مقالاتمقالات المنتدى

تجليّات النّصر والفتح في معركة طوفان الأقصى

تجليّات النّصر والفتح في معركة طوفان الأقصى

بقلم  رانية نصر (خاص بالمنتدى)
 لم تنطفئ نار الحرب بعد؛ ولم تضع معركة طوفان الأقصى أوزارها؛ ومع ذلك تحقق النصر دون أدنى شك وذلك بتأكيد النّص القرآني، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ۝١ وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا ۝٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ۝٣﴾ [النصر ١-٣]، وتشير الآيات إلى أن الفتح والنصر منوطان بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وهذا بالفعل الذي رأيناه كأثر من آثار طوفان الأقصى؛ حيث انعكست ظلاله على العالم بأسره لا على الفلسطينيين وحدهم.
وقالَ الرّازِيُّ: الفَرْقُ بَيْنَ النَّصْرِ والفَتْحِ: أنَّ الفَتْحَ هو تَحْصِيلُ المَطْلُوبِ الَّذِي كانَ مُنْغَلِقًا، والنَّصْرُ كالسَّبَبِ لِلْفَتْحِ، فَلِهَذا بَدَأ بِذِكْرِ النَّصْرِ وعَطَفَ عَلَيْهِ الفَتْحَ، أوْ يُقالُ النَّصْرُ كَمالُ الدِّينِ، والفَتْحُ إقْبالُ الدُّنْيا الَّذِي هو تَمامُ النِّعْمَةِ.
جاء الفتح؛ إذ هو الغرض الاستراتيجي الأول من تشريع الجهاد، وهو انتشار الإسلام في الأمصار بعدما حال بينه وبين الناس مواثيق السلام ومعاهدات الصلح الدولية التي أغلقت المسار وعطّلت الانتشار، فما شُرِع جهاد إلا لتأمين خط الدّعوة حال اعترضها عارض أو منعها مانع، فعندما تعطّل الجهاد تأخر الفتح!! وكلما انتصرت الفكرة وتشبّعتها العقول والقلوب وتحولت لتطبيق وسلوك؛ تجسّد الفتح بمعناه المادي والمعنوي. جاء الفتح المتجسّد بدخول آلاف الناس في الدين الإسلامي من شتى بقاع الأرض بعدما تحقق النّصر في غزة؛ فدخول هذه الأعداد المهولة في دين الله أفواجا يُثبت أنّ النصر قد تحقق؛ إذ إن الفتح منوطٌ بالنصر ابتداء كما أشارت الآيات الكريمة، ولولا النصر الذي سبق؛ لما كان الفتح الذي لحق!
 وقال بعض العارفين: “الفتح أن يشرح الله -سبحانه وتعالى- صدر أحدهم، فيرى بعين البصيرة ما قد يكون مخفياً عن الغافلين، يعلم حقيقة الدنيا، وأنها إلى زوال، يتعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى فيرى أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فيكون قد فُتح عليه، انكشف له الحق، انجلت له الحقيقة، رأى بعين البصيرة ما لا يراه الغافلون”.
 وإن معايير النّصر بالمعنى الشمولي والاستراتيجي على مستوى الدّين والدّعوة يختلف عن معايير النصر بمعنى الانتصار الظرفي أو الغلبة في أرض المعركة؛ ودليل ذلك من السيرة النبوية أن في غزوة مؤتة غير المُتكافئة بين المسلمين والروم وحلفائهم من الأعراب والنصاري كان عدد المسلمين لم يتجاوز الثلاثة آلاف مجاهد مقابل عشرات الآلاف من حلف الروم؛ انسحب سيدنا خالد بن الوليد بالجيش مُقدِّماً المصلحة العليا وهي حفظ دماء المسلمين عن هدرها دون تحقيق الهدف المنشود! تلقى صبية المدينة الجيش في طرقاتها يرمونهم بالحصى، وينعتونهم بالفُرّار! فصحح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناطق بالحكمة والمُسدّد بالوحي فهمهم قائلاً: “بل هم الكُرار”، وسمى انسحاب سيدنا خالد بن الوليد بالجيش فتحاً، ذلك لأنه حقق المصلحة الغالبة، فالفتح بمعناه الشمولي هو القدرة على تحقيق المصلحة الرّاجحة للمسلمين وتحييد المصلحة المرجوحة، أي تقليل الخسائر وليس فقط مجرد الانتصار في أرض المعركة، وبذلك تكون معركة طوفان الأقصى قد حققت النصر والفتح بالمفهوم الشمولي والعميق.
إن صمود أهل غزة بعد أربعة أشهر من العداون يعتبراً نصراً، وتأخير تقدّم المشروع الصهيوني في اقتحامات المسجد الأقصى تمهيداً لبناء الهيكل المزعوم يعتبر نصراً، وانهيار اقتصاده عالمياً يعتبر نصراً، وتعرية القوانين الدولية التي عجزت عن حماية حقوق الإنسان وكرامته يعتبراً نصراً، وكشف ازدواجية معايير هذه الدول والمؤسسات والقائمين عليها يعتبر نصراً، ودخول آلاف الناس دفعة واحدة في الإسلام يعتبر نصراً استراتيجياً لطوفان الأقصى، وإعادة قيمة الجهاد وإعلائها في وجدان الناس بعد خذلان المُطبّعين ويأس الناس من مقاومة هذا الاحتلال المجرم يعتبر نصراً مؤزّرا .
المكاسب التي تحققت في ظل هذه المعركة أكبر بكثير من الخسائر المُشاهدة، بالرغم من فداحة الجرائم الإنسانية والإبادة والتجويع إلا أن هذه التضحيات أرتنا عزة وشموخ أهل الحق، فطريق الدعوة محفوف بالدماء والشهداء والتضحيات، وهو طريق ذات الشوكة الذي أمرنا الله عز وجل بخوض غماره لنيل رضوانه وبلوغ الجنان، هو طريق الشرفاء وأصحاب الكرامة.
إن بعض المحن والأذى والظلم من شأنهم إحداث الفرج والنصر والفتح؛ فقد سببت مقاطعة قريش والقبائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه أذىً لا يُحتمل وظلماً شديداً لهم، لكن هذه المحن كانت سبباً في تعاطف قبائل العرب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كانوا يأتون لموسم الحج ويسمعون ما يقع بالمسلمين من ظلم وتعذيب وانتهاك للكرامة والحقوق مما دفعهم للتعرف أكثر عن هذا الدين وعن صمود أصحابه وثباتهم على مبادئهم الذي تجلّى في الصبر وتحمل المشاق والألم والابتلاء، هذا كله أثار سخط العرب على كفار مكة وتعاطفهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما أن انتهى الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام وذاع أمره، وهكذا تحولت محنة الحصار الظالم إلى منحة انتشار الإسلام والدخول في دين الله أفواجاً رفضاً للظلم وإنصافاً للمظلومين.
فتح الله عز وجل قلوب الناس وشرح صدورهم لهذا الدّين العظيم من خلال محنة الظلم التي أصابت المسلمين، وهذا الظلم المشهود في غزة اليوم كان سبباً في تعاطف كثير من الناس في الغرب للتعرف على الدين الإسلامي الذي يدين به أهل غزة، فكان الصمود الأسطوري سبباً في هذا الفتح والنصر، نسأل الله تعالى أن يرحم شهداء غزة ويداوي جرحاهم ويحقن دماءهم ويعلي راية الإسلام خفاقة في المسجد الأقصى وأن يرزقنا صلاة على أعتابه إنه نعم الولي ونعم النصير. إن فاتورة إعلاء كلمة الدين تدفعها دماء الشهداء، تبذل رخيصة في سبيل إرضاء المولى عز وجل، ولا حيد عن هذا الطريق مهما بلغت الأثمان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى