كل أمة تتراجع وتنهزم ثم تعود إلى مجدها تدريجيا بعد التخلص من آثار الهزيمة وتصحيح المسار، إلا الأمم التى تنهزم نفسيا فإنها تظل حبيسة الهزيمة والضياع إلى الأبد. ظلت دول العالم الإسلامي تعاني من تلك الهجمة الشرسة التي تستهدف تدميرها نفسيا وقتل الإرادة ووأد العزيمة وكبح أي مشروع علمي إصلاحي يرقى بشعوب هذه الدول ويخرجها من جحيم التخلف إلى آفاق التنمية والإبداع.
من وسط تراكمات التخلف العلمي والحضاري وضعف البنية السياسية والاقتصادية والإدارية وتدهور التعليم والانهزامية وضمور الروح المعنوية التى رسختها الحرب النفسية على المسلمين، استطاعت دول إسلامية مثل (تركيا ، أندنوسيا، ماليزيا) كسر تلك الحواجز الوهمية المفتعلة والخروج من تلك الظلمات المتكدسة لتنهض وتبني وتبدع وتعيد ألق الحياة ورونقها إلى شعوبها، ولتبدد الأقاويل والأراجيف حول عدم أهلية الدول الإسلامية لخلق نهضة علمية واقتصادية.
من التجارب الحديثة في العالم الإسلامي التي بهرت العالم وأرست مثالا جديدا يحتذى به لدول العالم الإسلامي التجربة التركية، فخلال السنوات الماضية تحولت تركيا إلى قوة إقتصادية إقليمية وعالمية لها قدم راسخة وقوية في السوق العالمية، وتحولت إلى وجهة للاستثمارات الضخمة القادمة من آسيا وأوربا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فماذا عن تجربة هذا البلد المسلم الذي تملأ سمعته الآفاق اليوم ويفرض نفسه كقوة اقتصادية عالمية جديدة.
على مشارف الإفلاس “أزمة2001 الاقتصادية“
شكلت فترة الثمانينيات والتسعينيات تحديا كبيرا للاقتصاد التركي حيث زاد التركيز بشكل أوسع على الاستثمارات الخارجية، ووصلت قيمة التجارة الخارجية 40% من الناتج المحلي. كانت الحكومة تواجه صعوبة كبيرة في إيجاد وسائل التمويل الضرورية لتحقيق النمو الاقتصادي للبلد. لجأت الحكومة إلى بيع سندات مالية إلى البنوك التركية بمعدل فائدة عالية. وقد شكلت هذه السندات ضربة قاسية لهذه البنوك خلال أزمة2001.
سنة 1996 قدم صندوق النقد الدولي بيانا تحذيريا شديدا اللهجة بخصوص الوضع الاقتصادي لتركيا حيث أدى العجز المالي للدولة إلى توقف الكثير من المشاريع التنموية. ومع نهاية التسعينات بدأ التوتر السياسي في تركيا يتوسع ويزداد ضراوة وهو ما أدى إلى انسحاب المستثمرين ووصول قيمة الأموال المسحوبة 70 مليار دولار.
في نوفمبر 2000 قدم صندوق النقد الدولي قرضا لتركيا بقيمة 11.4 مليار دولار لمساعدتها في التغلب على الأزمة الاقتصادية. لجأت الحكومة إلى بيع مصانع ومؤسسات تابعة للدولة ومع نهاية 2000 تفاقمت الأزمة وارتفعت البطالة والغلاء المعيشي ودخلت تركيا أزمة خانقة. مع بداية 2001 خرج رئيس الوزراء التركي مصطفى أجاويد من اجتماع مع الرئيس أحمد نجدت سيزر وقال : “إنها أزمة خطيرة، البنك المركزي التركي فقد 5 مليارات دولار من احتياطه النقدي” بعد أيام فقد أكثر من 14875 تركي وظائفهم وانهارت العملة التركية الليرة مقابل الدولار، وبدأت تركيا تسير نحو مصير مجهول.
ظهور حزب العدالة والتنمية AKP
بعد الأزمة الخانقة التى عرفتها تركيا 2001 والتى تركت آثار سلبية على الوضع السياسي والاجتماعي ووسط هذا الضياع الذي تعيشه تركيا كان حزب العدالة والتنمية يشق طريقه ويصنع مستقبله السياسي ويقدم رؤيته لما يجب أن تكون عليه تركيا. وصل الحزب ذو الخلفية الإسلامية بعد صراع وجودي مرير مع القوى المناهضة لكل ما هو إسلامي أو له أدنى علاقة بالإسلام ، ثم بدأ إصلاحات جذرية عميقة شملت مجالات سياسية واقتصادية منها تفعيل السياسات الضريبية، إستراتيجية دعم قطاعات الدولة الحيوية، تطوير السياسات الاستثمارية. لاقت هذه السياسات نجاحا كبيرا حيث حقق الاقتصاد التركي متوسط معدل نمو 13% من 2002 وحتى 2012، وتربعت بورصة اسطنبول ضمن 30 بورصة الأولى في العالم ، كان هذا النجاح كافيا لإعادة تركيا إلى طريق النهضة والبناء وتتالت انتصارات الحزب سياسيا لتدعم التوجه الجديد للجمهورية التركية ولتحقق المزيد من الرفاهية الاقتصادية والاستقرار السياسي للشعب التركي. وفي العالم 2014 حقق الاقتصاد التركي المركز 17 على المستوى العالمي لتنطلق تركيا في نهضة علمية واقتصادية كبيرة ولتقول إن شعوب العالم الإسلامي قادرة على البناء و النهوض متى صحت منها العزيمة.
رؤية 2023 المستقبلية لتركيا .. عليم والبحث العلمي
صممت تركيا استراتيجيتها الجديدة على دعم التعليم والبحث العلمي والإستفادة من موقعها الجغرافي المهم، ففي مجال التعليم والبحث العلمي: استطاعت تركيا تطوير منظومتها التعليمية من خلال دعم مالي ولوجيستي كبير، شمل تأسيس الجامعات ومراكز البحث العلمي والمعاهد المتخصصة، حيث تخرج تركيا سنويا 610 ألف طالب من جامعاتها في مختلف التخصصات. وارتفع تصنيف الجامعات التركية من المرتبة 100 عالميا سنة 1981 إلى المرتبة 18 خلال العام 2008. في 2016 أعلنت الحكومة التركية فى إطار تحقيق أهداف استراتيجية 2023 زيادة الإنفاق في مجال البحث العلمي والتكنولوجي من 1 % إلي 3 % وتسعى بذالك إلى رفع عدد الباحثين من 115 ألف باحث 2014 إلى 300 ألف.
الموقع الجغرافي
في إطار استراتيجيتها للاستفتادة من الموقع الجغرافي أطلقت تركيا سلسلة مشارع ضخمة تستهدف تطوير البنية التحتية فتركيا على نقاط تماس مع منطقة تمتلك 70% من النفط والغاز في العالم، لذلك تلعب تركيا دورا بارزا في نقل وتوزيع النفط والغاز عبر أوروبا ، لذلك قامت تركيا بتطوير مشاريع مواصلات لتسهيل نقل الطاقة إلى أوربا من هذه المشاريع Baku – Tbilisi – Ceyhan (BTC 2006) . و Baku – Tbilisi – Erzurum (BTE 2007) .
وتسعى تركيا من خلال الاستثمارات الضخمة إنعاش سوقها الإقتصادية وتطويرها حيث من المحتمل أن تستقطب هذه السوق 1.5 مليار زبون من أوربا وآسيا و الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتقدر قيمة هذه السوق ب 25 تريليون دولار. وتسعى الحكومة التركية إلى تطوير ثلاثة موانئ ضخمة ستلعب دورا بارزا في الشحن والأمور اللوجستية المتعلقة به.
تسابق تركيا الزمن وتعمل بوتيرة متسارعة رغم صعوبات الوضع الدولي والإقليمي إلى تحقيق أهداف إستراتيجية 2023 والتى تهدف أساسا إلى جعل تركيا ضمن القوى الاقتصادية العشر الأولى في العالم .
(إسلام أونلاين)