تساؤلات عن الحركة الإسلامية
بقلم راجي سلطاني
عندما يشتد الصراع بين الحركة الإسلامية والأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية، وعندما تعيش الحركة الإسلامية محنتها الكبيرة، قتلاً وسجناً وتهجيراً وتضييقاً، حينئذ تثارُ التساؤلات المستفسرة والمستنكرة:
إلى متى ستظل هذه الحكاية؟
ألم يأن للحركة الإسلامية أن تراجع منهجية عملها؟
أما أدركت الحركة الإسلامية أن الإصلاح لا بد أن يكون قاعدياً، قبل أن تسعى لإصلاح الرؤوس الحاكمة؟
وهل الدولة والحكم من أصول الدين، لتدفع الحركة الإسلامية كل هذا الثمن الباهظ من أجلهما؟
• إلى متى ستظل الحكاية؟
ستظل هذه الحكاية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي الصراع الذي خلق الله الحياة الدنيا لأجله، صراع الحق والباطل، والمدافعة التي قال الله تعالى عنها: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاۗ} [الحج: 40].
وطالما ثبتت الحركة الإسلامية على إسلاميتها متمسكة بالحق داعية إليه صابرة عليه رافضة للحيد والزيغ، فستظل هذه الحكاية باقية ؛ فالأنظمة الحاكمة باقية هي الأخرى على ديكتاتوريتها وفسادها وعمالتها للعدو الخارجي وانبطاحها أمامه.
والأشد من ذلك كله أن هذه الأنظمة ستبقى -في أغلبيتها- معادية للمنهج الإلهي في الحكم، أو منحّية له ومقدمة عليه أنظمة بشرية علمانية رأسمالية واشتراكية، تنصّب من الإنسان وعقله إلهاً يشرّع غير ما شرع الله ويسن غير ما سن الله.
• ألم يأن للحركة الإسلامية أن تراجع تلك المنهجية؟
عندما نذكر مصطلح (الحركة الإسلامية) فنحن نعني حينها ثلاثة أشياء: المنهجية، والإطار التنظيمي، والحركة والممارسات على أرض الواقع.
والواجب على الحركة الإسلامية أن تراجع دائماً أشياءها الثلاثة.
فأما عن الحركة والممارسات فهي أولى الثلاثة بالمراجعة الدائمة التي لا تتوقف؛ لأنها آنية متغيرة متأثرة بالواقع والظروف، وأكثر الأشياء تغيراً وتأثراً بالظروف هي أكثر الأشياء الواجب فيها المراجعة لتكون في كل وقت مناسبة لوقتها غير متأخرة عنه ولا سابقة له.
وأما عن الإطار التنظيمي فهو كذلك مما يجب أن يخضع للتقييم والمراجعة كل حين، والأطر التنظيمية ليست من الثوابت التي من غير الجائز تغييرها أو مراجعتها، ولكنها وسيلة آنية من الممكن أن يتغير شكلها في زمان، بل ومن الممكن أن لا تكون مناسبة مطلقا لزمان آخر.
الأطر التنظيمية ليست من الثوابت التي من غير الجائز تغييرها أو مراجعتها، ولكنها وسيلة آنية من الممكن أن يتغير شكلها في زمان، بل ومن الممكن أن لا تكون مناسبة مطلقا لزمان آخر
وأما عن المنهجية فهي أكثر الأشياء الثلاثة بعداً عن القابلية للتغيير، ذلك لأن منهجية الحركة الإسلامية هي: وجوب العمل من أجل عودة الإسلام شريعة حاكمة ونظام قائم وحضارة معلّمة. وهذه المنهجية ثابت من الثوابت التي لا يجوز أبدا أن تتغير مهما تغير الزمن وتغيرت الظروف.
فالله عز وجل أنزل على نبيه شريعة واجبة التطبيق، ولن يكون تطبيقها إلا في دولة تُحكم بها، وهو ما تعمل له الحركة الإسلامية.
وكذلك تبدو استراتيجية الحركة الإسلامية في العمل والحركة من أجل تحقيق منهجها ومشروعها من الأشياء البعيدة كذلك عن التغيير، فاستراتيجيتها هي العمل الدعوي والسياسي الدستوري والقانوني من أجل مزاحمة الأنظمة الحاكمة سياسياً، بل ودفعها لزحزحتها عن كراسيّها الحاكمة بالممارسة الحزبية والديمقراطية؛ للوصول لسدة الحكم من أجل تطبيق المنهجية والمرجعية.
ولم يظهر حتى الآن بديل ناجع لهذه الاستراتيجية، إلا بضع ثورات شعبية لم تنجح في الربيع العربي، وعمل مسلح فشل وما يزال يفشل، ولا يرجع من ورائه إلا الدمار والهلاك.
• أما أدركت الحركة الإسلامية أن الإصلاح لا بد أن يكون قاعديا قبل أن تسعى لإصلاح الرؤوس الحاكمة؟
لقد أدركت الحركة الإسلامية -وما زالت- وجوب أن تسعى لإصلاح عموم الناس ودعوتهم لمشروعها ومنهجية عملها، وفي الوقت ذاته تسعى لإصلاح الحكومات ودفعها؛ من أجل الوصول بمشروعها لسدة الحكم.
والذي حدث في ثورات الربيع العربي يؤكد لنا تأكيداً يقينياً غير ما يظنه البعض، فقد ذهب البعض بعد فشل الربيع العربي وبعد محنة الحركة الإسلامية التاريخية فيه، إلى أنَّ ما حدث يقطع قطعاً يقينياً بأهمية العودة للإصلاح من القاعدة، فما يزال الناس غير مؤهلين فكرياً وتربوياً لتحقيق المشروع الإسلامي.
إلا أن الذي أكدته لنا الأحداث أن الواجب أن تستمر الحركة الإسلامية في محاولة إصلاح الرؤوس الحاكمة، ومحاولة استلام دفة الحكم منها. ذلك لأنه ظهر جلياً أنّ الشعوب المسلمة في معظمها تميل للإسلام فطرة وديناً وتقبل به شريعة ونظاماً رغم ما يبدو عليه ظاهرها من بعد عنه ممارسة وسلوكاً.
كما أنه قد تأكد أننا لو مكثنا قروناً في محاولات إصلاح الشعوب المسلمة وتربيتها والوصول بها للأهلية السلوكية لتقبّل المشروع الإسلامي الحاكم، وهذا ما لن يحدث أبداً.
فأمام كل همسة إصلاح منا صرخة إفساد من المفسدين، ومعاول الهدم في الأمة أكبر أثراً من محاولات البناء والترميم، وما يُبنى في أعوام يُهدم في لحظات، وما نُذكّر به الناس في المساجد يُمحى بمجرد الجلوس أمام شاشات التلفاز والنت ومواقع التواصل.
أمام كل همسة إصلاح منا صرخة إفساد من المفسدين، ومعاول الهدم في الأمة أكبر أثراً من محاولات البناء والترميم، وما يُبنى في أعوام يُهدم في لحظات، وما نُذكّر به الناس في المساجد يُمحى بمجرد الجلوس أمام شاشات التلفاز والنت ومواقع التواصل
لن تتأهل الأمة المسلمة سلوكياً وعملياً لتقبل المشروع الإسلامي، ولو مكثنا في دعوتها وتربيتها مئات السنين، فما يقوم به الأعداء في الإفساد والتمييع والتغريب أضعاف ما نفعله ، ولا بد أن تظل الحركة الإسلامية باستنادها على فطرة الناس القابلة بدين الله وشريعته ونظامه في دفعها للأنظمة الحاكمة العلمانية.
• وهل الدولة والحكم من أصول الدين لتدفع الحركة الإسلامية كل هذا الثمن الباهظ من أجلهما؟
عندما تمر العقود بالحركة الإسلامية عقداً بعد عقد، ولا تصل لغايتها ومرادها، بل وتنقلب من محنة لمحنة ومن فجيعة لفجيعة، يُحدث ذلك كثيرا من الاهتزاز في عقول وقلوب أتباعها، ويجعلهم يتساءلون: لماذا ندفع كل هذا الثمن؟
بل إن بعض قيادات الحركة الإسلامية الفكرية والتنظيمية أنفسهم أثاروا بعض التساؤلات في الآونة الأخيرة: هل المعركة التي أقامتها الحركة الإسلامية منذ نشأتها مع الأنظمة الحاكمة معركة واجبة؟ وهل الدولة والحكم من أصول الدين من أجل أن ندفع في سبيلهما كل هذا الثمن الباهظ؟
وكان المقال الذي كتبه الدكتور أحمد الريسوني -رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وأحد مؤسسي وقادة الحركة الإسلامية في المغرب- تحت عنوان (مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام) هو أكثر الكتابات التي أثارت التساؤل السابق وأثارت الردود عليه.
والذي يبدو الأمر عليه، أن الهزة العنيفة التي أحدثتها المحنة الحالية للحركة الإسلامية أحدثت خللا في توازن البعض، من قيادات ومفكري الحركة أنفسهم. ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن الدولة والحكم ليسا من أصول الإسلام.
وعندما نقول أصول الإسلام، فنحن نعني هنا الأصول التي يلتفت لها الإسلام أول ما يلتفت، ولا نعني الأصول التي لا يكون الإسلام إلا بها، والتي يُكفر الناس بها، وتلك مسألة كبيرة وشائكة، ولا نحب أن نخوض فيها هنا.
ولكننا نتحدث هنا عن الأصول التي هي المسائل الكبرى في الإسلام، وأي دليل على أن الدولة والحكم من الأصول الكبرى أكثر من تأخير الصحابة لدفن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى البت فيها.
ثم إن الدكتور الريسوني يتحدث في مقاله عن انشغال الحركة الإسلامية بهذه المسألة وتقديمها على غيرها من المسائل. ولا يخفى عن الدكتور الريسوني أن العمل لا بد أن يهتم أول ما يهتم بعودة الغائب، وخصوصاً إذا ما كان الغائب أصلاً كبيراً من أصول الدين. وقد جعلت الحركة الإسلامية من نفسها حارساً لهذا الثغر، وهو أكبر الثغور التي أُتي الإسلام من قِبلها في زماننا. فكيف يعيب على الحركة أنها اختارت لنفسها المهمة الأصعب، والثغر الأشد، واحتسبت في سبيل الله ثباتها وتضحياتها فيهما.
ختاماً..
– ستبقى الحركة الإسلامية في مهمتها العظيمة التي نذرت نفسها لها، وستبقى على الثغر الذي تحميه وتذود عنه، وهو الثغر الأكبر من ثغور الإسلام اليوم.
– وستبقى الحركة الإسلامية لذلك تدفع الثمن الباهظ من دماء أبنائها وحرياتهم.
– ولن تهتز الحركة الإسلامية للخطوب التي تقع عليها، ولن تشك في المنهجية ولا في استراتيجية عملها، بل تزداد يقينا أن طريقها طريق لا بديل عنه.
– وستظل تراجع مع ذلك أهدافها المرحلية وطرائق عملها وآلياته.
– وستمضي في طريقها الطويل تحاول أن توازن بين ثوابتها ومتغيراتها.
والله من وراء قصدها، فهو غايتها وحسبها ووكيلها.
(المصدر: موقع بصائر)