مقالاتمقالات المنتدى

تشريع الزَّكاة في الإسلام: السياقات والآثار

تشريع الزَّكاة في الإسلام: السياقات والآثار

 

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

في السَّنة الثانية للهجرة شرع الله الزَّكاة؛ الَّتي هي ركنٌ من أركان الإسلام، وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ لأنَّ تشريع الزَّكاة العامَّة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً؛ يدلُّ على هذا ما رواه الأئمَّة: أحمد، وابن خزيمة، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، والحاكم من حديث قَيْس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: «أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تَنْزِل الزَّكاةُ، ثمَّ نزلت الزَّكاةُ، فلم يأمرنا، ولم ينهنا ونحن نفعله»، قال الحافظ ابن حجر: «إسناده صحيحٌ»، «وجمهور العلماء سلفاً، وخلفاً على أنَّ مشروعية الزَّكاة إنما كانت بالمدينة في السَّنة الثَّانية».(العسقلاني، 1995،ج3، ص207)

فالزَّكاة في العهد المكيِّ كانت مطلقةً من القيود، والحدود، وكانت موكولةً إلى إيمان الأفراد، وأرْيَحِيَّتِهِم، وشعورهم بواجب الأخوَّة نحو إخوانهم من المؤمنين، فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذلَ الكثيرِ، أو الأكثر.(القرضاوي،1994،ج1، ص77)

فكانت الآيات المكِّيَّة تهتمُّ بجانب التَّربية، والتَّوجيه، وتحثُّ على رعاية الفقراء والمساكين بأساليب متنوعةٍ، منها: أنَّ إطعام المساكين من لوازم الإيمان، ففي سورة المدَّثر – وهي من أوائل ما نزل من القرآن – يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد الآخرة، مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين، في جنَّاتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة، وقد أُطبقت عليهم النِّيران، فيسألونهم عمَّا أحلَّ بهم هذا العذاب، فكان من أسبابه، وموجباته: إهمال حقِّ المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعُري تنهشه، وهم عنه معرضون، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۝ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۝ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۝ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المدثر: 38 – 46] .

ولم تقف عناية القرآن المكِّيِّ عند الدَّعوة إلى الرَّحمة بالمسكين، والتَّرغيب، في إطعامه، ورعايتـه، والتَّرهيب من إهمالـه والقسوة عليـه؛ بل تجاوز ذلـك، فجعل في عنق كلِّ مؤمنٍ حقاً للمسكين، أن يحضَّ غيره على إطعامـه، ورعايته، وجعل تَـرْكَ هذا الحضِّ قرينَ الكفر بالله العظيم، وموجبـاً لسُخْطه – سبحانه – وعذابه في الآخرة.

قال تعالى في شأن أصحاب (الشِّمال): ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ۝ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ۝ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ [الحاقة: 30 – 32] .

وَلِمَ كلُّ هذا العذاب، والهوان، والخزي على رؤوس الأشهاد؟: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ۝ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الحاقة: 33 – 34] .

وهذه الآيات المزلزِلة للقلوب ، المنذرة بالعذاب ، هي الَّتي جعلت مثلَ أبي الدَّرداء – رضي الله عنـه – يقول لامرأتـه: «يا أمَّ الدرداء! إنَّ لله سلسلةٌ ولم تزل تغلي بها مرَاجِلُ النَّار منذ خَلقَ الله جهنَّمَ، إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجَّانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين يا أمَّ الدَّرداء».

أمَّا القرآن المدني، فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمين جماعةٌ، لها أرضٌ، وكيانٌ وسلطان؛ فلهذا اتَّخذت التَّكاليف الإسلاميَّة صورةً جديدةً ملائمةً لهذا الطَّور: صورة التحديد، والتَّخصيص، بعد الإطلاق والتَّعميم، صورة قوانين إلزاميَّة، بعد أن كانت وصايا توجيهيةً فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوَّة والسُّلطان، مع اعتمادها على الضَّمير، والإيمان، وظهر هذا الاتِّجاه المدنيُّ في الزَّكاة؛ فحدَّد الشَّارع الأموال التي تجب فيها، وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تُصرف لها، وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها،(القرضاوي، 1994، ج1، ص78) وأكَّد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة فريضة الزَّكاة، وبيَّن مكانتها في دين الله، وأنَّها أحد الأركان الأساسية لهذا الدِّين، ورغَّب في أدائها، ورهَّب من منعها بأحاديث شتَّى، وأساليب متنوعةٍ.

وأعلن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه: أنَّ أركان الإسلام خمسةٌ، بدأها بالشَّهادتين، وثنَّاها بالصَّلاة، وثلَّثها بالزَّكاة، فالزَّكاة في السُّنَّة – كما هي في القرآن – ثالثةُ دعائم الإسلام: الَّتي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها، وعندما طبَّق المسلمون هذا الرُّكن كما أمر الله تعالى، وكما شرع رسولُه صلى الله عليه وسلم ، تحقَّقت أهدافٌ عظيمة في المجتمع، وبرزت آثارها في حياة الفرد، والمجتمع.

فمن آثار الزَّكاة على الفرد:

أ – الوقاية من الشُّحِّ:

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] .ب – تنمية المال وزيادته:

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276] .وقال صلى الله عليه وسلم : «ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ من مالٍ» [مسلم (2588) والترمذي (2029) ومالك في الموطأ (2/1000)].

وقال صلى الله عليه وسلم : «ما من يومٍ يُصبحُ العبادُ فيه إلا مَلَكانِ يَنزلان، فيقول أحدُهما: اللَّهمَّ أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر : اللَّهُمَّ أعطِ مُمْسِكاً تَلَفاً» [البخاري (1442) ومسلم (1010)].

وهكذا يتمُّ تطهير نفس المسلم من افة الشُّحِّ، والبُخل، ويسارع إلى الآنفاق، موقناً بفضل الله، ووعده الذي لا يتخلَّف بالرِّزق الواسع.(كرزون،1997،ج1، ص249)

ج – حصول الأمن في الدُّنيا والآخرة:

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274] .

فهم في أمنٍ، وسعادةٍ، وراحةِ بالٍ؛ لأنَّهم أدَّوا ما أمرهم الله تعالى به، وانتهوا عمَّا نهاهم الله عنه.

ومن آثار الزَّكاة على المجتمع: حصولُ المحبَّة بين الأغنياء والفقراء، وشيوع الأمن والطُّمَأْنِينَة في أوساطه، وشعور الأفراد فيما بينهم: أنَّهم كالجسد الواحد، قال صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثَلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى» [مسلم (2586) وأحمد (4/270)]، ومن الآثار أيضاً حفظ التوازن الاجتماعي.(الحصين،1995، ص240)

عندما كانت الزَّكاة تُجْمَع من كلِّ من تجب عليه، وتُنفَق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام؛ كان المجتمع الإسلاميُّ يعيش في رخاءٍ، ورغدٍ، وتمتُّعٍ بالطَّيبات، وتالفٍ، وتاخٍ، وتحاببٍ؛ فقد روى الرُّواة: أنَّه في عهد خامس الخلفاء الرَّاشدين، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أخصب النَّاس، واغتنوا، حتَّى إنَّهم بحثوا عن مستحقٍّ للصَّدقة، فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشترَوا بها عبيداً، وأعتقوهم لوجه الله، وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى، بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم حدّاً لم تبلغه إلا أممٌ قليلـةٌ اليـوم، وذلك بفضل تشريع الزَّكاة.(ابو شهبة،1996، ج2، ص115)

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه،2004م،صص621-625

محمد أبو شهبة، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القرآن والسُّنَّة دار القلم – دمشق، الطَّبعة الثَّالثة، 1417هـ  1996م.

ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة بيروت،1379ه-1959م

سليمان الحصين، المال في القرآن الكريم، دار المعراج الدَّوليَّة، الطَّبعة الأولى، 1415 هـ  1995 م.

يوسف القرضاوي، فقه الزَّكاة، مكتبة وهبة، الطَّبعة الحادية والعشرون، 1414 هـ  1994 م.

أنس أحمد كرزون، منهج الإسلام في تزكية النَّفس، دار نور المكتبات، دار ابن حزم، الطَّبعة الثانية 1418 هـ  1997 م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى