تبيان تحاور د. سامي عامري.. معركة الإسلام مع العلمانية والإلحاد
لخص د. سامي عامري، متعة المجاهدة والعطاء الإنساني في كبد، وذلك في كتابه “مشكلة الشر ووجود الله: الرد على أبرز شبهات الملاحدة” فقال: “إن من اللذائذ، وأدومها، وأكثرها إرواءً للنفس، هي تلك التي تحصدها يد المعاناة من أرض المكابدة؛ فتجد في حلاوتها جزاءً على صبرها، وتجديدًا لعزمها، وإنماءً لعودها؛ فالألم بذلك مادة المتعة الجادة، ومن حطبه توقد نار البهجة.”
ولا تنفك عبارة “الرد على الشبهات” ملازمة لنتاج الدكتور سامي عامري، لتعكس اهتمامه الشديد بهذا الباب ودرجة تعمقه في القضايا المعاصرة التي تشغل الأمة المسلمة. وقد ساعدت د. سامي مؤهلاته العلمية والأكاديمية، بدكتوراه في الأديان المقارنة وبخبرة واسعة في التأليف، وقدرة على سبر أغوار المذاهب المعاصرة، في توجيه الردود الحاسمة لشبهات الملاحدة والعلمانيين ومتلازمة اضطراباتهم وتناقضاتهم.
ومما يجعل أطروحاته أكثر ثقلًا وتأثيرًا، اطلاعه على واقع أمته، ومعايشته الدائمة لهمومها وسعيه الحثيث لتقديم الحلول الخاصة بشباب المسلمين. وقد أصدر العديد من المؤلفات القيّمة بعناوين مختلفة في باب العقيدة والإيمان ورد الشبهات المعاصرة.
يشرفنا أن نستضيف الدكتور سامي عامري في تبيان لنناقش بعض أبرز القضايا التي تشغل الساحة الفكرية وتتربص بنهضة الأمة وبصناعة الأجيال المسلمة ولنقيّم واقع معركة الإسلام مع العلمانية والإلحاد والتيارات الغربية.
تبيان: مسلمٌ قائم عند ثغرٍ، يخشى أن يُؤتى الإسلام من جهته (في خصومة مع: العالمانية، والإلحاد الدهري، والتنصير، والاستشراق). يتجلى من خلال تعريفك على مواقع التواصل، أن الصراع مع العلمانيين والملحدين والنصارى والمستشرقين أضحى ميدانك الذي ترابط عليه. كيف وجدت الرباط على هذا الثغر؟ ثم كيف تشخّص خطورة كل خصم على حدة وما الذي يجمعهم برأيك؟
لا يسلم دين الناس من قوارع الفتن إذا كانت حدوده مستباحة من الصائلين بالشبهة؛ ولذلك على الأمّة واجبٌ كفائي، وهو حماية حدود الدين من غائلة دعاة الفتنة. وهو واجب ثقيل -وإن كان حلوًا-؛ لأنّه يستغرق كلّ طاقة المرء؛ بل قلّ إنّ المرء يجد نفسه فيه محوطًا بهموم وواجبات يعلم أنّه لا يمكن أن يوفّيها حقها؛ ولذلك يلجأ -اضطرارًا- إلى تقديم الأولى، فالأولى.
ولا شكّ أن دعاة الفتنة ليسوا على درجة واحدة من الخطورة؛ فمنهم من شبهته ذائعة، قد دخلت كل بيت، ومنهم من شبهته لا تصل إلّا إلى الخواص من الناس.
ولا أستريب في أنّ الخطر الأوّل والأعظم، هو خطر العالمانية؛ إذ العالمانية طاعون العصر وطاغوته؛ فهي باختصار الإطار القانوني والقِيَمي الذي يشكّل أبرز أوجه واقعنا. وأعظم مكر العالمانية أنّها -في عامة الأحوال- لا تعرض نفسها كخصم للإسلام، وإنّما كرؤية “محايدة” لا تطلب إقصاء الإسلام من الوجود الحيّ للناس.
وأمّا الملاحدة والمنصّرون والمستشرقون؛ فإنّ خطرهم متقارب؛ لأنّهم يواجهون الإسلام من جهة واحدة، وهي بثّ التهمة؛ بالقول ببشريّة الرسالة الخاتمة، وعلى رأس ذلك بشريّة القرآن.
وقد يختلف القول بمبلغ خطر التنصير والإلحاد باختلاف البيئة؛ ففي بعض البلاد المسلمة (في بعض بلاد إفريقيا وآسيا مثلًا) يشكّل التنصير الخصم الأوّل؛ لأنّ له إمكانيات مالية هائلة (مستشفيات، مدارس، مؤسسات “إغاثية”…)، وقد يتضاءل خطر التنصير في بلاد أخرى، مثل كثير من البلاد العربيّة.
تبيان: لو أردنا تقييم خسائر الأمة المسلمة أمام التيارات الغربية، إلى أين وصلت درجة إفسادها في شرائح الأمة المختلفة؟ وبالمقابل ما مدى نجاح المشروع الإسلامي في مقاومة التغريب ومخلفاته وهل حقق نتائج واقعية ملموسة لحد الآن؟ أو بتعبير آخر أين وصلت معركة الإسلام مع التيارات الغربية؟ وكيف تتوقع مستقبلها القريب والبعيد؟
نحتاج أولًا أن ندرك أن التيارات التغريبية تسيطر على مفاصل التعليم والإعلام والترفيه.. أي الجهاز الأكبر لصناعة الوعي. وقد استطاعت الدعوة الإسلامية في آخر القرن الرابع عشر وبداية الخامس عشر (هجريًا) أن تستعيد مساحات واسعة من الوعي استولى عليها التغريب بسلطان الدولة العالمانية، لكنّ فتنة “البرلمانات” وأوهام مكاسب الكراسي الوزاريّة الصوريّة، أحدثت انتكاسة كبرى في النشاط الإسلامي في مواجهة التغريب؛ إذ إنّ الانتماء البرلماني ما عاد يسمح بلغة التحذير، والصدام، والمفاصلة العقدية الواضحة.
وفي الغيبة شبه التامة “للعمل المؤسسي” الإسلامي في مواجهة التغريب، يبقى العبء على أفراد الدعاة في رصد الهجمة التغريبية، وكشف مخططاتها، والتحذير منها.
ومع اليقين أنّ المعركة -على المستوى البعيد- ستنتهي بعلو كلمة الإسلام؛ إلا أنّ المعركة على المستوى القريب تبدو غامضة؛ فإنّ أحداث ما بعد “الربيع! العربي” قد هدمت من تاريخ الدعوة جهودًا عظيمة.. والأمل -بإذن الله- أن نرى استفاقة، وتنقية للصف من الآكلين بالدين، والمترددين، وحشدًا لمواجهة هذه الفتن.
تبيان: ما هي أبرز الأدوات التي تعتمد عليها الدعوات الغربية للتغلغل داخل الوسط الإسلامي؟ ما هي الأسباب والظروف التي سمحت لهذه الدعوات بالظهور في مجتمعاتنا؟ ثم هل من تكامل وظيفي بين المبشرين بالعلمانية من النخب العربية وبين النصارى العرب؟
التغريب ليس فكرة وافدة (بالمعنى الجغرافي)؛ فإنّ بلادنا محتلّة على الحقيقة، محكومة بالقوانين الغربية التي تهيمن على عامة تفاصيل حياة الشعوب. وقد تحوّل المسلم الوفيّ لواجب الالتزام بإسلامه؛ إلى “كائن حزبيّ”، ينتمي إلى ما يُسمّى “بالإسلاميين”. فالأصل في “المسلم” اليوم ألّا يكون “إسلاميًا”؛ حتى لا يُخالف الصورة المألوفة “للمواطن الصالح”.
نحن لا نعاني اليوم من “التغريب”؛ فالتغريب هو الأصل، وإن كان عامة الناس قد تآلفوا معه لأنه صار جزءًا من العرف في العلاقات بين الجنسين والمعاملات المالية والترفيه وغير ذلك من جليل الأمور ودقيقها.
نحن نعاني اليوم فجور التغريب، وغلوّه، وتحوّله إلى الدعوة إلى الأنماط الأكثر شذوذًا في الغرب، دون أن تستكمل حركة التغريب الأولى مع سقوط الخلافة دورتها التي تنتهي به إلى الطور المتطرّف الذي يعرفه الغرب اليوم.. هو انتقال “اصطناعي” إلى المرحلة القصوى لقيم التغريب.
والداعم لهذه المرحلة، حماسة هؤلاء التغريبين من على منصّات التغريبي الرسمّية، وابتزاز “الدعوة” وترهيبها بصكوك الحرمان والغفران البرلماني، وأيضًا بالتشهير والسجن، وفوضى وسائل التواصل الاجتماعي… ولا شكّ أن انصراف الدعوة عن تقصّد مواجه التغريبيين -إلا قليلًا- قد ساهمت في جرأة هؤلاء على الانتقال إلى الطور التغريبي الأشدّ تطرّفًا..
وإذا كانت الهجمة التغريبية الأولى قد استفادت بقوّة من رموز الفكر من النصارى العرب (كما بيّنته في كتاب: العالمانية طاعون العصر)؛ فإنّ المرحلة الحالية لا تعرف لهم مساهمات مؤثّرة؛ لأنّ الواقع ليس في حاجة إلى مزيدٍ من أهل الحشد بعد تشوّه مُسَلَّمات الدين، وتغوّل التعلمن.
ومن الظريف هنا الإشارة إلى أنّ النصارى العرب قد تحوّلوا من دعم الحالة العالمانية (وهو أمر مفهومة أسبابه من طرف أقليّة دينيّة)، إلى نصرة الحالة الإلحاديّة، بالدعم المالي، والإعلامي، والحقوقي، وهذا ما لا يُفهم إلّا في ضوء تاريخ المكر الصليبي (العربي) بأمّة الإسلام، والمستعد لنصرة التتار الوثنيين والملاحدة الدهريين.
تبيان: يتردد صدى دعوات جديدة على الساحة الفكرية تقضي بأسلمة العلمانية والديمقراطية والترويج لهما، كيف وصلت هذه الدعاوى وما أصلها وما هي أهدافها؟
أسلمة تعطيل الشريعة، خطاب ليس بحادث؛ بل له جذور عند بعض المقدَّمين في تاريخ الدعوة؛ بمحاولة الفصل بين المناهج السياسية وحقيقتها العقديّة، والادعاء أنّها مجرّد أنظمة إجرائية محايدة للحكم.
وأصل هذا الانحراف، لين الجانب مع الباطل، والبراغماتية الدعوية التي ترى الوسائل مطيّة شرعيّة دائمًا ما كانت تقود إلى غاية “نبيلة”، والغفلة عن أنّنا نتعبّد الله سبحانه بالوسائل كما نتعبّده بالغايات.
لقد بدأت هذه الدعوات بالسعي وراء “رخصة” في زمن “الاستضعاف“، ثم انتقلت “مقاصديةً” متفلّتة، وهي اليوم تتبرّأ صراحة من التميّز الشرعي الإسلامي؛ بعد أن اختارت “الأنسنة” في مقابل “الأسلمة”.
تبيان: من هذه الدعوات اشتهرت رؤية عزمي بشارة، التي تقوم على إنشاء الإطار النظري للعلمنة من الداخل بالتقاط اللحظة التاريخية عند بداية غروب شمس السلطنة العثمانية وما شابها من تبني للمنظومة الوضعية، ثم تعميم هذه اللحظة كنموذج وكمخرج مقترح لأحزاب ما يسمى الإسلام السياسي نحو العلمنة والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى تبني حركات الإسلام السياسي للطرح الذي يقدمه عزمي بشارة بعد أسلمة المنظومة الديمقراطية؟ وما هو دور أسلمة الدولة القطرية الوطنية في تكريس التبعية وسلب مقومات التميز؟ وهل تتجه أسلمة العلمانية إلى مصادمة السرديات الكبرى للإسلام؟
هذه أسئلة “كبيرة” يضيق عنها البيان في هذا الحوار.. ويكفي أن أقول إنّ عزمي بشارة في رأيي لم يكن يومًا مفتي تيّارات “العالمانيّة الملتحيّة”. عزمي بشارة قدّم طرحًا روّج له هؤلاء باعتباره “اعترافًا” من داخل “التيّار العالماني” يثبت أنّ الإسلام لا يتعارض إلا مع العالمانية الشاملة المتطرّفة.. وأنّ الإسلام “عالماني” بالطبع؛ لأنّه ليست فيه طبقة الإكليروس الحاكمة.. والمسألة كلّها قائمة على التقاء مكر العالماني الجالس على إمبراطورية مالية ضخمة (عزمي بشارة)، والذي يحاول دسّ العلمنة في جوهر هوية الأمّة، بفريقٍ يتلمّس الرُخص والشذوذات بحثًا عن مكان تحت الشمس.
عزمي بشارة اليوم استقلّ بصورة كبيرة عن عامة “الإسلاميين” الذين فتحوا له أبوابهم، ولمّعوه؛ بعد أن صنع إمبراطورية مالية و”تثقيفية-إعلاميّة” لا يملك أحد من “المفكّرين” نظيرًا لها.. وإن كنت أعتقد أنّ “إنجازاته” أدنى بكثير من الثروة الهائلة التي تحت يديها.
ولا شكّ أنّ “العالمانية الملتحية” قد صارت عاجزة عن إخفاء تنكّرها لأصول الإسلام، بل ما عادت تذكر مصطلحات “العقيدة” و”البراء” و”الشريعة” و”الردّة” وغيرها من رؤوس المباني الشرعية في أدبيّاتها. وإنّما انغمست في خطاب “محايد” في مفرداته؛ لا يختلف عن خطاب الليبراليين في كثير من أوجهه، ولا حدود له غير “العادات والتقاليد” و”العيب” و”الأخلاق العامة”.
تبيان: يحتج المنافحون عن العلمانية والديمقراطية بفقه الرخصة، كيف نضبط فقه الرخصة في واقع متغير وسطوة نموذج خارجي، وكيف يتداخل فقه الرخصة مع النظرة المقاصدية لإنتاج دين جديد؟
باب “الرخصة” أعظم المعضلات الدعوية اليوم، فقد تحوّلت بعض التيّارات الدعوية من “فقه التدرّج” إلى “فقه التدحرج”، ومن شعار التدرّج في تطبيق الإسلام إلى حقيقة التدرّج في علمنة الدين.
والمقاصدية لم تكن يومًا منهجًا للفتوى، وإنّما هي جزء من النسيج التقليدي الأصولي لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، وإنتاج “مدرسة مقاصدية” تقابل “المدرسة النصيّة”؛ هو إحداث لخرق في السفينة، وليس بابًا للخلاص من أزمة الفتوى الغافلة عن طبيعة الواقع.
إنّ أزمة الدعوة اليوم تظهر في تحوّل “الرخصة” إلى “عزيمة”، أي الخروج من “فقه الأزمة” إلى انحراف البوصلة.
