مقالاتمقالات مختارة

تركستان الشرقية .. قراءة في جواهر الصراع وتاريخيته

تركستان الشرقية .. قراءة في جواهر الصراع وتاريخيته

بقلم د. أكرم حجازي

في مستويات اجتماعية وثقافية متفاوتة تباينت ردود الفعل في العالم الإسلامي على الأحداث الدموية التي شهدتها تركستان الشرقية أو ما يسميه الصينيون بإقليم «سينكيانغ» أوائل الشهر الجاري وأسفرت عن مقتل وإصابة المئات واعتقال نحو 1500 شخص اتهمتهم الحكومة المركزية بالمحرضين على إثارة الشغب. فالذين يعرفون الخلفيات التاريخية للأحداث أعربوا عن مساندتهم لسكان الإقليم من قومية الإيغور المسلمة. أما الذين يجهلون أصل المشكلة لدرجة أن بعضهم يرى في الصين دولة « صديقة» وحتى « شقيقة» فلم يتوانوا عن التحذير من مؤامرة أمريكية تستهدف إضعاف الصين وتفكيكها. لا شك أن وجهة النظر التاريخية إنْ كانت تستغرق أغلب الحقيقة فإن مجرد التفكير في شرذمة أكثر من 1300 مليون نسمة هي فرضية جنونية لا يتمناها أحد في العالم لما تنطوي عليه من فوضى ومخاطر بالغة التعقيد لجهة السيطرة على هذا العدد المهول من البشر. لكن المؤكد أن حقائق الصراع الراهنة أعمق بكثير وأخطر من أن تغطيها ردود الفعل والتصريحات الواهنة هنا وهناك. فما هي الحقيقة فيما يجري؟ ولماذا لا يجد الجانبان من خيار إلا الصدام الدموي؟

البلاد الثمينة(1)

ثمة مقالة لكاتب إيغوري يطلق فيها على بلاده صفة «فلسطين المنسية». وليس ثمة أدنى شك في صحة التوصيف شكلا ومضمونا كما سنرى لاحقا. فالبلاد إحدى عجائب الأرض في تنوع تضاريسها الجغرافية، وفي موقعها الاستراتيجي الذي يجاور ثماني دول ويربط الصين بأوروبا، وفي مساحتها التي تزيد عن 1.8 مليون كم مربع، وفي ثقافتها ولغتها القديمة التي تمتد إلى عمق بلاد الترك الإسلامية، وفي وفرة خيراتها من المحاصيل الزراعية بشتى أنواعها، وفي ثرواتها من النفط والغاز والفحم مرورا بالمعادن النفيسة. إنها باختصار بلاد ذات ثروات وامتيازات جبارة تؤهلها لتكون دولة إقليمية عظمى لو استطاعت الإفلات من القبضة الصينية.

لكن هذه المكانة الذهبية لتركستان الشرقية جلبت عليها الويلات تاريخيا، وعليه فلم تكن الجرائم الصينية بحق سكانها لتقل وحشية عن جرائم الروس ومن بعدهم السوفيات بحق شقيقتها تركستان الغربية ذات الأكثر من أربعة ملايين كم مربعة، والتي تتوزع اليوم على خمس دول هي كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقرغيزيا وطاجكستان. لذا فقد ارتبط تاريخها بالثورات على الاضطهاد والظلم والنهب الذي تتعرض له البلاد والسكان على حد سواء. فما بين معاهدة « برشينك » في آب سنة 1689 ومعاهدة « سانت بتروسبورغ » السوفياتية في شباط سنة1981 تعرضت البلاد لمذابح دموية مروعة أبرزها ثورة سنة 1759 ضد حملات الاضطهاد والقمع للمسلمين التي بدأتها أسرة مانشو سنة 1648، وانتهت باحتلال الصين للبلاد ومقتل 1.2 مليون مسلم فيها، ونفي نحو 22 ألف إلى تركيا. وإجمالا شهدت البلاد نحو 42 ثورة وطنية عارمة ضد الحكم الصيني. وابتداء من أوائل القرن التاسع عشر وتقاسم الصين وروسيا الأراضي العثمانية، شن مسلمو تركستان ما بين خمس إلى سبع ثورات كبرى وقعت في سنوات 1820، 1830، 1847 و1857، وتواصلت بعدها صدامات خلفت وراءها ملايين القتلى في صفوف المسلمين. لكنهم نجحوا بتحرير البلاد مرتين، وأقاموا دولة مستقلة لهم الأولى ابتداء من سنة 1863 بقيادة يعقوب بك واستمرت 16 عاما متواصلة، والثانية سنة 1933 و1944 إلى أن احتل الشيوعيون البلاد حتى هذه اللحظة. كل هذه الحروب والمذابح من الأهمية بمكان القول أنها وقعت قبل انتصاب الحكم الشيوعي في الصين سنة 1949 بقيادة ماوتسي تونغ. وخلاله بدأت تركستان تدفع ثمنا باهظا على كل مستوى ابتداء بالثقافة والهوية والعقيدة ومرورا بالديمغرافيا وانتهاء بوسائل المعيش.

يقول الصينيون اليوم أن إقليم سينكيانغ بلاد لا تقدر بمال. ومنذ انتصار الثورة الصينية وحتى أواخر الثمانينات من القرن العشرين حكم الصينيون تركستان الشرقية بقبضة حديدية. وأتلفوا الكثير من تراثها الثقافي إبان الثورة الثقافية مطلع السبعينات، ومنعوا التدين وممارسة الشعائر الدينية، لكن بتعبيرات أيديولوجية فرضتها الماركسية وطالت جميع القوميات وتميزت بقسوتها الشديدة. وبقيت البلاد، في ظل الحرب الباردة، ثروة عسكرية ثمينة أكثر منها اقتصادية، حيث حولها الصينيون إلى مرتع لصناعاتهم العسكرية والصاروخية وتجاربهم النووية، تماما مثلما فعل السوفيات بكازاخستان.

لكن بعد موت الزعيم الصيني ماو تسي تونغ اتجهت الصين نحو الانفتاح على العالم. و مع نهاية الحرب الباردة وانطلاقة العولمة ونذر الانفجارات العلمية الكبرى اعتمدت الصين نموذج الاقتصاد العالمي المركب الذي يمزج بين نظريتي الرأسمالية والاشتراكية. هنا اكتشفت الصين القيمة الاقتصادية العظمى لسينكيانغ. وفي وقت لاحق أفصح وانغ له تشيوان، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، خلال المؤتمر الأكاديمي السنوي لجمعية العلوم والتكنولوجيا الصينية (2005) عما أخفته الصين من نوايا للإقليم الذي سيصبح: « بالتأكيد قاعدة طاقة لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية للصين في القرن الـ21 بما يتمتع به من ثروات بترولية وموقع جغرافي فريد». هذا التصريح هو أرفع خلاصة لما توصلت إليه الصين بشأن ما يتيحه لها الإقليم من مكاسب وامتيازات وخطط مصيرية لا يمكن لها أن تفرط بها أيا كانت الأسباب ومهما استدعى من إجراءات وأيا كانت النتائج.

من الواضح إذن أن الرهان الصيني على الإقليم هو رهان استراتيجي لا يتحمل أية هزات اجتماعية مهما كان مصدرها وأيا كانت درجة قوتها. فالثروات العذراء المدفونة في الإقليم وتركيز البنى الصناعية التحتية الثقيلة جدا لا ينفع في استخراجها أو الانتفاع بها أو حمايتها استمرار التوترات الاجتماعية. ويبدو أن الصين رأت أن ما اتخذته من إجراءات لن يكون كافيا، مما يعني وجوب التفتيش الدائم عن كل وسيلة من شأنها قمع السكان، وتصعيد إجراءاتها أو التخفيف منها كلما لزم الأمر، وهو ما دفع منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام والمراقبين إلى التحذير من كون البلاد تعيش وكأنها تحت حكم الطوارئ.

ما أن وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 حتى ركبت الصين الموجة الأمريكية فيما أسمي بـ « مكافحة الإرهاب العالمي»، وسارع المتحدث باسم وزارة الخارجية سون يوشي(18/10/2001) إلى القول بأن: «الأنشطة الإرهابية التي يرتكبها ناشطون من تركستان الشرقية في إقليم سينكيانغ الصيني تمثل مخاطر ليس على أمن واستقرار الصين وحدها وإنما على المنطقة كلها» معلنا أن الصين: « سوف تنضم إلى المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب بما في ذلك في تركستان الشرقية». وهكذا إعلان يؤشر على أن الصين لن يعود لها من سياسة في الإقليم والمنطقة سوى السياسة الأمنية، بل أن الحدث بدا لها وكأنه هبة من السماء، حيث سهّل لها إجراء محادثات أمنية مشتركة مع الروس (28/11/2001) بشأن تركستان الشرقية والغربية. ومكّن البرلمان الصيني في 24/12/2001 من تصعيد مدة عقوبة جريمة الإرهاب من السجن لعشر سنوات إلى الإعدام. وفي 7/1/2002 تعهدت الصين بمعية منظمة شنغهاي « بمحاربة الإرهاب داخليا وخارجيا بأشكاله كافة وعلى جميع الصعد»، وفي 21/1/ 2002 ربطت بين مقاتلي الإقليم وتنظيم القاعدة. لكنها إجراءاتها بلغت الذروة في بيان للحزب الشيوعي صدر في 5/1/2002 يقضي باتهام الجماعات الإسلامية في الإقليم بترويج «أفكار انفصالية». هذه تطورت الأطروحة حتى باتت رأس الحربة في السياسة الصينية تجاه السكان الأصليين والإقليم لدرجة أن منظمات حقوق الإنسان وجماعات أخرى لاحظت أن الصين تستخدم كلمات «انفصالي» و«إرهابي» دون تمييز.

في تعقيبه على أحداث أورومتشي، وبعد اجتماعه بالهيئة القيادية العليا للحزب، نقل التلفزيون الصيني (8/7/2009) عن الرئيس هو جين تاو توعده: (1) بإنزال: «عقوبات شديدة بالضالعين في المواجهات … طبقا لما ينص عليه القانون ». والقانون هنا (2) يعني، بحسب رئيس الحزب الشيوعي في الإقليم، وطبقا للنص المعدل حول جرائم « الإرهاب »: « سعيه لمعاقبة مثيري الشغب … بالإعدام». و (3) لأن الإقليم «شأن داخلي»، بحسب تشين قانغ، المتحدث باسم الخارجية الصينية في رده على تصريحات الرئيس التركي أردوغان، فقد (4) أكد نور بكري رئيس حكومة الإقليم أن الصين: « ستستعمل أقصى الوسائل لكبح العنف». أما هو جين تاو فقد قطع اجتماعاته بدول الثماني، و (5) بدا فزعا من عنف الأحداث لجهة انتقالها إلى مناطق أخرى غير العاصمة أورومتشي و كشغار حين أشار إلى أن: « تحقيق الاستقرار الاجتماعي في إقليم سينكيانج الغني بمصادر الطاقة هو مهمة ملحة جدا»!

سياسات «التصيين»(2)

إذن، تركستان هي البلاد الثمينة التي يستشرس الصينيون في السيطرة عليها وقمع سكانها ولو بالإعدام. فالمشروع الاقتصادي الاستراتيجي وهو ينطلق من تركستان يعني أن خيارات الصين لا تكاد تتجاوز الصفر المئوي فيما يتعلق بحق تقرير المصير للسكان كما تأمل ربيعة قدير. وبالتالي فإن معادلة الصراع بين الجانبين تعني بالنسبة للصينيين عمل كل ما يمكن عمله للقضاء على هاجس «الانفصال» الذي يؤرقها ويعرض مشروعها لأفدح المخاطر، و تعني بالنسبة لقومية الإيغور المسلمة استمرار الكفاح بكل الوسائل للحيلولة دون «التهويد» بأبشع مواصفاته الصينية. والسؤال ليس عما سيفعله الإيغور بل عما فعلته الصين في البلاد كي ينفجر الإيغور ويخرج منهم كل هذا الغضب العارم؟ وكيف طبقت الصين سياساتها على السكان في «سينكيانغ »؟

مبدئيا، وحسب الإحصاءات الرسمية المتباينة، يبلغ عدد سكان الإقليم حاليا 18.6 مليون نسمة من بينهم 11 مليون مسلم ينتمى 8.5 مليون منهم لقومية الإيغور فيما يتوزع الباقون على أقليات صغيرة كالطاجيك والأوزبك والتتار. وعلى الجانب الآخر ثمة 7.5 مليون صيني من «الهان» التي تعد ثاني أكبر قومية في البلاد بنسبة زادت من 7% لتقع في نطاق الـ 40% من السكان. ويقطن العاصمة أورومتشي 2.3 مليون نسمة أغلبهم من «الهان»، وتقع على بعد 3270 كيلومترا غرب العاصمة الصينية بكين. ونظريا يتمتع الإقليم بحكم ذاتي منذ سنة 1955. ويتكلم الإيغور، ذوو الملامح القوقازية، اللغة التركية القديمة التي تستعمل الحروف العربية.

ترجع الأحداث الراهنة في سينكيانغ إلى ليلة 26/6/2009 حين قتل «الهان» عاملين من الإيغور في مصنع للألعاب في منطقة شاو جوان جنوب الصين. لكن ثمة أنباء وشهادات «إيغورية» تحدثت عن جرائم مروعة في المصنع نفذها أكثر من 6000 عامل من «الهان»، وأسفرت عن مقتل أو اختفاء قرابة 500 عامل من الإيغور وهم نائمون. ورغم وجود كاميرات الإنذار وتمتع المصنع بحراسة أمنية مشددة إلا أن الشرطة لم تصل إلا بعد مضي خمس ساعات على وقوع المجزرة، مما وضع علامات استفهام وتَسبب باحتقان شديد لدى الإيغور حول وجود نية مبيتة لارتكاب الجريمة المروعة. لكن الأكيد أن الروايتين تظلان موضع ريبة لضعف المعلومات الدقيقة. فليس من المعقول أن تنفجر كل هذه الأحداث بسبب مقتل عاملين «فقط»، وليس من الممكن قبول الرواية الثانية بـ «المطلق» بسبب غياب أية أدلة موثقة حتى وإنْ كانت صحيحة أو أقرب إلى التصديق.

أما شرارة الأحداث فقد بدأت يوم الأحد (5/7/2009) مع تجمع نحو ثلاثة آلاف من الطلبة الإيغوريين والسكان في ساحة رئيسية بالعاصمة أورومتشي « احتجاجا على طريقة تعامل السلطات مع مقتل العاملين»، إذ يتهم الإيغور السلطات الصينية بعدم التحقيق في أحداث المجزرة وتحديد المسؤولين عنها والمتواطئين ومعاقبة الجناة. وأدى تدخل القوات الصينية لفض المحتجين إلى مقتل 140 شخصا وإصابة 816 بجراحات دامية. وارتفع عدد القتلى تباعا إلى 156 شخصا، ثم في حصيلة نهائية رسمية إلى 184 شخصا. ومن جهته قال عبد الحكيم تكلامكان رئيس « الجمعية الإيغورية للتعاون مع تركستان الشرقية» في مقابلة له من إسطنبول مع قناة الجزيرة أن عدد القتلى بلغ نحو 600 قتيل وآلاف الجرحى والمعتقلين في الأحداث.

لكن توصيف الأحداث بكونها الأعنف منذ عقود لا يخلو من غرابة ومفارقات مريرة. فالإيغور ومسلمو الصين يتعرضون منذ قرون لمذابح صامتة ظلت تقع خلف الأسوار دون أن يعلم بها أحد، أو بفعل الصمت والتواطؤ والعجز الدولي عن نصرتهم سواء من المسلمين في شتى أنحاء العالم أو مما يسمى بالمجتمع الدولي الذي تهيمن عليه القوى الكبرى وتشغله وفقا لمصالحها واحتياجاتها. ومن المفارقات أن صحيفة كريستيان ساينس مونيتور أبدت دهشتها كما لو أنها الصمت الإسلامي وحتى الدولي سلوك عارض حين أشارت إلى أن: « أغلب المسلمين في جميع أنحاء العالم التزموا صمتًا قاتلاً حيال الاعتداءات العنيفة التي وقعت على الإيغور المسلمين». ومع أن أوراق الضغط العربية كثيرة خاصة وأن حجم المعاملات التجارية للشركات العربية مع الصين بلغت في العام الماضي نحو 130 مليار دولار إلا أن الإيغور لم يجدوا من ينتصر لهم لا في الماضي ولا في الحاضر، وأبرز ما حظيوا به، على الدوام، من حصة الأسد هو النسيان والقمع الرهيب والسياسات الصينية التي حولت بلادهم إلى ما يشبه « فلسطين المنسية» أو «الأندلس الضائعة». وعليه فليس غريبا أبدا أن يرصد الكثير من الباحثين والكتاب ما يسمونه بـ « تصيين تركستان» قياسا على « تهويد فلسطين»، لكن الغريب أن تنجح هذه السياسة في غضون ثلاثة عقود على الأكثر. وإذا ما استمرت بنفس الوتيرة لعقدين أو ثلاثة على أقصى تقدير فعلى تركستان الشرقية السلام! فكيف سيكون الصراع بين الإيغور وسط عشرات الملايين من المستوطنين «الهان» مستقبلا؟

لئن كانت الدعوات الصينية في قمع سكان البلاد قائمة على أطروحة « الانفصال» فليس ثمة تطلعات سياسية، ذات شأن، للإيغوريين في الوقت الراهن إلا ما تعبر عنه الجماعات الإسلامية التي تطالب بإقامة دولة إسلامية في بلادهم. وخلافا لمزاعم الحكومة الصينية التي تقول بأن إجراءاتها تستهدف ما تسميه بالجماعات الانفصالية فإن وقائع سياساتها في الإقليم، والتي لا تستثني أحدا، تفضح كل مزاعمها. فلنتابع بعض مظاهرها فيما يلي:

1) السياسة السكانية

فالصين تنام على مخطط قديم يرجع إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي ويقضي بتوطين 200 مليون صيني في الإقليم من قومية «الهان». لكنها نجحت نسبيا ابتداء من الثمانينات عبر الزج بملايين الصينيين للاستيطان في الإقليم وسط حوافز اقتصادية مغرية فيما يسمونه بالعالم الجديد أو المستعمرة الجديدة. صحيح أن المسلمين في الإقليم ليسوا مقيدين، نظريا، بسياسة المولود الواحد، لكن ما بيدهم حيلة لمواجهة أشد السياسات السكانية وحشية سواء عبر النفي والإبعاد والعقوبات الجماعية والعمل القسري الشاق في المعسكرات الحزبية للإناث والذكور أو عبر التلاعب بديمغرافية الإيغور البيولوجية على مختلف المستويات من منع الحمل إلى الإجهاض والتعقيم وتحديد النسل والتحكم الفظيع بالنمو السكاني. كما أن للصين رصيد ديمغرافي لا يجاريها فيه أحد بحيث يمكنها الدفع بعشرات الملايين للاستيطان في الإقليم. ومن بين ما تلجأ إليه الحكومة تشغيل الذكور الإيغور والإناث على وجه الخصوص في مناطق نائية بما يسمح، مع مرور الزمن وصعوبة السيطرة على الاختيارات الشخصية في الحياة، باختلاط الأنساب وضياع الدين والهوية. وفي السياق أورد بيان أصدره المركز الإعلامي للحزب الإسلامي التركستاني (1 ربيع أول 1430) إحصائية تفيد أنه: « تم نقل مليونيين من الفتيات المسلمات إلى الصين، وفي المقابل ينقلون أعدادا كبيرة من الصينيين إلى تركستان من أجل اختلاط الأنساب بينهم وبين الشعب التركستاني، وتُسجن كل من تعترض على هذه السياسة أو تُعرَّض للغرامة المالية وإلى غير ذلك من القهر والذل».

لكن يبقى أمر بالغ الدلالة في المسألة السكانية. إذ أن الحكومة الصينية هي المصدر الوحيد للإحصاءات عن السكان في الإقليم ونسب القوميات فيه. لذا فإن أغلب الأرقام المتداولة عن عدد السكان تقديرية وملتبسة. وتتراوح بين 18 مليون و20 مليون و25 مليون بمن فيهم قومية «الهان». ولا شك أن الحكومة تخفي الأرقام الحقيقية والدقيقة عن عدد السكان، وفي المقابل نراها تروج لما تراه حقيقة واحدة تقول بأن «الهان» هم القومية الثانية بينما عدد الإيغور أقل من ثمانية ملايين نسمة وأن 90% منهم مسلمون. وهي بهذا تمهد للإعلان لاحقا عن سيادة «الهان» على البلاد عدديا بحيث يبدو الإقليم بعد عقد أو عقدين وكأنه جزء حقيقيا من الصين لا يستطيع أحد إنكاره ولا تستطيع أية قوة أن تتجاهل التغييرات الجذرية فيه نظرا لما سيشتمل عليه من كثافة سكانية هائلة ذات حصون قوية.

2) التنمية والتمييز العنصري

من الطبيعي أن يؤدي هذا الواقع إلى إصابة الإيغوريين بالفزع خاصة وأن الإجراءات المرافقة للسياسة السكانية ستنعكس قطعا لا على هوية الإقليم فحسب بل وحتى على فرص العمل والتنمية. فالإيغوريون يعيشون في بلادهم على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فهم يعانون من التمييز العنصري في العمل والمصانع لصالح «الهان» التي تسيطر على القطاعات الصناعية برمتها، وتشغّل أفرادها وتستقطب غيرهم من الصين بينما سكان البلاد يقفون كالمتفرجين. ولا ريب أن الإيغوريين يشعرون باضطهاد واسع النطاق من قبل الحكومة الصينية، وهم يشكون منذ زمن طويل من أن «الهان» يجنون معظم فوائد الدعم الرسمي ويجعلون السكان المحليين يشعرون بأنهم غرباء في ديارهم. ومع ذلك فليست لهم طموحات كبيرة، وبحسب عليم سيتوف، الأمين العام لرابطة الإيغور بأميركا، فإن: « كل ما يطالب به الإيغور هو أن توقف الصين التمييز العنصري ضدهم, غير أنهم يواجهون بقمع لا يمكن تصوره».

هكذا لا يبدو أن الإيغوريين يبالغون فيما يزعمونه من تمييز عنصري ضدهم، فليسوا وحدهم من يتذمر من سوء الحال. فهناك من يرقبهم عن كثب ويلخص خلاصة معاناتهم، فمن جهته رأى أويس هتشيت، مدير مركز الدراسات الفرنسية عن الصين المعاصرة في هونج كونج، أن: « السكان الإيغور محصورون في المناطق الريفية، ومحصورون في الحرف الزراعية التي لا تضيف لهم أية مكاسب مادية أو معنوية توازي ما تقدمه المصانع والشركات البتروكيماوية لغيرهم من السكان». ولعل أخطر ما في التصريح ملاحظة أن الإيغور ليسوا مشمولين بخطط التنمية الصناعية ولا بمردودها كون المشروع صيني صرف ليس للإقليم فيه حظ يذكر من التنمية إلا لسكان المدن حيث تتركز قومية «الهان»، في حين أنه يمثل حجر الزاوية في الانطلاقة الاقتصادية العالمية للصين. لذا فقد أشارت بيانات إحصائية حول مستويات الدخل أن الفارق بين سكان المدن والقرى وصل إلى ثلاثة أضعاف، وعليه فمن الطبيعي أن يواجه الإيغور حرمانا من التعليم المتقدم بحيث تكون النتيجة المنطقية للسياسة الصينية حصرهم في السلم الأدنى من المهن حتى الوضيعة منها. ففي تحقيق مطول لها عن البلاد (2008) ذكرت صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور» الأمريكية أنه: « بمساعدة الحكومة صار أتباع عرقية الهان هم المسيطرون على غالبية المصانع والشركات، ولا يقبلون عمالة بها من غيرهم؛ مما اضطر الإيجوريين إلى امتهان أعمال متدنية مثل الخدمة في المنازل». وما هذا إلا سلوك استعماري فج يذكر بسلوك اليهود لما أعلنوا عن «عبرنة العمل» ومنع الفلسطينيين من العمل في المصانع اليهودية أواخر عشرينات القرن العشرين، فضلا عن أنه العنصرية بعينها. فالإيغور بحسب السياسة الصينية، كما الفلسطينيين، ليسو شركاء أبدا لا في وطنهم ولا في المشروع الاقتصادي. فلماذا لا ينفجرون غضبا؟!

3) مواطنون من الدرجة الثانية

لكن الأسوأ يكمن في الفقر والعوز والفاقة والحرمان والهامشية الاجتماعية كعوامل قد تدفع بالإنسان في لحظات ضعفه إلى التعلق بأسباب الحياة. فقد لجأت الحكومة الصينية إلى إشاعة مناخ من الخوف والرعب في صفوف الإيغور، هذا الشعور بدت ملامحه المرعبة حين أصر السكان على رفض مرور الشعلة الأولمبية (8/8 2008) من أراضيهم خشية أن تستغل لتشديد عمليات القمع والاضطهاد ضدهم. ويبدو أنهم كانوا محقين في مطلبهم. فكيف سيكون حالهم إذا كان زوار الصين أنفسهم اضطروا، تحت طائلة المسؤولية، إلى تعبئة استمارة أمنية من مائة سؤال شملت حتى مقاس الحذاء؟!

وعليه فليس من المستغرب أن يفقد الإيغور فرص الحياة الكريمة ويلجأوا إلى التكسب بوسائل غير مقبولة اجتماعيا ولا شرعيا. فالحكومة الصينية لا تستعمل الإيغور في مشروعها الاقتصادي بقدر ما تستعملهم في التجسس على بعضهم حيث تدفع لهم لقاء ما يقدمونه من خدمات أمنية. فما يهم الحكومة هو الحصول على المعلومات ليس إلا. وغني عن القول أن مثل هؤلاء لا يستحقون المشاركة في الحكم. ولا عجب أن تختصر ربيعة قدير الأحداث الراهنة في تصريح لصحيفة « فوكس» الألمانية بالقول أن: «الحكومة الصينية منحتنا- منذ سنوات- نوعا من الحكم الذاتي، ولكنها لا تزال تعاملنا كحيوانات … كمواطنين من الدرجة الثانية»، وهو ما اعترفت به «كريستيان ساينس مونيتور» مشيرة إلى أن الإيجوريين أصبحوا: «مواطنين من الدرجة الثانية؛ فهم ممنوعون من مجرد تمثيل هامشي في الهيئات الحكومية، كما لا يُسمح لهم باستخدام لغتهم في المدارس». ومن باب الإشارة فالإيغور لا يستعملون لغتهم التركية في المدارس إلا سرا حيث تفرض عليهم السلطات الصينية استعمال اللغة الصينية، أما في الجامعات فقد باتت اللغة الصينية ابتداء من عام 2002 هي لغة التدريس الوحيدة في جامعة سينكيانغ.

4) الحرب على العقيدة

كل ما سبق من تحليلات يقع في كفة وحرب الحكومة الصينية على الدين في كفة أخرى. بل أن الطعون المتاحة في التصريحات والأحداث لا تجد لها أي حظ من النجاح إذا ما تعلق الأمر بالدين. فالمسألة هنا تتعلق بإجراءات وبيانات جهرية متلاحقة تناسب الحكومة ذات العقيدة الماركسية مثلما تناسب قومية «الهان» التي تشكل 90% من سكان الصين وذات الطبيعة الدهرية أو الوثنية في أحسن الأحوال. والطريف في بيانات الحزب الشيوعي أنها تتعلل بالجماعات الجهادية لتبرير حملاتها وإجراءاتها القمعية وهو ما ترفضه كل القوى والمنظمات الإغورية. ولا شك أن لهذه الجماعات نفوذ حقيقي على الأرض وتحظى بقبول اجتماعي لا بأس به خاصة وأنها ذات طبيعة عقدية أكثر منها سياسية. لكن نشأتها ليست بمنأى عن الحرب الشعواء التي يتعرض لها السكان كمسلمين ولا عن العقيدة والتراث الإسلامي والديني الذي استبيح بكل شراسة ومهانة من قبل الشيوعيين حتى قبل أن تظهر مثل هذه الجماعات. لذا فإن مشكلة الصينيين كائنة مع مسلمي الإيغور بوصفهم أمة وليس مع جماعات جهادية فقط.

من جهتها تتحدث المصادر التركستانية بإسهاب «مؤلم» ليس عن التضييق الشديد على المسلمين في تركستان فقط بل عن تحقير وضرب في صميم العقيدة الإسلامية عبر التدخل فيما يسمح وما لا يسمح القيام به من الشعائر الدينية! فالعبادات والأحكام والمعتقدات والوعظ والإرشاد وتعلم القرآن والهيأة واللباس واللحى والمناسبات والأعياد الدينية وحتى صلاة التراويح والقيام باتت بيد الشيوعيين ليقرروا فيها، حين يشاؤون، ما يلزم وما لا يلزم القيام به كتدابير وقائية تجاه ما يرونه خطرا على استقرار الإقليم! وكما أورد بيان المركز الإعلامي للحزب الإسلامي التركستاني فقد منعت السلطات الصينية مثلا: « إقامة الشعائر الإسلامية، وأحرقت ملايين الكتب الإسلامية والمصاحف، ومنعت رفع الآذان في المساجد، ومنعت الشباب من أداء الصلاة لمن هو أصغر من 18 سنة، ومنعت النساء من الحجاب الإسلامي وإلا تعرضت للاعتقال والتعذيب».

الثابت أن الضغط الحكومي لا يتوقف على الإجراءات الداخلية. فهو يشمل حتى الطلبة والمسافرين والمعتمرين والحجاج ويشمل منع إصدار جوازات السفر أو مصادرتها ومنع التنقل. فقد صادرت السلطات جوازات سفر طلاب الجامعات خلال شهر رمضان سنة 2007 ومنعتهم من السفر لأداء فريضة الحج. وفي مقابلة لها مع صحيفة «الشرق الأوسط 10/7/2009» قالت ربيعة قدير أن: « كبار رجال الدين و 90 من الطلاب الإيغور الذين درسوا الدين الإسلامي في السعودية ومصر يقبعون الآن في السجون الصينية». بل أنه ما من شيخ أو عالم في تركستان الشرقية إلا وقضى بعضا من سنين عمره في السجون الصينية.

والحقيقة أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية ضد مسلمي تركستان يمكن إجمالها، نسبيا، إذا ما استعنا بمقالة الكاتب الإيغوري توختي آخون أركن مع بعض التصرف حيث يشير إلى: « منع ممارسة الشعائر الدينية ومعاقبة كل من يقوم بها بموجب القوانين الجنائية ومنع تعليم الدين الإسلامي, وفرض تدريس الإلحاد في المدارس والنوادي والتجمعات ومصادرة المصاحف والكتب الإسلامية. وبلغ ما جمع منها 730 ألف كتاب مطبوع ومخطوط، وإجبار رجال الدين والعلماء على امتهانها وإحراقها في الميادين العامة، ونشر الكتب والمطبوعات المعادية للإسلام ورفع الشعارات والملصقات المسيئة للإسلام وأحكامه وتعاليمه، مثل: الإسلام ضد العلم والإسلام اختراع أغنياء العرب والإسلام في خدمة الاستعمار… واعتقال العلماء ورجال الدين واحتقارهم وفرض أعمال السخرة عليهم, وقتل من يرفض التعاون معهم وإجبار النساء على خلع الحجاب, وإلغاء العمل بالأحكام الشرعية في الزواج والطلاق والمواريث, وفرض الاختلاط, وتشجيع الزواج بين المسلمين والمسلمات من غير دينهم؛ بغية تخريب العلاقات الأسرية الإسلامية وإغلاق أكثر من 28 ألف مسجد و18 ألف مدرسة دينية, واستخدام المباني الإسلامية كالمساجد والمدارس في أعمال تتنافى مع قيم الإسلام كتحويلها إلى حانات ومخازن ومصادرة أموال الناشطين في العمل الإسلامي سواء كان بالتعليم أو التدريس أو التأليف والترجمة، وهدم بيوتهم ونفيهم من منطقة سكنية إلى الصحراء بعيدًا عن الناس وعن الجماعة ومنع السكان من السفر خارج البلاد وفرض النظام الجاسوسي على أفراد الشعب كله. وللمزيد من الإجراءات ».

أخيرا

هذه بعض «الحقيقة المرة التي أخفتها الصين» عن العالم كما علق مسلم إيغوري على الأحداث. لذا لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يكذب أو يراوغ سياسيا حين أكد في تصريحات لمحطة (NTV) نقلتها « رويترز 10/7/2009 » بأن: «الأحداث التي تشهدها الصين لا تعدو كونها أعمال إبادة جماعية» مضيفا بأنه: « لا يوجد فائدة من وصفها بوصف آخر». ولم يكن ديل شات راشيت المتحدث باسم مؤتمر الإيغور العالمي يبالغ هو الآخر حين علق، من منفاه بالسويد، على «غضب مكبوت» يتزايد منذ مدة طويلة لدى الإيغور بأنهم: « تعبوا من المعاناة في صمت».

لكن رغم التاريخ الدموي للصين ضد المسلمين لاسيما في تركستان الشرقية إلا أن الصين التي تعودت الكذب في سياساتها القمعية لا تخجل مما تفعل ولا تنكره. فهي تعلم أن العصر الراهن هو عصر الاتصالات، وبالتالي فإن ما يحدث لا بد وأن يجد طريقه إلى الملأ خلافا لعصر المذابح الصامتة. ومع ذلك تعاملت بكل وحشية مع الاحتجاجات، وهددت باتخاذ إجراءات عقابية إذا ما طبقتها فستنتهي بمذبحة جديدة. بل أنها استخدمت كافة إمكانياتها لإخفاء ما يمكن إخفاؤه من الجريمة، فأغلقت الشبكة، وأوقفت عمل الهواتف المحمولة وصادرت ما أمكنها من وسائل الاتصال بما فيها أجهزة الحاسوب، ودمرت مواقع الإيغور على الشبكة. وأشارت « رويترز» إلى حذف السلطات للتعليقات وصور القتل التي تعرض لها مسلمو الإيغور في الإقليم من المنتديات والمواقع الشهيرة.

إلى هنا فإن إلقاء اللوم على قوى خارجية لن تنفع الصين في شيء، ولن تؤدي إلى استقرار الإقليم طالما أن ماكينة القمع والحزب ذات مواصفات عنصرية ودموية وعدوانية في الداخل. وهكذا فللسياسة الصينية العقيمة نصيب الأسد في ديمومة الصراع في منطقة مرشحة أصلا للانفجار. لكن إذا ما اعتقدت الصين أن بإمكانها لجم الولايات المتحدة عن التدخل « الماكر» إلا من إبداء الأسف؛ أو أن سياساتها الداخلية ضد السكان الإيغور «شأن داخلي» كـ «الشيشان» فعليها أن تجيب عن سر نمو الجماعات الجهادية فيها وتمددها، وما إذا كانت الصين قادرة مستقبلا على تجنب إلحاق الأذى بها في سينكيانغ بالذات حيث البنى التحتية لمشروعها الاقتصادي. إذ أن مثل هذه الجماعات العقدية لا تردعها كثرة المذابح ولا يضيرها أن تجري بصمت خلف الأسوار ولا تعنيها الإدانات الدولية ولا تنتظر من ينتصر لها طالما أنها تؤمن بأن الله أكبر وأن الله معها يدافع عن الذين آمنوا.

(المصدر: موقع جمعية التعليم والتربية والتعاون الاجتماعي لتركستان الشرقية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى