مقالاتمقالات مختارة

تجديد الفكر الاجتهادي (2)

تجديد الفكر الاجتهادي (2)

بقلم جمال الدين عطية

-4-

موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر

أ- ونقصد بالعصر الحاضر منذ نهاية عصر التقليد لمذهب مُعيَّن، واتباع ما ورد في كتبه من أحكام، ومحاولة تخريج المسائل الجديدة التي لم تَرد في كتب المذهب بقياسها على مسألة منصوص على حكمها في أحد كتب المذهب، وقد كان ذلك هو حال معظم البلاد الإسلامية ولعدَّة قرون، وضعت قواعد وأصول المعرفة رأي المذهب إذا اختلف فقهاء المذهب فيما بينهم ووضعت كتب في كل مذهب تُناقش الآراء المختلفة فيه، وتختار ما يُعتبر وفقاً لهذه القواعد هو الرأي الرسمي المعتمد للمذهب كما هو الحال بالنسبة لحاشية ابن عابدين في المذهب الحنفي ولحاشية الدسوقي في المذهب المالكي وهكذا. [ر. كتاب الاجتهاد، للدكتور القرضاوي ، ص 47 -49]

ب – ثم تبين مع مرور الوقت وتغيُّر الأحوال أنَّ بعض الآراء في كتب المذاهب لا تحقِّق المصلحة التي هي أساس التشريع، فعدل عن الرأي الراجح في المذهب إلى رأي آخر مرجوح من نفس المذهب ولكنَّه يحقق المصلحة بصورة لا يحقِّقُها الرأي الراجح. وحدث ذلك في عِدَّة مسائل عند وضع مجلة الأحكام العدليَّة التي هي تقنين للمذهب الحنفي لم يخرج فيها عن الرأي الراجح إلى رأي مرجوح إلا في بِضْعة مَسَائل، وكما حدث في تشريعات الأحوال الشخصيَّة في مصر سنة ???? وما تلاه من تعديلات.

وكان هذا أول خروج عن قاعدة التقيد بالرأي الراجح في المذهب، ولذلك احتاج إلى تبرير -من وجهة نظر المذهبيين بأن قالوا: إنَّ هذه السلطة قاصرة على ولي الأمر فقط، وباستعمالها أي باختيار ولي الأمر لرأي مرجوح – يُصبح هذا الرأي المرجوح راجحاً.

ج- ثم سار التحرر من المذاهب خطوة أخرى حين بدأت تشريعات الأحوال الشخصيَّة المبنية أصلاً على مذهب مُعيَّن، تقتبس آراء من مذاهب إسلامية أخرى تعتبرها أكثر تحقيقاً للمصلحة من رأي المذهب الذي تعتمده هذه التشريعات.

وفي إطار هذا الاتجاه أخذ التقنين التونسي للأحوال الشخصية سنة ???? برأي الحنفية خلافاً للمذهب المالكي السائد في تونس بالنسبة لأهليَّة البنت لعقد زواجها بنفسها، كما أخذ التقنين السوري للأحوال الشخصيَّة سنة ???? برأي المالكيَّة خلافاً للمذهب الحنفي السائد في سوريا بالنسبة لحقِّ الزوجة في طلب الطلاق للضرر، كما أنَّه في كلا التشريعين أخذ برأي الحنابلة خلافاً للمذهبين الحنفي والمالكي بالنسبة للشروط التي تشترطها الزوجة على زوجها عند عقد الزواج، كما أخذ القانون العراقي سنة ???? برأي الشيعة في الميراث وعمَّمه على جميع العراقيين من سُنَّة وشيعة وأصبحت البنت الوحيدة تَرث كلَّ التركة ولا شيء لابنِ عمها.

د – غير أنَّ هذا التطور – على أهميته ومخالفته للالتزام المذهبي الذي ظلَّ طابع الفقه الإسلامي عدة قرون – لم يكفِ لمواجهة الجديد من العلاقات الاجتماعيَّة الناشئة عن نظم الحياة في المجتمع الحديث بعد تقدُّم الصناعة وتداخل العلاقات التجاريَّة وتنوعها وما تبع ذلك من صور جديدة للمجتمعات لم تكن موجودة عند وضع المذاهب حتى يرد بشأنها رأي فيها. ولو وجد أئمة المذاهب الفقهيَّة الإسلامية في عصرنا لكان لهم في كل ذلك آراء وأحكام وفتاوى ونظريات.

لذلك قام زعماء الإصلاح الديني ينادون بفتح باب الاجتهاد وضرورة اهتمام القادرين من علماء المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية لهذه الحوادث الجديدة بطريق القياس على ما ورد في نصوص الكتاب والسنة كما كان الشأن في المذاهب الفقهيَّة عند نشأتها، وشعر بعض العلماء بواجبهم وبدأت تظهر الفتاوى الجديدة في مسائل الشركات والبنوك والتأمين وغير ذلك مما جدَّ في حياة الناس، وكان للشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ أحمد إبراهيم، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ علي الخفيف، وغيرهم كثير، كان لهم فتاوى وآراء في المسائل المستحدثة، بنوها على أصول الاجتهاد المعروفة في أصول الفقه من القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والعُرْف وغير ذلك من الأصول التي أشرنا إليها فيما سبق.

وواضح أنَّ هذا الاتجاه وإن أخذ بفكرة فتح باب الاجتهاد في الفقه إلا أنه التزم بأصول الفقه بوضعه التقليدي ولم يتجه إلى فتح باب الاجتهاد في أصول الفقه نفسه كذلك.

هـ – ومن المعلوم أنَّ للمذاهب الفقهيَّة المختلفة آراء مختلفة في أصول الفقه هي التي أدَّت – ضمن أسباب أخرى – إلى اختلافهم في فروع الفقه، وأنَّه إذا جاز للمتقدمين أن يختلفوا في الأصول فكذلك المتأخرون لهم أن يجتهدوا في الأصول كما لهم أن يجتهدوا في الفروع.

وبذلك نكون قد وصلنا إلى ذروة التحرُّر من المذهبية: فروعها وأصولها، وبدأت الكتابات الإسلامية المعاصرة تجتهد اجتهاداً مطلقاً هو أقرب ما يكون إلى مرحلة فقه الرأي التي سبقت نشوء المذاهب الفقهية غير مُتقيدة بأصول مذهب معين بل جارية على التلفيق بين أصول فقه المذاهب المختلفة. وقد اتجهت هذه الكتابات اتجاهاً أساسياً هو الاستنباط المباشر من النصوص القرآنية والنبويَّة سعياً إلى تكوين فقه جديد أو نظريات إسلامية مُعاصرة تمتد كذلك إلى علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغير ذلك من الشؤون. ويمكن أن يدخل تحت هذا النوع كتابات الأساتذة المودودي وعبد القادر عودة وسيد سابق وسيد قطب ومحمد الغزالي وغيرهم من الأجيال اللاحقة التي كتبت في هذا الاتجاه الساعي إلى تغطية كافة أمور الحياة بنظريات إسلامية.

وقد شمل هذا الاتجاه أسلوبين:

1 – أسلوب الاستنباط المباشر من النصوص العامَّة التي قرَّرت العدل والإحسان والرحمة والبرَّ والإصلاح … الخ.

2- وأسلوب إقامة نظريات من أحكام الفروع.

3- وقد جمع بين الأسلوبين عبد القادر عودة حيث أقام نظرية إسلامية كاملة في التشريع الجنائي من أحكام الفروع، كما دعا في المقدمة إلى إقامة نظريات من النصوص العامَّة كالعدل والمساواة وغيرهما.

و – وهناك اتجاه آخر يذهب إلى عدم التقيُّد بالأحكام الفرعية الواردة في النصوص، وإنما إلى التقيد فقط بالمبادئ الكلية (القواعد) والمقاصد العامَّة للشريعة المستمدَّة من النصوص صراحة أو استنباطاً ، وبسط نطاق تطبيقها على كافة أمور الحياة..

ومن أمثلة المبادئ والمقاصد العامَّة المقصودة بهذا الرأي ما نصَّت عليه المواد المائة الأولى من مجلة الأحكام العدليَّة، والتي سبق إلى استنباطها الأصوليون في كتب القواعد والأشباه والنظائر وغيرها.

وممن ذهب إلى هذا الرأي – دون الإشارة إلى مواد المجلة العدليَّة – الدكتور محمد أحمد خلف الله في تعليقه بمجلة الطليعة المصرية على حركة المناداة بتطبيق الشريعة الإسلاميَّة.

ز – غير أنَّ البعض رأى رأياً آخر مُقتضاه أنَّ الأصل في أمور المعاملات هو الإباحة ما لم يرد حكم منصوص عليه (بخلاف الحال في العبادات حيث الأصل هو الاتباع) ينظم مسألة ما، أما حيث لا نصَّ فالمسلمون على أصل الإباحة يشرعون ما يرونه محققا لمصلحتهم.

وقد عبَّر عن هذا الاتجاه بوضوح الشيخ محمد محمد المدني رحمه الله تعالى في محاضرة له بموسم محاضرات الأزهر، وهو نظر فيه تعميم لرأي الحنابلة في الشروط والعقود.

ح – وفي سياق الآراء الداعية إلى تضييق نطاق النصوص، نجد أنَّ الفقهاء والأصوليين بحثوا بالنسبة للسنَّة فيما يُعتبر من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله تشريعاً عاماً مُلزماً لجميع البيئات والأزمنة وما يعتبر غير ذلك إما لكونه رأياً شخصياً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم صادرة عن خبرته الإنسانية في مسألة تشريعية، أو لكونه مسألة تتعلق بالطبيعة البشرية أو ما دلَّ الدليل الشرعي على أنَّه خاص به أو كان تشريعاً زمنياً خاصاً ببيئته صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد عرض العلماء الأمثلة من هذه الأنواع غير أنَّهم لم يحصروها فبقي الباب مفتوحة للمجتهدين في أن يستبعدوا من النصوص ما دل الدليل على أنه خاص بواقعة معينة أو ظرف معين أو أنه لم يقصد به التشريع العام الدائم. [كتاب الأحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام للقرافي ، ومقال الشيخ علي الخفيف ، عن السنة التشريعية بالعدد 78 من مجلة المسلم المعاصر ، ومقال الدكتور محمد سليم العوا عن السنة التشريعية وغير التشريعية بالعدد الافتتاحي من مجلة المسلم المعاصر.]

ط – وقد توسَّع بعضُ المعاصرين في هذا الاتجاه وذهبوا إلى تعميمه واحتجُّوا باجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي خالف فيها ظاهر النصوص، ومن هذا الرأي الدكتور محمد النويهي، وانبرى للرد عليه آخرون موضحين أنَّ عمر رضي الله عنه لم يكن مُعطِّلاً للنصوص وإنما فهمها في ضوء نصوص أخرى وقواعد عامَّة في الإسلام كتعطيله حدَّ السرقة عام المجاعة وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم وغير ذلك. [في بحث نشره بعنوان (نحو ثورة في الفكر الديني) في مجلة الآداب اللبنانية عدد مايو 1970، واستكمله في ندوة التطور الحضاري التي عقدت بالكويت والمنشور في مجلة الشورى الليبية عدد أكتوبر 1974]

ي – وأخيراً نجد البعض لا يرى التقيُّد لا بروح النص كما في (الرأي)، ولا بلفظه كما في (الآراء ذ، ز، ح، ط) ويرى اطِّراحَ ذلك كله – في دائرة المعاملات – وإعمال العقل مُطلقاً من كل قيد إلا قيد مُراعاة المصلحة التي يَراها هي روح النصوص جميعاً، محتجاً بقولِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة تأبير النخل (أنتم أعلمُ بأمور دنياكم).

د – لقد حاولنا تصنيف الآراء المختلفة في هذه القضية دون نظر الى أصحاب هذه الآراء وما قد يضمره بعضهم باتجاه الشريعة الإسلامية، إذ إن لبحث مواقف الأشخاص مجالاً آخر، وإنما اضطررنا إلى ذكر بعض الأسماء لضرب الأمثلة على الاتجاهات الفكرية موضوع البحث.

ل- ولعله قد تبين لنا- بعد هذه الرحلة بين المواقف المختلفة من النصوص، والأبعاد المختلفة للاجتهاد – أهمية رسم الحدود التي يَسير ضمنها المجتهدون والسلطة التشريعيَّة التي يحددها دستور كل بلد إسلامي بعد تقدير ظروف كل بلد والمرحلة التي يمرُّ بها.

ولا يكفي في هذا الصدد استبعاد الدرجات المتطرفة في كل من اتجاهي الالتزام المذهبي (الآراء أ، ب، ج) والتحرُّر من النصوص (الآراء و، ط، ي) فإن الأمر بقي متردداً بين عدة مواقف (الآراء د، هـ، ز، ج) ويحتاج إلى حسم حتى ينطلق الاجتهاد مُتبيناً طريقه بين النصوص والآراء.

1- وقد أخذ دستور الجمهورية العربية اليمنيَّة الصادر في28/12/1970 باتجاه عدم التقيد بالمذهبية حين نصَّت المادة ??? منه على أنَّ تقنين الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات يكون بما لا يخالف نصاً ولا إجماعاً، فجعل النص (من قرآن وسنة والإجماع هما القيد الوحيد على التقنين. قريب من الرأي ز).

2 – وكذلك أخذت الجمهوريَّة العربية الليبية باتجاه عدم التقيد بالمذهبيَّة حين نصَّت المادة ? من قرار قيادة الثورة الخاص بمراجعة التشريعات وتعديلها بما يتفقُ مع المبادئ الأساسيَّة للشريعة الإسلامية الصادر في 28/10/1971، نصَّت على إزالة ما يُناقض الأحكام القطعية والقواعد الأساسية للشريعة الإسلامية بإعداد التشريعات البديلة آخذة من مختلف المذاهب مع تخير أيسر الحلول حسبما تقتضيه المصلحة العامة ومع مراعاة ما جرى عليه العرف في البلاد (الرأي ج).

3- وأرى شخصية الأخذ بالرأي هـ بأسلوبيه ?، ? حيث إنه يجمع بين التقيد بالثوابت من النصوص والمرونة في المتغيرات بما يحافظ كذلك على روح الشريعة وليس على نصوصها فحسب.

يتبع…

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

 

المصدر: مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، 1421 – العدد 13 / رابطة العلماء السوريين)

الحلقة السابقة هـــنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى