مقالاتمقالات مختارة

تجديد الفكر الاجتهادي (1)

تجديد الفكر الاجتهادي (1)

بقلم جمال الدين عطية

يظنُّ معظمُ العلماء المعاصرين أنَّ الاجتهاد المطلوب حالياً يَقتصر على الإفتاء في المسائل المستجدَّة كأحكام التأمين ونقل الأعضاء مما تقوم به المجاميع الفقهية المعاصرة.

وهدف هذا البحث هو عمل إطلالة موجزة مبدئيَّة على هذا الموضوع من خلال بحث عدد من المسائل المحورية.

-1- 

توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي

أ – الاجتهاد قرين الإبداع، أو هو نوع من أنواعه في مجال خاص. والإبداع يقوم به المبدعون، وأهم سماتهم استعدادهم الفطري، فالإبداع ليس وظيفة ولا تخصصاً وإنما هي ملكة يؤتيها الله من يشاء من عباده، وسنعود إلى مزيد من مُعالجة هذه الفكرة.

ب – وأول ما يَتبادر إلى الذهن ولم يعدْ يماري فيه أحد – ضرورة الاجتهاد في المستجدات من المسائل سواء على المستوى الجزئي كفوائد البنوك أو نقل الأعضاء أو التأمين على الحياة أو زكاة المستغلات، أو على المستوى الكلي كدور الدولة في مجال الاقتصاد.

ج – ومما ينبغي أن يتسع له نشاط الفقيه المعاصر أن يقوم بالمعالجة الواقعية للأوضاع المعاصرة، فلا يقف نشاطه عند البحوث النظرية المثالية وإنما ينزل إلى الواقع ليبدي فيه رأي الشريعة، فلم يعد يكفي الاقتصار على أحكام الزواج التقليديَّة فهناك أوضاع طرأت على واقع العلاقات الزوجية تحتاجُ إلى دراسة تبنى عليها أحكام جديدة كحالة عمل المرأة وإسهامها في أثاث المنزل وتكاليف المعيشة، وكحالات الزواج غير الموثَّق وغير ذلك، ولم يعدُ الناس يَتبايعون بالذهب والفضة، ولم يعودوا يقيسون بالفرسخ والذراع ومَسيرة اليوم والليلة، ولم يعودوا يزنون بالمثقال والأوقية أو يكيلون بالوسق والقلقة إلى غير ذلك من المقادير التي كانت مُستعملة في الماضي.

د- ولكن الذي لا يَنتبه له الكثيرون هو ضرورة إعادة النظر في المسائل القديمة، أي الاجتهاد مجدداً في المسائل القديمة فإنَّ من المقرَّر أن لتغير ظروف الزمان والمكان والأشخاص أثره في تغير الاجتهاد والفتوى، ولا نُوافق على حصر دور المجتهد في هذه الحالة على الانتقاء من بين الآراء القديمة رأياً يكون أصلح أو أرفق ولو كان مرجوحاً في نظر أهل الترجيح من القُدماء فللمجتهد المعاصر أن يَصل إلى رأي لم يقل به الأقدمون طالما أنَّ له مُستنده الشرعي في هذا الاجتهاد، ونحن لا نُوافق على مَقولة أنَّه إذا كان للقدماء ثلاثة آراء في المسألة (أو أربعة) فللمجتهد المعاصر أن يختار أحدها وليس له أن يقول برأي رابع (أو خامس) لم يقل به أحد ممن قبله، على أساس أن الآراء القديمة استنفدت بالقسمة العقليَّة جميع الاحتمالات، فهذا حَجْر على المجتهد لا أساس له من الشريعة.

هـ- لقد واكبت العلوم الشرعية تطورات الحياة، ولم يقتصر اهتمام علماء الإسلام على العلوم التي بدأوا بها كالتفسير والحديث والفقه بل تتالَى تفجُّر العلوم فنشأت علوم العربية وعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه والسياسة الشرعيَّة وعلوم الكلام والجدل والمناظرة والأخلاق والتصوُّف والقواعد وغيرها، وفي مرحلة مُتأخِّرة ظهرت كتابات مُتخصِّصة في مقاصد الشريعة (كالموافقات) وفي فلسفة التاريخ (كالمقدِّمة) وفي التربية، وغيرها.

واليوم نجد كتابات مُتخصِّصة في الاقتصاد الإسلامي وعلم النفس الإسلامي والأدب الإسلامي وغيرها.

وبعضُ هذه الكتابات إنشاء جديد وإن جمعت بعض مادته من القديم – وبعضها تولَّد من تفاعل عِلمين مما يسمَّى الآن بالعلوم البينيَّة.

وأمام هذا الانفجار المعرفي على الساحة الإسلامية نجدنا بحاجة إلى وضع ضوابط شرعية لهذه العلوم الجديدة تحدد مقاصد كل منها في ضوء مقاصد الشريعة العامة، وتوضح الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة التي تحكمها، وتثري مادتها بالقواعد الشرعية التي تنطبق عليها، وتنشئ من هذا كله نظريات إسلامية في كل علم من هذه العلوم، وتعقد المقارنات مع مثيلاتها في الأديان والفلسفات الأخرى، وهذه كلها عمليات مستمرة لا تقف عند حد وهي جزء من توسيع مجال الاجتهاد المعاصر [المزيد من التفصيل يراجع كتاب (تجديد الفقه الإسلامي) من سلسلة حوارات لقرن جديد نشر دار الفكر دمشق 2000]

و – ونشير أخيراً إلى أنَّ الفقه يَنبغي أن يحتلَّ دورُه كقائد للدورة الحضاريَّة للأمَّة، وأن يكون الفقيه رائداً مصلحاً وليس تابعاً محافظاً.

-2-

الحاجة الى تجديد المنهج

أ- من المعروف عند علماء مناهج البحث أنَّ الالتزام بمنهج واحد يؤدِّي إلى جمود العلم، وأنَّ كل تجديد في المنهج يفتح بابا للإضافة إلى العلم، حتى إنَّ أحدهم (فويرأبند) دعا إلى عدم الالتزام بالمنهج.

ب – وفي خصوص الفقه الإسلامي بالذات نجد أن علمه المنهجي (أصول الفقه) قد نما وتطور في القرون الأولى ثم توقف عن النمو والتطور أو نضج واحترق كما يقولون، وظنَّ البعضُ ألا مجال فيه للإضافة، بل أنكر بعضهم مجرَّد التفكير في الاجتهاد فيه [يراجع العددان الافتتاحي والأول من مجلة المسلم المعاصر]، فضلاً عن أنَّ النظرة إلى دراسته لا تعدو أن تكون لغرض فهم كيف توصَّل الفقهاء إلى الآراء التي قالوا بها، وليست بأية حال لغرض استخدامه حالياً والاجتهاد المعاصر في إطار قواعده. ونظرا لعدم اتساع آليات علم الأصول لمواجهة المستجدات المتسارعة والمختلفة جذرياً عن بيئة التشريع الأولى، فقد اتجه البحث إلى تجديد هذا العلم بما يحققُ الغرضَ منه.

ج – ولأن البحث الحالي لا يَهدف إلى رسم إطار لتحديد علم أصول الفقه فضلاً عن استقصاء المسائل التي تحتاج إلى تجديد، فإننا نكتفي هنا ببيان نماذج من هذه المسائل تاركين لفرصة أخرى أو لغيرنا المعالجة التفصيلية لها.

-3-

بلورة و(مأسسة) السلطة التشريعية

أ- أولى هذه المسائل: هي تحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسَّسات أو المأسسة إن صحَّ هذا الاشتقاق، وفكرة المؤسسات واردة منذ القديم فقد أنشئ بيت المال للزكاة والمسجد للصلاة والمحتسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الإجماع والاجتهاد والشورى لم تتحوَّل إلى مؤسسات فافتقدنا بذلك في تاريخنا الطويل مُؤسستين هامتين تمثلان السلطة السياسية والسلطة العلمية وإن كانت هناك إرهاصات في عصر الرسالة والخلافة الراشدة في صورة أهل الحل والعقد وصورة المجتهدين على ما تذكره رواية ميمون بن مهران أحد كبار التابعين، وأورده ابن القيم من أنَّ أبا بكر كان يَستشير (رؤساء) النَّاس وأنَّ عمر كان يستشير (علماء)، الناس، ومن قبلهما كان في عصر الرسالة للنقباء وللعشرة المبشرين بالجنَّة وضعهم.

ولعلَّ الفصام الذي نشأ بين الحكام والعلماء – بدءاً من الدولة الأمويَّة – هو الذي أدَّى إلى عدم حدوث التطوُّر في الاتجاه الإيجابي المنشود طيلة التاريخ الإسلامي.

لقد حاول الحكام من جانبهم استيعاب العلماء في جهاز القضاء فاستجاب البعض ورفض آخرون وتعرَّضوا بسبب رفضهم لصنوف من العذاب والاضطهاد.

كما انصرف العلماء من جانبهم إلى تنظيم السلطة العلميَّة بتأسيس علم أصول الفقه أولاً ثم – بعد الركود الذي حدث لحركة الاجتهاد – إلى تصنيف العلماء إلى درجات من المجتهدين والمقلِّدين، والاهتمام بنصوص كِبار المجتهدين وتوثيقها وشرحها بما جعل لنصِّ الفقيه ما يُقارب قداسة نصِّ الشارع.

ولعلَّ من أهم الدراسات التي حاولت تتبُّع هذا الموضوع وتحليله كتاب عبد المجيد الصغير (الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام) [نشر دار المنتخب العربي بيروت، 1994].

ب – واستمرَّ وضع العلماء في التدهور كجزءٍ من حالة التدهور العامَّة التي شملت جميع مظاهر الحياة، في الوقت الذي بدأ فيه الغربُ نهضتَه الحديثة وبدأت أفكار الديمقراطيَّة والتنظيم الدستوري للدولة الحديثة وحركة التقنين في ظلِّ العلمانيَّة بحيث أصبح للدساتير الوضعية قداستها العلمانية ونظمت السلطات التشريعية في إطار الدساتير، واستمرَّ تخلف علماء المسلمين عن مواكبة هذا التطور من منطلق إسلامي بتطوير مبادئ الشورى والاجتهاد والإجماع الى صورة مؤسسيَّة، فاتجه دعاة النهضة في العالم الإسلامي الى أخذ النموذج الغربي في تنظيم الدولة وسلطتها التشريعية، وبدأ الوعي لدى العلماء والجماهير بالقطيعة مع النموذج الإسلامي رغم أنه لم يكن مطبقا في الحياة العملية إلا في صورة القضاء (الشرعي).

ج – ومع نشوء الصحوة الإسلاميَّة الحالية وتعاظم شأنها والمواقف المناهضة لها من المفكرين والعلمانيين والحكومات العصريَّة) أثيرت ضمن الاعتراضات على فكرة الدولة الإسلامية مساوئ الدولة الدينيَّة في مسيحية أوروبا العصور الوسطى وانبرى المدافعون عن الصحوة لتفنيد ذلك بتوضيح أنَّه ليس في الإسلام مفهوم الدولة الدينيَّة وأنَّه ليس في الإسلام رجال دين بالمفهوم الكهنوتي المسيحي مما أدى إلى تكريس الموقف الانفصالي بين العلماء والحكام وليس بين الدين والدولة فحسب، وهكذا بقيت مجهودات تجديد الفقه في صورة اجتهادات فرديَّة وحتى الاجتهادات التي اضطرت الحكومات إلى القيام بها – تحت الضغط الشعبي – هامشيَّة محدودة مُتمثِّلة في النص في الدساتير على أنَّ الشريعة مصدر القوانين، فدخلت بذلك الشريعة تحت مظلة الدستور والسلطة التشريعية بالمفهوم العلماني الديمقراطي

د – وقد انطلقت الكتابات المعاصرة عن مفهوم الدولة الإسلامية – إلى جانب نفي نموذج الدولة الدينيَّة – في تحديد التصوُّر الإسلامي عن السلطة التشريعيَّة في أحد المبدأين الإسلاميين: الاجتهاد والإجماع:

? – أما الذين انطلقوا من مبدأ الاجتهاد فيرون الجمع بين صورتي الاجتهاد الجماعي (لا الفردي) والاجتهاد الخاص (لا المطلق) وهذا هو الاتجاه السائد سواء في الكتابات الفردية أو بحوث المؤتمرات العلميَّة.

?- وقد انطلق كل من د. حسن الترابي، د. توفيق الشاوي من مبدأ الإجماع على أساس أنَّ الإجماع يَنعقدُ بالأكثريَّة وهو قول الطبري والجصَّاص والخياط وبعض المعتزلة وابن حنبل في إحدى روايتين عنه، أو على أساس أنَّ قول الأكثر ليس بإجماع ولكنه حجَّة ظنية، أو أن اتباع الأكثر أولى [حجيَّة الإجماع، د. محمد محمود فرغلي ص 309-315].

هـ – ولم تتعرَّض الكتابات المعاصرة – إلا لماما – للتفاصيل التطبيقيَّة للسلطة التشريعية في وضعنا المعاصر من حيث تحديد كيفية اختيار أعضائها، ومكانهم المؤسسي في أجهزة الدولة، واختصاصات المجلس الذي يضمُّهم، ومدَّة عضويتهم، وغير ذلك من المسائل التي تحتاج إلى استكمال إذا أردنا لمبدأ الإجماع أو الاجتهاد أن يتحوَّل إلى حقيقة مؤسسيَّة في واقعنا المعاصر.

يتبع..

(المصدر: مجلة قضايا إسلامية معاصرة / رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى