مقالاتمقالات المنتدى

تطبيقات الشورى (5) معالم الشورى في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

تطبيقات الشورى (5)

معالم الشورى في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

لقد اهتمّ عمرُ بنُ عبد العزيز اهتماماً بالغاً بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: «إنَّ المشورةَ والمناظرةَ بابُ رحمةٍ، ومفتاحُ بركةٍ، لا يضلُّ معهما رأيٌ، ولا يفقدُ معهما حزم». وسأتكلم في هذا المقال عن تجليات مبدأ الشورى في عهدَيْ الإمارة والخلافة.

1 ـ الشورى في إمارته:

وكان أول قرارٍ اتخذه عمر بعدما وَلِيَ أمرَ المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعلهِ أساساً في إمارته، حين دعا فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً. [النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز ص، 283].

فعندما جاء الناسُ للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرةً من فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «إني دعوتُكم لأمرٍ تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إنّي لا أريدُ أن أقطعَ أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضرَ منكم، فإن رأيتُم أحداً يتعدّى، أو بلغكم عن عاملٍ لي ظُلامة فأحرِّج الله على منْ بلغه ذلك إلا أبلغني». [موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز، قلعجي ص، 548].

فقد أحدثَ عمر بن عبد العزيز مجلساً، حدّد صلاحياته بما يلي:

1 ـ أنهم أصحابُ الحقِّ في تقرير الرأي، وأنَّه لا يقطعُ أمراً إلا برأيهم، وبذلك يكون الأميرُ قد تخلّى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسمّيه مجلسَ العشرة.

2 ـ أنّه جعلهم مفتّشين على العمل، ورقباء على تصرّفاته، فإذا ما اتّصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أنَّ عاملاً ارتكبَ ظلامة، فعليهم أن يبلّغوه، وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق.

نلاحظ كذلك على أنّ هذا التدبير قد تضمن أمرين:

الأمر الأول: أنَّ الأميرَ عمر بن عبد العزيز لم يخصِّصُ تعويضاً لمجلس العشرة، لأنّهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنّهم فقهاء، فما ندبهم إليه داخلٌ في صلب اختصاصهم.

الأمر الثاني: أنّ عمر افترض ـ غيابَ أحدهم عن الحضور لعذرٍ من الأعذار، ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنّما قال: «أو برأي مَنْ حضرَ منكم». [نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، 1/562].

الأمر الثالث: أن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء.

ونستنتج مِنْ هذا أهمية العلماء الربانيين، وعلوَّ مكانتهم، وأنَّه يجبُ على صاحب القرار أن يدنيهم ويقرّبهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أن على العلماء أن يلتفّوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد.

كما أنَّ عمر بن عبد العزيز لم يقتصر في شوراه على هؤلاء، بل كان يستشيرُ غيرَهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيب، والزُهري وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاءٍ حتى يسأل سعيداً.

وفي المدينة أظهر عمرُ بن عبد العزيزِ إجلاله للعلماء، وإكباره لهم، وقد حدث أنْ أرسلَ رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيب، فأخذ سعيدٌ نعليه، وقام إليه في وقته، فلمّا رآه عمرُ قال له: «عزمتُ عليك يا أبا محمد إلاّ

رجعتَ إلى مجلسِكَ حتى سألك رسولُنا عن حاجتنا، فإنّا لم نرسِلْه ليدعوك، ولكنّه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك» [سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه لابن عبد الحكم ص، 23].

وفي إمارته على المدينة المنورة وسّع مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الوليد بن عبد الملك، حتى جعله مئتي ذراعاً في مئتي ذراع، وزخرفه بأمر الوليد بن عبد الملك مع أنَّه ـ رحمه الله ـ كان يكره زخرفة المساجد، ويتّضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنّه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قراراتِ مَنْ هو أعلى منه، حتى وإنْ كان غيرَ مقتنع بها إذا قدّر أنَّ المصلحة في ذلك من وجوه أخرى.

وفي إمارته على المدينة في سنة 91هـ حجَّ الخليفة الوليد بن عبد الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليدُ بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حقّقها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة. [موسوعة عمر بن عبد العزيز ص، 20].

2 ـ الشورى في خلافته:

كان خطابه عندما تولّي الخلافةَ الآتي: ((أيها الناس، إنِّي قد ابتليتُ بهذا الأمر، من غيرِ رأيٍ كان منِّي فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة مِنَ المسلمين، وإنِّي قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم)).

فصاح الناسُ صيحةً واحدةً: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فتوَّل أمرَنا باليُمْنِ والبركة. [سيرة عمر بن عبد العزيز ص، 65].

وبذلك خرج عمرُ من مبدأ توريثِ الولاية، الذي تبنّاه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتفِ عمرُ باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ: «وإنَّ مَنْ حولكم من الأمصار والمدنِ إنْ أطاعوا كما أطعتم، وإنْ هم أبوا فلستُ لكم بوالٍ» ثم نزل.

وقد كتبَ إلى الأمصار الإسلامية فبايعتْ كلَّها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلبُ إليه البيعة بعد أنْ

أوضحَ له أنّه في الخلافة ليسَ براغبٍ، فدعا يزيدُ الناس إلى البيعة فبايعوا، وبذلك يتّضح أنّه لم يكتفِ بمشورةِ مَنْ حوله، بل امتدَّ الأمرُ إلى جميع أمصار المسلمين.

ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:

1 ـ أنَّ عمرَ كشف النقابَ عن عدمِ موافقةِ الأصول الشرعية في تولِّي معظمِ الخلفاء الأمويين.

2 ـ حرصَ عمرُ على تطبيق مبدأ الشورى في أمرٍ يخصُّه هو أولاً، ألا وهو تولّيه الخلافة.

3 ـ أنَّ مَنْ طبَّق مبدأ الشورى في أمرٍ مثل تولي الخلافة حريٌّ بتطبيقه فيما سواه.

وكان عمر يستشيرُ العلماء، ويطلبُ نصحَهم في كثير من الأمور، أمثال سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حَيْوة وغيرهم، فقال: «إني قد ابتليتُ بهذا الأمر فأشيروا علي». [سيرة عمر بن عبد العزيز ص، 16].

كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال.

وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لمّا تولى الخلافة، فقرّب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهلَ المصالح الدنيوية، والمنافعَ الخاصة.

ولم يكتفِ رحمه الله بانتقاء بطانته، بل كان زيادةً على ذلك يوصيهم ويحثّهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: «إذا رأيتَني قد مِلْتُ عن الحقِّ فضع يدَكَ في تلبابي، ثم هزّني، ثم قل: يا عمر ما تصنع»؟! [أثر العلماء في الحياة السياسية، ص 175 ـ 177].

وقد كان لهذا المسلكِ أثرٌ في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثرٌ في شدِّ أزره، وسدادِ رأيه، وصواب قراره.

فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبُه لأهل العلم والصلاح، وانشراحُ صدره لهم، ومشاركتُهم معه في تحمّل المسؤولية، فنتجَ عن ذلك حصولُ الخير العميم للإسلام والمسلمين.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” الشورى فريضة إسلامية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • أدب الدنيا والدين للماوردي، علي بن محمد الماوردي.
  • النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز، محمد القحطاني.
  • موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز، محمد رواس قلعجي.
  • نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، الظافر القاسمي.
  • سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه، ابن عبد الحكم.
  • الشورى فريضة إسلامية، علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى