مقالاتمقالات مختارة

تجديد الفكر الاجتهادي (3)

تجديد الفكر الاجتهادي (3)

بقلم جمال الدين عطية

-5-

مشكلة تكوين المجتهدين 

أ- تُعَدِّد كتب أصول الفقه التقليديَّة شروطاً للمجتهد ليس من بينها (معرفة الواقع)

1- وقد تنبَّه إلى أهميَّة ذلك من المتقدِّمين الإمام أحمد إذ ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين نقلاً عن الإمام أحمد أنه قال: (لا ينبغي للرجل أن ينصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: … الخامسة: معرفة الناس).

ويضيف ابن القيم: (وهذا مما يدل على جلالة الرجل ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه، وقال في شرح الخامسة: وأما قوله الخامسة معرفة الناس فهذا أصل عظيم، يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً فيه، فقيها في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر، له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكرُ والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثياب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال. وذلك كله من دين الله كما تقدَّم بيانُه وبالله التوفيق).

? – ويوسِّع الدكتور القرضاوي هذا الشرط إلى مَعرفة الناس والحياة فيقول: (وهذا شرطٌ لم يذكره الأصوليون في شروط الاجتهاد، وهو معرفة المجتهد بالناس والحياة من حوله، وذلك أنه لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة فلابدَّ للمجتهد أن يكون على حظٍّ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه ومشكلاته وتياراته الفكرية والسياسية والدينية، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى ومدى تأثره بها وتأثيره فيها).

ثم نقل كلام ابن القيم، وتابع: وهذا في الواقع ليس شرطا لبلوغ مرتبة الاجتهاد، بل ليكون الاجتهاد صحيحاً واقعاً في محله. وأكثر من ذلك أن نقول: إنَّ على المجتهد أن يكون ملماً بثقافة عصره، حتى لا يعيش مُنعزلاً عن المجتمع الذي يَعيش فيه ويجتهد له، ويَتعامل مع أهله، ومن ثقافة عصرنا اليوم أن يَعرف قدراً من علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والسياسة والقوانين الدولية ونحوها من الدراسات الإنسانية، والتي تكشف له الواقع الذي يعايشه ويعامله، بل لابد له كذلك من قدر من المعارف العلمية، مثل الأحياء والطبيعة والكيمياء والرياضيات ونحوها، فهي تشكل أرضية ثقافية لازمة لكل إنسان معاصر، وكثير من قضايا العصر وثيقة الصلة بهذه العلوم بحيث لا يستطيع أن يفتي فيها من يجهلها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ولو بوجه ما وكيف يستطيع الفقيه المسلم أن يفتي في قضايا الإجهاض، أو شكل الجنين، أو التحكم في جنسه، وغير ذلك من القضايا الجديدة إذا لم يكن لديه قدر من المعرفة بما كشفه العلم الحديث عن الحيوانات المنوية الذكرية والبويضة الأنثوية وطريقة تلاقي البويضة بالحيوان المنوي وتكون الخليَّة الواحدة منهما، وقضية الجينات وعوامل الوراثة … الخ.

هذه القضايا العلميَّة التي قد يُنكرها بعض المشايخ الذين لم يدرسوا هذه العلوم الكونية ومن هنا أدخل الأزهر هذه العلوم في معاهده ومناهجه من عهد بعيد، لأنها ضرورية لفهم الدين والكون والحياة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهي امتداد لما كان عليه علماء المسلمين في عصور الازدهار. وأي معهد ديني يَستبعد هذه العلوم الكونية من مناهجه لا يمكن أن يُعدَّ رجالاً قادرين على الاجتهاد في قضايا عصرهم) [كتاب الاجتهاد، للدكتور القرضاوي ، ص 47 -49].

?- أقول:

أ- هذا الذي ذكره الدكتور القرضاوي ليس كافيا لإعداد المجتهد المعاصر، وإنما هو ضروري لإعداد الداعية المعاصر.

أما المجتهد المعاصر فلا يكفيه أن يدرس نتفاً من هذه العلوم التي ذكرها والتي أصبحت الآن تخصصات عامَّة تشمل تخصصات دقيقة داخل كل منها.

ب – إن المجتهد المعاصر ينبغي في رأينا أن يكون متخصصاً وأن يعد إعداداً خاصاً:

1- ذلك أن المجتهد المطلق لم يعد موجوداً، كما لم يعد من المنتظر وجوده ، وإنما الذي يوجد الآن أو يتصور وجوده هو المجتهد الجزئي أي الذي يتمكن من استنباط الحكم في مسألة دون غيرها أو في باب فقهي دون غيره.

2- وهذا المجتهد المتخصِّص لابدَّ لوجوده وقيامه بمهمته من إعداده إعداداً تخصصياً لا في الجانب الشرعي فحسب، وإنَّما في جانب التخصُّص الذي يتَّجه إليه، سواءً في الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع أو علم النفس أو غير ذلك من المجالات.

ولا يكفي في إعداد المجتهد المتخصص في الاقتصاد مثلاً دراسة كتاب أو مقرر واحد من مقرَّرات الاقتصاد، وإنما يَلزم أن يشمل برنامجه الدراسي في المرحلة الجامعيَّة الأولى على 30 إلى 45 ساعة من نظام الساعات المعتمدة، وأن يوجَّه بعد ذلك إلى الدراسة العليا، حيث يحصل على عدد آخر من الساعات، في دراسة متعمِّقة في الاقتصاد إلى جانب الدراسة الشرعية المتخصِّصة، ولا يتَّسع المجال هنا لأكثر من هذه الإشارة الموجزة.

?- ولابدَّ حتى تؤتي هذه الدراسة المتخصِّصة أكلها، وتخرج للمجتمع مجتهدين متخصصين أن يكون لديهم الاستعداد الشخصي للقيام بهذه المهمة، وهذا يستدعي عمل اختبارات ومقابلات شخصية قبل قبوله في هذا التخصص البيني الجامع بين تخصص الاقتصاد وتخصص الشريعة.

4- كما ينبغي كي تؤتي هذه الدراسة أكلها أن تتمَّ بصورة مُقارنة بين الاقتصاد الوضعي والشريعة بحيث يتم التفاعل في ذات المادة التي تدرس ولا يتم تدريس المادتين منفصلتين؛ لأنَّ ذلك يُؤدي إلى قيام ازدواج ثقافي داخل عقل الطالب، مع أنَّ الهدف هو إزالة هذا الازدواج.

5 – إنَّ الحلَّ الذي لجأت إليه المؤسسات المختصَّة بالاقتصاد أو بالطب أو بغير ذلك من إقامة مجالس أو لجان تضمُّ مُتخصصين في الاقتصاد أو الطب ومُتخصصين شرعيين إنَّما هو حل مؤقت لا يحلُّ المشكلة جذرياً بل إنَّه يكرِّس عملية الازدواج الثقافي. ولا مناص من إنشاء التخصُّصات البينيَّة التي أشرنا إليها.

 

-6-

العلة والحكمة 

مسألة أخرى من مسائل التجديد في أصول الفقه تتمثَّل في اللجوء عند القياس إلى الحكمة من حكم الأصل لتطبيقه في الفرع إذا لم تتحقَّق العِلَّة والحكمة المقصودة، إذ من المعلوم أنَّ العلة هي مجرد وسيلة مُنضبطة لإجراء عمليَّة القياس وتحقيق مقصد الشارع من حكم الأصل في الفرع، وقد ذهب إلى جواز ذلك بعض الأصوليين ومنهم الرازي في المحصول. (الجزء الثاني – القسم الثاني ص 3?? – 400).

وهذه المسألة لم تكن ظاهرة الفائدة في البداية حيث كانت ظروف الحياة قريبة من ظروف عصر الرسالة بحيث يسهل وجود نصٍّ تُقاس عليه الوقائع الجديدة، ولكن مع تطور الحياة وجدت وقائع بعيدة كل البعد عن الاشتراط في علة حكم الأصل، ومن هنا بدأ التفكير في صورة جديدة من القياس أطلق عليها أصحابها القياس الكلي، القياس المصلحي، القياس المرسَل، القياس الواسع، القياس الإجمالي، قياس المصالح المرسلة إلى غير هذه الأسماء التي يجمعها جميعا محاولة التحرُّر من الشروط التقليديَّة للقياس خاصَّة موضوع العلميَّة وأن يستعاض عنها بالحكمة، ولكن دائما مع البقاء في إطار نقل حكم الأصل الجزئي إلى الفرع الجزئي.

 

-7-

الاستنباط من القواعد

أ- مسألة أخرى تتمثل في الاستنباط من القواعد، فقد درج الأصوليون والفقهاء على القول بأنَّ القواعد لا تُستخدم في الاستدلال بها إلا إذا كانت منصوصاً عليها كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ويكون الاستدلال بها في هذه الحالة لا بصفتها قاعدة وإنما بصفتها نصاً، وفيما عدا ذلك تنحصر فائدة القواعد في ضبط أحكام الفروع التي تنطبق عليها.

والسبب في هذا التضييق هو أنَّ القاعدة أغلبية بمعنى أنها لا تنطبق على جميع الفروع أي: يوجد لها استثناءات، وبالتالي لا يعرف إن كانت الحالة التي يُراد الاستدلال عليها بالقاعدة في حكم أغلبية الحالات أم أنها من قبيل الاستثناء شأن باقي استثناءات القاعدة.

ب – ونرى أنَّ هذا التبرير تَرِدُ عليه الاعتراضات الآتية:

?- إن معظم الأحكام الفقهية مبني على الظن الغالب ولا يشترط فيه القطع، وكون القاعدة مبنية على الأغلبية لا يُفيد أكثر من كونها ظنيَّة وهذا لا يقدح في صلاحيتها للاستدلال بها.

?- إنَّ الاستثناءات التي تَرِدُ على القاعدة تكون عادةً إما منصوصاً على حكمها بما يخالف حكمَ القاعدة، وإما خاضعة لقاعدة أخرى اقتضت إعطاءها حكمة مخالفة للقاعدة، وفي كلتا الحالتين لا يَقدح هذا السبب أو ذاك في صحة القاعدة.

?- إنَّ الحالة المفترضة التي نحتاج فيها إلى الاستدلال بالقاعدة هي حالة فراغ تشريعي ليس فيها نص كتاب أو سنة أو إجماع ولم يمكن قياسها على حالة منصوص عليها، وبالتالي يكون إدراجها تحت حكم القاعدة مع الحالات الأغلبيَّة الأخرى موضوع القاعدة أولى من اللجوء بشأنها إلى المصلحة المرسلة وأقرب إلى الاطمئنان على اتساقها مع النسق الفقهي المقرَّر بالقاعدة طالما أنَّه لا يردها أصلٌ مَقطوع به مقدَّم عليها من الكتابِ والسنَّة والإجماع.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(المصدر: مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، 1421 – العدد 13 / رابطة العلماء السوريين)

الحلقة السابقة هـــنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى