بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
تغيُّر السلوك نتيجة طبيعيَّة لتدبُّر العقل وتأثُّر القلب، وهي نتيجة لا بد منها إذا أردنا أن يكون تدبُّر العقل وتأثُّر القلب مُثمِرَيْن، وإلَّا فلا قيمة للتدبُّر والتأثُّر، ولن يعدو حينئذٍ أن يكون ترفًا عقليًّا يكون من مُلَح العلم وليس من صلبه.
ولنا أن نقف وقفةً متأنية مع الجيل الأول الذي عايَش الوحيَ وعاصر التنزيلَ، وكيف تعهَّده هذا الكتابُ منذ نعومة أظفاره، إلى أن جعل منه قادة وأئمة في الخير والهدى، والصَّلاح والإصلاح.
لقد حوَّلهم هذا القرآنُ من رجال قُسَاة القلوب غلاظ الأكباد، إلى أصحاب قلوب أسيفة، وطِباع رحيمة، وحاشية رقيقة، يسعد الناس بصحبتهم، ويَنعمون بجوارهم، ويَشرُفون بذكرهم وقصِّ سِيَرهم.
لقد تعهَّدهم القرآنُ الكريم بتعقيباته وتقريراته عَقِب كلِّ حدَث؛ من غزوةٍ أو معركة، أو قولٍ أو فعل، حتى نشَّأهم تنشئةً نادرة، وربَّاهم تربية راسخة على معالم الإسلام، وركائز الإيمان، ومكارِم الأخلاق.
ولم يأتِ هذا من فراغٍ؛ فقد تعاملوا مع القرآن بما مكَّنهم منه، وبما سَمَح لهم القرآنُ بهذه الفيوضات، وتلك التنزُّلات، وهذه التغيُّرات في النَّفس والمجتمع، فلم يكونوا يحفظون آية ويتجاوزونها قبل أن يَعملوا بها ويتعلَّموا ما فيها.
وقد قال أبو عبدالرحمن السُّلَمي في عبارته الشهيرة: “إنَّا أخذنا القرآنَ عن قوم، فأخبرونا أنهم إذا تعلَّموا عشرَ آيات لم يجاوزوهنَّ إلى العشر الأُخر حتى يَعملوا ما فيهنَّ من العلم”، قال: “فتعلَّمنا العلمَ والعملَ جميعًا، وإنَّه سيَرِث هذا القرآنَ قومٌ بعدنا، يشربونه كشربهم الماء؛ لا يجاوز تَرَاقِيَهم”، قال: “بل لا يجاوز هاهنا”، ووضع يده تحت حَنَكِه.
وما هو إلَّا أن أدار المسلمون ظهورَهم لهذا الكتاب، فأذاقهم الله الخِزْيَ في الحياة الدنيا، فبعدوا عنه، وبَعُد عنهم، وتركوه فترَكهم، وأعرَضوا عنه واتَّخذوه وراءهم ظِهْرِيًّا، فتغيَّرَت سلوكيَّات المسلمين، وتبدَّلت تصوُّراتهم وأفكارهم، إلَّا من اعتصم بهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه.
ولا يزال هذا القرآن قادرًا على أن يُنشِئ أجيالًا فيها من الجيل الأوَّل مشابهة؛ فالقرآن هو هو، لم يتغيَّر ولم يتبدَّل، لكنَّ المسلمين هم الذين تغيَّروا، ومتى توجَّهوا إليه في ثِقة واستسلام واستهداء، فسوف يعطيهم – قطعًا – ما أعطاه للجيل الأول؛ من ريادةٍ وقيادة، وظهورٍ وانتصار.
*المصدر : موقع الالوكة