تركستان تستصرخ المسلمين من قلب المسجد الأقصى
بقلم مخلص برزق
ونحن في عصر التداعي لأمم الأرض علينا، بتنا نرى عياناً كل يوم كيف يتم التهام قطع غالية من جسد هذه الأمّة المغلوبة على أمرها..
يفجعنا مشهد الأنياب تنشب في لحمنا الطري والدم ينساب منه وهو يتمزق قبل أن يتمّ ابتلاعه بالكامل، فيما نحن المكبّلين بعجزنا ويأسنا لا نملك سوى مراقبة الذي يجري بهَمٍّ وغَمٍّ من البعض، ولا مبالاةٍ من الآخرين، وترقُّب آخرين لمعرفة من الذي سيأتي عليه الدور لاحقاً؟
جسدنا الذي هو في حقيقة الأمر القصعة التي يتعازمون على تقطيعها والتهام أجزائها بنهمٍ شديد، يحوي جزءاً عزيزاً غالياً قد لا يفطن الكثير إلى مدى قربه منَّا ومن قلبنا الجريح ببيت المقدس.
إنه تركستان الشرقية.. تلك البلاد التي دخلت الإسلام في حقبة مبكرة من حكم الخلفاء الراشدين، وثبت وترسَّخ فيها على يد الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
تتسارع الأخبار والمشاهد المفجعة عن بلاد الإيغور حتى لا نكاد نُصدِّق أنها تجري حقيقة بتلك التفاصيل الصادمة، حيث تستفرد الصين بها دون مراعاة أو اعتبار لأي ردّة فعل عربية أو إسلامية أو دولية، بل إنّها تسابق الزمن وتستعجله كي تحدث تغييرات دراماتيكية كتلك التي أحدثها الديكتاتور المجرم ستالين بشبه جزيرة القرم حين قتل وهَجَّر ملايين المسلمين حتى أضحوا أقليّة مستضعفة فيها.
الصين الآن تقيم سجوناً ومعسكرات اعتقال هائلة للملايين من قومية الإيغور المسلمين تحت مسمى “مراكز مكافحة التطرف” يتمّ خلالها فتنتهم لترك دينهم وسلخهم عن إسلامهم بالقوة.. كل ذلك بعيداً عن الأضواء ودون مساءلة من أحد.
كان ممّا حكاه لي أحد أبناء تلك البلدة المنكوبة كمثالٍ شخصي للتّدليل على هول الذي يجري، أنّه وجميع أبناء تركستان في الخارج لا يستطيعون التواصل نهائياً مع أهاليهم هناك ولا يعرفون عنهم شيئاً، وأن آخر اتصال تمَّ بينه وبين أهله كان مطلع العام 2017، حين أقدمت السلطات الصينية على حذف كافة المشتركين من أبناء إقليم تركستان من تطبيقات التواصل الاجتماعي وحظر تلك التطبيقات عليهم، وقامت بتغيير أرقام الهواتف كي لا يتمكن مَن في الخارج من معرفة أرقام أهاليهم الذين هم بالأصل ممنوعون من السفر إلى الخارج، بل وحتى من استصدار جوازات سفر، يجري ذلك في زمن بات فيه العالم قرية صغيرة، تنتقل تفاصيل الأحداث فيه خلال أجزاء من الثانية عبر وسائل الإعلام الحديثة بالصوت والصورة!!
أمَّا ما يصلنا من تسريبات حول الذي يجري هناك فهو كفيلٌ برسم صورة مرعبة جداً عن مستقبل تلك الأرض التي تشرَّبت الإسلام قروناً طويلة.. وبات اعتناق الإسلام فيها الآن خروج عن القانون! فالمساجد فيها أضحت هدفاً للهدم والتدمير أو التحويل إلى أندية ومتاحف. يتزامن ذلك مع إلغاءٍ للملكيّة الفرديّة ومصادرة للثروات التي يعجّ بها الإقليم لصالح الحكومة المركزيّة وأتباع القوميّة الصينيّة على حساب أبناء الإيغور، مع فرض تشريعات تعزِّز التغوّل الصيني بفرض اللغة الصينية لغة رسمية في الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات، يصاحب ذلك اختطاف الأطفال المسلمين لتنشئتهم على تعاليم “ماوتسي تونج” والعادات والتقاليد الصينية، مع فرض تحديد النسل ومنع تسجيل المواليد بالأسماء الإسلامية.
وماذا أيضاً؟
أهوالٌ وفظائع لا تعبِّر عنها أبلغ الكلمات ولا تصف بشاعتها أقسى العبارات، لكن القارئ قد يظن وهو يعاينها أنّه يقرأ جملاً مكرورة عن أحداث شهدنا ما يماثلها في ديار الإسلام شرقاً وغربا، فالحقد الدفين واحد وأعداء هذا الدين اختلفوا فيما بينهم إلا على العداء لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم والكيد لهم والبطش بهم.
لم أجد ما أواسي به محدِّثِي إلا أن أقول له بأنَّنا مذ فقدنا قدسنا ومسجدنا الأقصى والأمَّة في ذلٍّ وهوانٍ واستكانة، وأن عجز الأمَّة عن نصرة أقصاها واستعادة قبلتها الأولى جعلها عن نصرة بقيّة قضاياها أعجز، وأنَّ عليهم ألا يفقدوا الأمل بالله ويحرصوا على إعداد أجيال تحمل قضايا الأمّة وعلى رأسها قضية المسجد الأقصى مفتاح النصر والتمكين لكل القضايا بما يبثوه فيهم من عزم ويقين بوعد الله.
كانت مفاجأة سارَّة جداً لي عندما أخبرني بأنهم لا يعتزون بشيءٍ اعتزازهم بأن لديهم مَعْلماً شامخاً بجوار المسجد الأقصى المبارك ألا وهو المدرسة الختنية.
ازداد شغفي لمعرفة المزيد عنها وعلاقتها بتركستان، وشعرت بأنني حصلت على كنز ثمين جداً، فقد كنت أمر على اسمها دون أن أفهم إلى أي شيء تنسب، حتى أرسل لي صاحبي معلومات وافية عنها جاء فيها سبب تسميتها بهذا الاسم وأنه يقال لها المكتبة الختنية والزاوية الختنية، وبأنها عبارة عن نتوءٍ خارجٍ عن المسجد من الجهة الجنوبية، وبأن تاريخها يعود إلى عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي بناها بغية إغلاق “باب النبي” حتى يصدّ خطر الصليبيين عن المكان، وقد وصفها نجم الدين الغزي، بقوله: “المدرسة الختنية بجوار المسجد الأقصى”. وسميت “بالختنية” نسبة إلى الشيخ عبد الله الختني، أحد الرجال الأفاضل المارين على هذه المدرسة، وكانت في بداياتها مدرسة شرعية تدرس العلوم الاسلامية، وبقيت تلعب دورًا هامًا في الحياة الثقافية إلى أواخر الحكم العثماني، حيث تحولت إلى مخزن للقناديل والأسرجة التي يضاء بها المسجد الأقصى. وفي عام 1998 بدأت مشاريع إعمار المكتبة، فتم إصلاحها وتبليطها، وإيصال شبكة الكهرباء إليها، لتصبح مكتبة ومركزاً لتحفيظ القرآن الكريم، وتحتوي المكتبة حاليا على مئات الكتب في مختلف العلوم.
ثمّ قال لي محدِّثي بكلّ فخرٍ واعتزاز أنّه ينتمي إلى مدينة “خُتَن” التي ينتسب إليها الشيخ عبد الله الختني، وأرسل لي وصفها في معجم البلدان (2/ 347): (خُتَنُ: بضم أوله، وفتح ثانيه، وآخره نون: بلد وولاية دون كاشغر ووراء يوزكند، وهي معدودة من بلاد تركستان، وهي في واد بين جبال في وسط بلاد الترك، وبعض يقوله بتشديد التاء، وينسب إليه سليمان بن داود بن سليمان أبو داود المعروف بحجاج الختني، سمع أبا عليّ الحسين بن عليّ بن سليمان المرغيناني، ذكره أبو حفص عمر بن أحمد النسفي وقال: قصدني سنة 523).
إنها ما زالت تحتفظ باسمها حتى زماننا هذا وبالكثير من ملامحها القديمة، غير أن رياح التغيير الصينية الصفراء قد لا تُبقي شيئاً من اسمها ولا حتى هويتها إن لم يتداركها المسلمون قبل فوات الأوان.
وهل نشهد تذكيراً بقضية تركستان المنكوبة وتفعيلاً لها من قلب القدس التي عوَّدَنا أهلها المباركين على المبادرة إلى نصرة قضايا الأمّة قاطبة إلى جانب تحملهم العبء الأكبر والأغلى في نصرة قضية الأمّة المركزية ألا وهي تحرير المسجد الأقصى وأكنافه المباركة؟
(المصدر: موقع بصائر)