تبيان: ما دور غياب مركزية الوحي والدين في التعليم والإعلام والنظم الاجتماعية على إنتاج أجيال قابلة لمركزية الإنسان أو العقل أو المادة؟ وما هو أثر سحر المصطلحات الوافدة على المفاهيم الشرعية وكيف يمكننا استعادة صفاء النص الأول؟
إزاحة الوحي عن مركز الرؤية الكونية أصل كلّ ما نعاني؛ فإنّ أزمتنا، أزمة هويّة؛ ولذلك فالخروج من هذه المحنة عبر البحث عن “دولة الرفاه”؛ دون تصحيح المفاهيم، سبب لتزييف الوعي، وتعميق الأزمة.. وهذا ما نراه في بعض الأطروحات على الساحة.
وأشدّ ما يكون مشروع إلغاء مركزيّة الوحي خطورة، عندما يكون خفيًا، مستترًا بعناوين توهم بالحياد؛ في حين أنّ هذه المشاريع، هي توّجهات لادينية، سواء كانت عالمانية ليبرالية، أو علموية مادية، أو فردانية فوضوية.
ولا شكّ أن تمرير كثير من المصطلحات الأجنبيّة عن التراثين العقدي والتشريعي للأمّة؛ قد غبّش على هذا الجيل فهمه لرسالة الوحي. ومن أظهر الأمثلة على ذلك مفهوم “التسامح” المقابل “للتعصّب”؛ فقد خرج عن الدلالة الأثريّة للتجاوز عن المسيء حين قوّة، إلى التنازل عن الهوية خضوعًا لمطالب التجمّل بمعاني حقوق الإنسان التي صاغها الرجل الغربي بوحي من رؤية كونيّة ماديّة، نفعيّة، لا تؤمن بتميّز المؤمن عن الكافر، وعلوّ الإيمان على الكفر، وواجب صيانة عقائد الناس من الفتن؛ وفاءً للحقّ الذي جاء به الوحي.
تبيان: تواجه الأمة المسلمة حاليًا عداءً صارخًا من الحكومة الفرنسية تزامنًا مع إعلان الحكومات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، كيف تقرأ تزامن الحدثين وكيف يمكن مواجهة الاثنين؟ وكيف تستقرأ تداعيات كل منهما؟
قلتها مرارًا: ما كانت فرنسا لتجترئ على العدوان على الإسلام لولا عدوان الأنظمة العربية على قطعيات الدين (خاصة في الغرب الإسلامي، وبالذات في تونس أيّام بورقيبة الذي جرّم ارتداء الخمار، وخلفه ابن علي).
وأمّا أمر مواجهة الهجمة الفرنسية على الإسلام والتطبيع؛ فسبيله الرئيس بيان الوجه العقدي لهما، وإحياء روح الممانعة، والاستعلاء على دعوات التثبيط واليأس.
وليس للمسلمين في مواجهة الإجرام الفرنسي سوى دفع المسلمين في الداخل إلى الاستماتة في المطالبة بحقوقهم، والجهر بذلك، والتشنيع المستمر في كل محفل على حملات التفتيش التي تُقاد ضدهم، وفضح كل الخونة الذين يتصدرون المشهد من أدعياء الإسلام للتنازل عن حقوق المسلمين.
وعلى المسلمين في الخارج دعمهم، وإشهار قضيتهم، والاستمرار في المقاطعة الاقتصادية، وتوسعتها لتشمل المقاطعة الفكرية للوافد التغريبي. والتنبيه أنّ التيّار التغريبي في بلاد المسلمين لا يعِدنا بغير ما تفعله فرنسا في المسلمين، وإن رفع شعار الحريّة وحقوق الإنسان.
تبيان: كيف ترى المرأة المسلمة في قلب المعركة مع التيارات الغربية؟ ما الذي ينقصها وما الذي يتهدّدها؟ وبم تنصحها؟
المرأة منذ بداية القرن الرابع عشر الهجري وإلى اليوم، في قلب المعركة، في الخطاب العالماني، والإلحادي الدهري، والتنصيري.. وقد اتّخذ الأمر صورة أحدث وأعنف مع تغوّل التيارات النسوية في الغرب، وتماهي الأنظمة العالمانية العربية مع الاتفاقيات الدولية والمنظمات الغربية الداعية إلى فصل المرأة عن جنسها بظهور مفهوم “الجندر”، وفصلها عن لحمة الزوجية بسيادة المفهوم الدارويني للعلاقة الأسريّة، وفصلها عن الأبناء بتهوين وظيفتها الأولى أمام عينيها، وهي تربية الأولاد.
ولعلّ من أخطر ما نعانيه اليوم، ظاهرة “أسلمة النسوية”؛ رغم أنّ النسوية فرع عن رؤية كونيّة مصادمة بصورة بيّنة للإسلام، وبعض أوجه المواجهة الداخليّة للنسوية، لا تزيد النسويّة إلّا جاذبية؛ بتحويل المعركة بين الإسلام والنسوية إلى معركة بين النسويّة والذكوريّة، وهو ما يلغي حقيقة هذا الصراع، ووجهه العقدي.
وإنّ أعظم سبيل لمواجهة النسوية هو إدراك أنّ طريق رفع الظلم عن المرأة في العالم العربي، بمنعها من الميراث أو إعضالها -مثلًا- حق وواجب، ولكن يجب أن يتمّ ضمن الأطر الإسلامية البحتة، وأنّ الحل النهائي هو في صناعة “الإنسان المسلم” الذي لا يَظلم خوفًا من سطوة القانون والسجون والإلزام القهري بدفع نفقة الأولاد، وإنّما بدافع الالتزام بالشرع، نحن نحتاج أن ندرك أنّ المطالب الشرعية، لا بدّ أن يكون طريق استردادها شرعيًا، وأنّ معركة المسلم هي فقط معركة حق وباطل لا معركة جنس في مواجهة جنس آخر.
تبيان: ما هي الاستراتيجية التي على المسلمين اتباعها لتجاوز تحديات الدعوات الغربية وللخروج من مرحلة الضحية إلى مرحلة التأثير والبناء؟
هي الوعي أنّ الإسلام رؤية كونيّة وليس مجموعة مقولات لاهوتية وبعض تنبيهات تشريعية في المنع والزجر كما هو الأمر في التصوّر الشعبي للإيمان -للأسف الشديد-.
والوعي بحقيقة الرؤية الكونية للإسلام سبب لطلب تعميق القناعة بها من خلال معرفة أدلّتها، وتميّزها، وفاعليّتها، وكلّ ذلك طريق إلى الوصول إلى “الاستعلاء الإيماني” الذي يملك المسلم به وحده -مستعينًا بالله- أن يواجه غرور الفكر الغربي وإغراءه.
تبيان: ما هي التوجيهات التي يقدمها د. سامي للعاملين في مجال مقارنة الأديان والرد على الشبهات ومجال الدعوة في شبكات التواصل الاجتماعي؟
هذا سؤال جوابه يطول.. وسأكتفي هنا بكلمتين:
الكلمة الأولى: الدعوة تحتاج إلى طبقتين من العاملين في دراسة الأديان والشبهات: الطبقة الأولى، هي أهل النظر والبحث العلمي. ووظيفتهم حصر المواضيع التي تتطّلب أجوبة أو دراسات موسّعة ومعمّقة، ثم تناولها بأسلوب علمي رصين يستفيد منه بالدرجة الأولى الدعاة والمثقّفون. والطبقة الثانية تعتني بالإفادة ممّا يقدّمه الأوّلون؛ لتبسيطه للناس، وعرضه في قالب شائق وماتع.
وسبب وجوب التمييز بين هاتين الطبقتين، أنّ العلوم قد توسّعت، وتشابكت؛ والبحث الواحد قد يقتضي العاكف عليه جمع علوم شتى، بلغات شتّى، من عصور شتّى… وهذا لا يطيقه -عادة- من يخالط الناس، ويجالسهم لسماع شبهاتهم والإجابة عنها.
وليس من الواقعية أن تطلب ممن يهتم بالمحاضرة ومخالطة الشباب أن يستبقي من يومه عشر ساعات للقراءة والبحث والمراجعة وتتبّع كلّ جديد في عالم الكتب والمقالات، كما أنّه من النادر -بالاستقراء، وكما ذكر ذلك بعض الأعلام- أن تجد من يُحسن البيان بالكتابة واللسان معًا، والحديث إلى العامة لتبسيط المعارف، وتقريبها إلى الأذهان يطلب أكثر من المعرفة؛ إذ يحتاج المتحدّث إلى كاريزما لا تُكتسب عادة، وإنّما هي من سجيّة المرء.
الكلمة الثانية: من المسائل الخطرة التي لا بدّ من التنبيه إليها في عالم الردّ على الشبهات، خطر الانسياق وراء تبسيط المعلومة حتّى يكاد يخلو الحديث من فائدة دسمة؛ لأنّ المستمع صار يطلب الجواب المباشر لا التأصيل، والشكل المغري أكثر من المادة الدسمة، والاختصار لا الإفاضة والبيان.
هذا النوع من الخطاب الدعوي مفيد بلا شك؛ لأنّه مطلوب بكثرة، وقادر على الوصول إلى طبقات واسعة من السامعين في ظل المزاج المعاصر العَجِل؛ لكنّ الإسراف في هذا الباب سيعمّق أزمة الجيل؛ فإنّ الدعوة تحتاج أن تقوم بالأساس على بناء الشخصية المسلمة السوية، والبناء عمل أعظم من الأجوبة السريعة البسيطة على الشبهات الحادثة.
ولذلك يظلّ الشاب الذي لا يهتم بالتأصيل المعرفي، أسيرَ الشبهات، كلّما وجد جوابًا لشبهة؛ جدّت له شبهة ثانية يسارع إلى طلب جوابها.
تبيان: ما هي أمنية د. سامي عامري التي يرجو أن تتحقق؟
هي مجموعة أمنيات؛ لعلّ أهمها:
- أن يتحوّل العمل الدعوي من المبادرة الفرديّة إلى العمل المؤسسي.
- أن ينتشر الوعي الحقيقي بين أثرياء المسلمين؛ حتى نرى مؤسسات فكرية وإعلامية إسلاميّة -نسبة إلى الإسلام لا “الإسلاميين”- بإمكانيات ضخمة، قادرة على الدخول في حوار فكري عميق مع رؤوس التيارات الفكرية والدينية في الغرب، وإشاعة رسالة الإسلام بين النخب الغربية.
- أن تتحوّل الأقسام التخصصية في الأديان والمذاهب المعاصرة في العالم الإسلامي إلى محضن حقيقي للعلم والتخصّص والدعوة.
- أن تتخلّص الدعوة من ثقافة “الأقدميّة” في العمل الإسلامي إلى قاعدة تقديم الأصلح.
- أن يحصل تقارب معرفي أشدّ بين الدعاة في العالم العربي وشبه القارة الهندية وأندونيسيا وماليزيا وإفريقيا.
- أن تنجح الدعوة في رسم الخط الأحمر الذي لا يجوز لتيار إسلامي أو رمز دعوي تجاوزه في عالم الرخصة.
- وأمّا على المستوى الشخصي؛ فلا شكّ أنّ الأمنية هي حسن الخاتمة.
تبيان: هل من كلمة أخيرة لجمهورنا نختم بها اللقاء.
جزاكم الله خيرا على اللقاء، وهذه الأسئلة العميقة التي حولها يجب أن يدندن الخطاب الإسلامي في معركة الوجود اليوم؛ “حتّى لا تكون فتنة”!
نشكر د. سامي عامري جزيل الشكر لتلبيته دعوتنا في إجراء هذا اللقاء، ونسأل الله أن ينفع بجهده وعلمه ويوفقه ويتقبل منه.
(المصدر: موقع تبيان)