مقالاتمقالات المنتدى

تطبيقات الشورى (2) الشورى في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

تطبيقات الشورى (2)

الشورى في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

توسّع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة المستجدات والأحداث، وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة، فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع، مثل معاملة الأرض المفتوحة، وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة، لتنفقَ أموالُ الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار [عصر الخلافة الراشدة للعمري ص، 95].

 وتجلى تطبيق مبدأ الشورى في عهد عمر في أمور كثير وحوادث عظيمة مشهورة، منها:

1ـ الشورى في بَدْء التاريخ الهجري:

يعدُّ التاريخ بالهجرة تطوّراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أوّل مَنْ وضع التاريخَ بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عِدّة روايات:

  • فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال: دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكُّ محلّه في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو اتٍ أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه.

فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنّه يطول، وإنّهم يكتبون من عند ذي القرنين.

فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس قالوا: كلّما قام ملك طرح ما كان قبله.

فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فوجدوه أقام عشر سنين، فكتب أو كتبوا التاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. [محض الصواب لابن عبد الهادي، 1/316].

_خ وعن عثمان بن عبيد الله قال سمعتُ سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: متى نكتب التاريخ؟.

فقال له علي بن أبي طالب: منذ خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أرض الشرك، مِنْ يوم هاجر.

قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب.

عن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [تاريخ الإسلام للذهبي ص 163].

وقال أبو الزناد: واستشار عمر في التاريخ، فأجمعوا على الهجرة. [محض الصواب، 1/317].

وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر المحرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمّت فيه هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا أنَّ الأمور التي يمكن أن يؤرّخِ بها أربعة: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، ووجدوا أنَّ المولد والمبعث لا يخلوان من النزاع في تعيين سنة حدوثهما، وأعرضوا عن التاريخ بوفاته لما يثيره ذلك من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنّما أخَّروه من ربيع الأول إلى المحرم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم؛ إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمةُ الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسبُ ما وقعت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم.

وبهذا الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد ووحدة الأمة، بإزالة الفوارق، ووحدة الاتجاه إلى تاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من النصر. [جولة تاريخية في الخلفاء الراشدين، محمد اليحيى ص،90].

2 ـ لقب أمير المؤمنين:

لما مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المسلمون: مَنْ جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدعى به من بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن المؤمنون وعمرُ أميرنا، فدعي عمر أمير المؤمنين وهو أوَّل من سمي بذلك. [الطبقات الكبرى، لابن سعد، 3/281].

3 ـ المشورة في اختيار الولاة:

كان اختيار الولاة يتمُّ بعدَ مشاورة الخليفة لكبار الصحابة، فقد قال رضي الله عنه لأصحابه يوماً: دلَّوني على رجلٍ إذا كان في القوم أميراً فكأنّه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأميرٍ فكأنّه أمير، فأشاروا إلى الربيع بن زياد. [عمر بن الخطاب للمؤلف ص، 315].

وشدّد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاةُ يطبّقون ذلك، ويعقدون مجالس للناس لأخذ ارائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرأي.

وطلب من ولاته إنزالَ الناس منازلهم، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: بلغني أنّكَ تأذن للناس جمَّاً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة، وكتب إليه أيضاً: لم يزل للناسُ وجوه يرفعون حوائج الناس فأكرموا وجوه الناس، فإنَّه بحسب المسلم الضعيف أن ينتصف في الحكم والقسمة. [نصيحة الملوك للماوردي ص، 207].

4 ـ تدوين الدواوين:

استشار عمر المسلمين في تدوين الدواوين، فأشار بعضُهم بما يراه، إلاَّ أنَّ الوليد بن هشام بن المغيرة، قال:

جئتُ الشامَ فرأيتُ ملوكها قد دوّنوا ديواناً، وجنّدوا جنداً، فدوَّن ديواناً، وجنَّد جنداً، وفي بعض الروايات أنَّ الذي قال ذلك هو خالد بن الوليد. [عمر بن الخطاب للمؤلف ص، 260].

وذكر بعضُ المؤرخين أنَّه كان بالمدينة بعضُ مرازبةِ الفرس، فلمّا رأى حَيرةَ عمرَ قال له: يا أمير المؤمنين، إنَّ للأكاسرة شيئاً يسمّونه ديواناً جميعُ دخلهم وخرجهم مضبوطة فيه، لا يشذُّ منه شيءٌ، وأهلُ العطاءِ مرتّبون فيه مراتبَ، لا يتطرّق عليها خلل، فتنبّه عمر وقال: صفه لي، فوصفه المرزبان، فدوّن الدواوين، وفرض العطاء.

وقد حبّذ عثمان التدوينَ، فأشار برأيه: «أرى مالاً كثيراً يسعُ الناسَ، وإن لم يحصوا لم يُعرف من أخذ ممن لم يأخذ» خشيَة أن ينتشرَ الأمرُ. [سياسة المال في الإسلام ص، 158].

هذه بعض الروايات التي حدّثت بناءً على استشارة عمر رضي الله عنه في مرّات متعددة لمن يحضرون عنده. [عمر بن الخطاب للمؤلف ص، 261].

5 ـ الحَجْر الصحي:

خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، حتى إذا كان بِسْرغٍ لقيه أمراءُ الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادعُ لي المهاجرين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن نرجعَ عنه، وقال بعضُهم: معك بقيةُ الناس وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أنْ تقدّمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: أدع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: أُدعُ لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتُهم فلم يختِلفْ منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجعَ بالناس، ولا تقدّمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنّي مُصْبِحٌ على ظهرٍ، فأصبحوا عليه.

فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟.

فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرَك قالها يا أبا عبيدة؛ نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كان لك إبل هبطت وادياً له عَدْوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إنْ رعيتَ الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟.

قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّباً في بعض حاجته فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتُم بها فلا تخرجوا فراراً منه». قال: فحمد اللهَ عمَرُ، ثم انصرف.

وفي مشورة عمر رضي الله عنه أصحابه في هذه الحادثة فوائد منها:

أ ـ حرص ولي الأمر على مصالح المسلمين العامة، وعدم إقدامه على اتخاذ قرار لم يتبيّن له فيه وجه الصواب لما في ذلك من المخاطرة بالمسلمين.

ب ـ مشاورة كل مَنْ أمكن حضورُه من أهل الحل والعقد لما في ذلك من تمحيص الآراء، والوصول إلى رأي مفيد عن طريق قدح عقول كثيرة ـ وهذا موضعُ الشاهد من القصة.

ج ـ جواز اجتماع ولي الأمر برعيته على فئات متجانسة كما فعل عمر رضي الله عنه هنا حيثُ قسّمهم إلى ثلاث فئات: فئة الأنصار، وفئة المهاجرين، وفئة مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، لأنه كلّما كان العدد المشاوَرُ أقل كان النقاش أوسع لسعة الوقت.

د ـ الاستئناس برأي كبار السن ذوي الرأي والتجربة.

هـ  الاستئناس بالرأي الموحد، كما استأنس عمر برأي مشيخة الفتح لعدم اختلافهم.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” الشورى فريضة إسلامية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • عصر الخلافة الراشدة، أكرم ضياء العمري.
  • محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ابن عبد الهادي.
  • تاريخ الإسلام، الذهبي.
  • الشورى فريضة إسلامية، علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى