان أن يعتمد على زنكي في صراعهِ هذا ، فأرسل إليهِ يأمرهُ بالحضور إلى بغداد على رأس قواته ، وأن يجلب معهُ ما يستطيع من زوارق حربية وسفن ، فنفَّذ زنكي الأمر ، وجمعَ عدداً كبيراً منها ، إثر جولة قام بها في مناطق العراق الجنوبي لهذا الغرض ، وبعد أن ملأها بالمقالة اتخذ طريقه إلى بغداد ، وما أن بلغ الخليفة نبأ تقدم زنكي بقواته الحاشدة براً ونهراً ، حتى أدركَ أن ليس في طاقته الصمود طويلاً إزاء شروط السلطان ، وأنَّ بغداد مقبلة على حصار شديد في البر والنهر ، فأرسل إليهِ يعلن موافقته على الصلح ، ومن ثم دخل السلطان بغداد حيث تمت المصالحة وساد الوئام، وهكذا لعب زنكي دوراً حاسماً في وضع حدٍّ للصراع بين السلطان والخليفة ، والذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها.
12 ـ تولي عماد الدين شحنكية العراق: ولما أراد السلطان محمود الرحيل نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ، وبغداد ، ويأمن معهم من الخليفة ، ويضبط الأمور ، فلم يرَ في أمرائهِ وأصحابهِ من يصلح لسد هذا الباب العظيم ، ويرقع هذا الخرق من الاتساع ، ويقوى على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي ، فولاّه شحنكية العراق مضافاً إلى ما بيده من الإقطاع وسار السلطان عن بغداد ، وقد اطمأن إلى نفوذهِ في العراق ، بعد أن أناب عنه الرجل الذي يستطيع أن يقوم بمهام منصبه خير قيام ، وأصبح عماد الدين منذُ ذلكَ التاريخ يصرفُ الأمور لا في بغداد وحدها ، بل في سائر جهات العراق.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 35-39
ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،سوريا، (1/73).
ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، مطبعة دائرة المعارف، العثمانية، بحيدر اباد الدكن، الطبعة الأولى 1359 هـ. (9/252 ـ 259)
شاكر أحمد أبو زيد، الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، الجامعة اللبنانية، كلية الاداب والعلوم الإنسانية. ص 68.
(المصدر: رسالة بوست)