مقالاتمقالات مختارة

تاريخ جمع السنة و تدوينها

بقلم فهد مولاطو

بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على من بعثه الله رحمة للعالمين و على آله و صحبة الغر الميامين و على من اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد، فهذا مقال مختصر يعنى بإظهار بعض الحقائق و تجلية بعض الخفايا التي ينبغي أن يعلمها و يتسلح و يتترس بها كل مسلم في وقت باتت فيه الشبهات تعرض صباح مساء، تلتقطها الأسماع و تتشربها القلوب، شبه عفا عليها الزمن و لكن وجدت المكان خاليا و المحل مواتيا فبيضت و ريشت.

سأتطرق في هذا البحث إلى سرد تاريخ مختصر لمراحل جمع السنة و تدوينها معززا بنقول و روايات دون استيعاب لكن لتدل على غيرها، بحثا يتخلله مواقف و نقول تبين مدى اعتناء علماء المسلمين بها عبر العصور. سيأخذنا هذا المبحث إلى سبر و تحرير طرق علماء الحديث لحفظ السنة و خدمتها ضبطا و رواية و تدوينا و تأليفا لعل هذا يوفي بعض حقهم علينا فقد رأينا من يزعم نصرة الدين فيطعن في السنة أو يشكك فيها أو يدعو لمراجعة نصوصها أو يتهجم جهلا على بعض جهابذتها و فرسانها المغاوير، مراجعة لا ترتكز على منهج علمي مؤصل و لا على قواعد عقلية مستقيمة و إنما هو الهوى و الجهل و حب الظهور، و من أراد التوسع فعليه بدراسة الشيخ حاكم المطيري حول تاريخ تدوين السنة التي استفدت منها كثيرا في بحثي هذا و بكتاب دراسات في الحديث النبوي للشيخ مصطفى الأعظمي.

السنة هي المصدر الثاني للتشريع و لا غنى للمسلمين عنها لفهم كتاب ربهم فهي الحكم في فهم نصوصه و تبيين مجمله و تحديد ناسخه من منسوخه و التأويل أي التطبيق العملي لأوامره، قال تعالى (و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون)، و قد تطابق المسلمون من لدن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يوم الناس هذا على تحكيمها و العمل بها في أمور دينهم أمرا و نهيا و إباحة، قولية و فعلية و إقرارية، عملا بأمر ربهم  الذي أمر بالرجوع إليها و بتحكيمها عند الاختلاف حيث يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر، و قال فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما، و قال و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا.

فتدبر لو لم يكن في السنة الغناء و الحجة، هل كان الله يأمر بالتحاكم و بالرجوع إليها عند التنازع، ثم انظر لو لم تكن فيها الكفاية، هل كان الله يكل إليها مهمة تفصيل أحكام أهم عبادتين عمليتين الصلاة و الزكاة، فضلا عن غيرها حيث لم يتعرض القرآن لتفاصيلها؟ و عليه فمن آمن بقدسية القرآن وجب عليه الإيمان بالسنة.

و ما زالت كل فرقة من فرق الإسلام مهما اختلفت مشاربها تفخر و تعتز بالإنتساب لها و الإنتماء إلى أهلها و ترى الذم و العيب على من خرج عليها.

و لخطير أمرها و كبير شأنها فقد رأينا الصحابة يبذلون الجهد لحفظها و الإعتناء بها، فها هو جابر بن عبد الله يسافر من المدينة إلى الشام طلبا لحديث واحد، و ها هم الخلفاء و القضاة و المفتون ينتهون عند أحكامها فقد كان الخلفاء إن أعيتهم واقعة من الوقائع سألوا الصحابة هل لهم فيها من سنة فإن وجدت انتهوا إليها، بل كان أحدهم يرجع عن فتواه إن علم أن في المسألة حديثا يخالفها. خذ كمثال حكم أبي بكر في الجدة، و رجوع عمر عن رأيه في واقعة الاستئذان و عمله في الطاعون بعد ما استشار الصحابة، و الأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى. و قد ورث هذا الإعتناء عن الصحابة تابعوهم حيث يقول الإمام عامر الشعبي الكوفي لتلميذه بعد أن روى له حديثا (خذها بغير شيء و قد كان الرجل يرحل فيما دونه إلى المدينة).

و قبل أن نبدأ البحث، تجدر الإشارة إلى الفرق اللغوي بين لفظ الكتابة و بين مصطلحات كالتدوين و التأليف و التصنيف، فالكتابة تدل على مجرد الرقم و الخط بينما المصطلحات الأخرى تدل على معاني زائدة كالجمع و التبويب و الترتيب على اختلاف بينها، فينبغي التفطن لهذه الفروق حينما نقرأ قول بعض المحققين كابن حجر : ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار و تبويب الأخبار…، أو قول غيره : أول من دون العلم و كتبه ابن شهاب أي الزهري (من 50 إلى 123)، فالكتابة كما سيأتي ابتدأت في عهده عليه الصلاة والسلام و أما التصنيف و التدوين فتأخر كما نقل.

فلنشرع في صلب الموضوع و ليكن ذلك بتقسيم مراحل جمع السنة إلى فترات زمنية تميزت كل منها بخصائص سنحاول إبرازها و تسليط الضوء عليها.

المرحلة الأولى : من بعثته صلى الله عليه و سلم إلى وفاته، و تعنى بجهود النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته لحفظ السنة و جمعها و العناية بها خلال هذه الفترة.

فلنعرض ما ميز هذه المرحلة من مظاهر حفظ السنة في ثلاثة أبواب كل مكمل للآخر.

أ. باب العناية النبوية بالسنة المحمدية
لقد تجلت العناية النبوية بالسنة الشريفة في مظاهر عدة، نذكر من أهمها:
1. لينه و صبره في التعليم
لقد كان رسول الله لينا رفيقا رقيقا رحيما في تعامله كله و في تعليمه خاصة، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا نذكر مثالا منها ليدل على ما سواه. جاء في صحيح مسلم أن معاوية بن الحكم تكلم في الصلاة فوصف تعليمه صلى الله عليه وسلم إياه بعد أن حكى إنكار الصحابة عليه فعله حيث قال فبأبي هو و أمي ما رأيت معلما قبله و لا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني و لا ضربني و لا شتمني ثم ساق الحديث.

2. أمره بتتبع و تعلم السنن
أمر النبي صلى الله عليه و سلم الصحابة بالاقتداء به و بتعلم طريقته في كثير من المواقف من مثل قوله صلوا كما رأيتموني أصلي أو قوله خذوا عني مناسككم، و ما زال الصحابة يقتدون به و يتقفون أفعاله كلها حتى صار هذا الأصل راسخا عندهم. و قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم السنة سببا لاستحقاق الإمامة في الصلاة بعد القرآن، حيث جاء في حديث أبي مسعود في صحيح مسلم فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة إلى آخر الحديث. و أمثلة تتبع الصحابة لهديه و سنته كثيرة أكثر من أن تحصى.

3. تحذيره من مخالفته صلى الله عليه و سلم
لقد حذر النبي بل غضب على من رغب عن الاقتداء بسنته كما جاء في الصحيحين قوله من رغب عن سنتي فليس مني، و كما خطب في الناس بعدما علم أن ناسا يتورعون في بعض ما ترخص فيه، فقال و الله إني أعلمهم بالله (أي بما اتقيه به)  و أشدهم له خشية.

4. تعليمه الوفود

لقد كانت المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم منبع الوحي و مركز العلم، و كانت الوفود تأتي تترا مُعلنةً لإسلامها طالبة لتعلم دينها أو سائلة عن الدعوة الجديدة مستعلمة عن مضمونها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم جاهلهم و يجيب مستخبرهم بما يقر عينه و يشرح صدره للإيمان و دعوة الإسلام. و وقائع تعليم الوفود في السيرة مشهورة كثيرة، منها و وفد الأشعريين و وفد قبيلة طيء و وفد ضماد بن ثعلبة و وفد نجران الذي بعث معهم أمين هذه الأمة الصحابي أبا عبيدة ابن الجراح لتعليمهم و غيرهم.

  1. أمره بتعليم الأهل و العشيرة
    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الوفود إذا انقلبوا إلى ديارهم أن يعلموا أهليهم و قومهم إذا رجعوا إليهم كما أمر بذلك رسول الله وفد عبد القيس و مالك بن الحويرث و أصحابه عندما وفدوا عليه و تعلموا منه، جاء في البخاري عن مالك بن الحويرث قال و كان ( أي رسول الله)  رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال ارجعوا فكونوا فيهم و علموهم…6. تكريره و إعادته الكلام
    كان رسول الله كما قال أنس إذا تكلم أعاد الحديث ثلاثا حتي يُفهم عنه، كما أُثِر عنه تكرار العديد من الخطب و الأدعية كخطبة الحاجة عن ابن مسعود، و كمستهل خطبة الجمعة كما روى جابر في صحيح مسلم، او تكراره نفس الدعاء عند مفارقته لأصحابه. كما كان من عادته صلى الله عليه و سلم أن يكرر الكلام المهم في مناسبات مختلفة و أوقات عدة كي يحفظه عنه من سمعه و كي يسمعه منه أكبر عدد ممكن من الصحابة، خذ مثالا على ذلك ما قاله أبو أمامة بن سهل كما عند الترمذي بعد أن سئل عن حديث هل سمعه من رسول الله فأجاب، لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى بلغ سبعا ما حدثتُكُمُوه.

    7. تثبته من حفظ الصحابة
    كان النبي صلى الله عليه و سلم يتثبت من حفظ بعض أصحابه لما كان يلقي عليهم من السنن و الأذكار كما استظهر البراء بن عازب دعاء النوم بعد أن لقنه إياه الرسول فلما أخطأ في لفظ حيث قال في الدعاء ‘و برسولك الذي أرسلت، عوض ‘و بنبيك الذي أرسلت’ قال له رسول الله صلى الله عيه و سلم ﻻ بل بنبيك الذي أرسلت مع أن اللفظين متقاربان، و كذلك قول جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه و سلم كان يعلمهم الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن و الحديثان في البخاري، ومن هذا الباب قول ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُحَفِّظُنا التشهد كما يحفظنا السورة من القرآن.

    8. أمره بتبليغ السنن
    أمرالنبي صلى الله عليه و سلم بالتبليغ عنه، تارة بأمر الوفود بتعليم أهليها كما مر، و تارة بأمرٍ عامٍّ كما ورد في خطبة حجة الوداع أمام عشرات الآلاف من الصحابة الكرام بلفظ ‘فليبلغ الشاهد منكم الغائب’ عند نهاية خطبته الشهيرة في الدماء و الأعراض.

    9. دعاؤه لمن بلغ السنن
    أخرج الترمذي و ابن ماجه في حديث صحيح قوله صلى الله عليه و سلم ‘نَضَّرَ الله امرأً سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى له من سامع’.

    10. إذنه بكتابة حديثه
    أَذِن عليه الصلاة و السلام للصحابة بالكتابة عنه كما جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو قال ‘كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق’، و ها هو أبو هريرة رضي الله عنه يشهد له بالسبق حيث يقول ما أحد أكثر مني حديثا إلا ابن عمرو فقد كان يكتب و لا أكتب.

    11. كتابته للسنن
    أمر صلى الله عليه و سلم بكتابة السنة حيث أمر بكتابة إحدى خطبه بعدما فتح مكة لصحابي اسمه أبو شاه فقال اكتبوا لأبي شاه، أخرجه البخاري و مسلم، و كذا كتب صلى الله عليه و سلم بعض السنن و بعث بها مع بعض عماله كما كتب لعمرو بن حزم بصحيفة أرسلها إلى أهل اليمن فيها الديات و الجنايات و الفرائض و السنن و هو كتاب مشهور عند أهل العلم، وفي النقطتين الأخيرتين دلالة واضحة على وجود كتابة السنن في عهده عليه الصلاة و السلام.

    12. ذمه لمن رد السنة
    ذم عليه الصلاة و السلام من رد السنن اكتفاء بالقرآن حيث جاء من قوله مبينا أهمية السنة و مكانتها ‘لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه’ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه و هو صحيح و جاء قوله مبينا لمكانة السنة و أن لا غنى للمسلمين عنها كما لا غنى لهم عن كتاب الله ‘ألا إني أوتيت الكتاب و مثله معه’، أخرجه أبو داود عن المقدام بن معدي كرب، و هو صحيح أيضا.

    13. دعاؤه بالحفظ لبعض الصحابة
    دعا النبي لبعض الصحابة بالحفظ كما دعا لأبي هريرة بحفظ مقالته بعدما قالها و أن لا ينساها.

    14. مدحه لمن حرص على تعلم السنن
    لقد شهد صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بالحرص على الحديث و مدحهم بذلك حيث جاء في البخاري عن أبي هريرة أنه قال ‘قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث’ ثم ساق الجواب.

    15. تحذيره من الكذب عليه
    لقد اشتهر بل تواتر عند أهله قول رسول الله (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، و ورد بلفظ (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

    16. إرشاده إلى تداول الحديث
    أرشد النبي عليه الصلاة و السلام إلى سماع الحديث ثم تبليغه ثم إلى تبليغ من سمعه إلى آخره، فقال كما في الحديث الصحيح في السنن عن ابن عباس أنه قال صلى الله عليه و سلم (تسمعون و يُسمع منكم و يُسمع ممن سَمِع منكم).

    هذه بعض الخلال تنبئك عما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حرص على حفظ السنة و نشرها و الإعتناء بها.

    ب. باب صفات الصحابة و مظاهر عنايتهم بالسنة
    1. الأمة الأمية
    لقد كان من صفات العرب قبل الإسلام أنهم قوم أميون معظمهم لا يجيد الكتابة و تعاطي العلوم السائدة آنذاك من فلسفة و فلك و رياضيات و هندسة و طب، و كان جل ما يجيدونه البيان و حسن الكلام نثرا و شعرا حتى كانوا يعقدون المجالس للتباري فيه في أسواقهم و مجامعهم كعكاظ و ذي المجاز، و قد كان خلوهم من تلك العلوم سببا هيأهم للتجرد لتلقي الوحي من قرآن و سنة دون أن يخلطوا معهما غيرهما مما ساهم في حفظ هذا الدين و فهمه و تبليغه.

    2. الأمة الحافظة
    كان العرب قوما ديدنهم حفظ القصائد الطوال و ترديدها في المحافل العظام، فقلما تجد وجيها من وجهائهم إلا و ألفيته يحفظ عشرات بل مئات الأبيات الشعرية التي كانت الوسيلة المتبعة عندهم لتناقل الأنساب و الأحداث و الأمجاد، حتى لإنك تجد الجواري الصغار لهن نصيب من ذلك، جاء في الصحيح أن جوارٍ كُنَّ يتغنين بما تقاولت الأنصار يوم بعاث عند عائشة رضي الله عنها و رسول الله في البيت.

    3. الأمة الصادقة
    كان من خصائص العرب آنذاك الأنفة من الكذب و إن كان يخدم أغراضهم و مصالحهم كما لم يَجْسُرْ أبو سفيان بن حرب على الكذب عليه صلى الله عليه و سلم عند هرقل عظيم الروم في وقته عندما كان يستخبره عن رسول الله و صفاته و دعوته، فصدقه أبو سفيان على مضض و قال لولا أن يُؤْثَرَ علي الكذبُ لَكذبتُ… فإن أَضفتَ إلى ذلك تحذيره صلى الله عليه و سلم إياهم من الكذب عليه و توعده بالعذاب من فعل ذلك متعمدا مع خوف الافتضاح حيث كان غالبا ما يحضر كل خطبةٍ و تعليمٍ طائفةٌ من الصحابة، علمتَ أنه لما أمرهم بتبليغ دينه و نشره كانوا أبعد الناس عن الكذب و ألزمهم للصدق و الأمانة.

    4. حبه و تعظيمه صلى الله عليه و سلم
    كان رسول الله أحب الخلق إلى الصحابة و من اطلع على سيرة القوم رأى العجب من أمثلة الحب، و خذ مثالا يدلك على ما وراءه، هذه قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: “أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟”، قال: “والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي”، فقال أبو سفيان: “ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا”، فلينظر أحدنا إلى هذا الموقف و ليقف مع نفسه و ليَقِسْ حبه له صلى الله عليه وسلم بحب هذا الصحابي الجليل، ثم ليزن هذا الحب بميزان الإتباع، و ليعلم قدر نفسه و ليعلم للصحابة قدرهم و سبقهم .
    و كان رسول الله أهيب الناس إليهم حتى قال عمرو بن العاص ما ملأت عيني من رسول الله هيبة له، و ها هو عروة بن مسعود الثقفي يفد عليه مفاوضا عام الحديبية قبل أن يسلم، فيرسلها شهادة للتاريخ فيقول “أيُّ قومٍ! و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي و الله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا”. كل هذا الحب و التعظيم كان سببا لتتبعهم أحواله صلى الله عيه و سلم من جهة، و من جهة أخرى وازعا يزعهم عن الكذب عليه.

    5. ورعهم و تقواهم
    كان صحابة رسول الله خير الناس حيث مثلوا خير قرن كما جاء في حديث خير الناس قرني، قوم هجروا الأهل و المال و الوطن نصرة لله و رسوله،و من أراد أن يملأ قلبه حبا و إجلالا لأولئك العظام فما عليه إلا أن يطالع بعض سيرهم و أخبارهم و جهادهم، قوم ما زادتهم الزلزلة الشديدة إلا إيمانا و تسليما كما وصفهم ربهم، فإن علمت بعد ذلك أنهم كانوا يرون تبليغ السنة دينا و عبادة حتى كان عدد منهم يهاب فيترك الرواية عنه تورعا مخافة الخطأ في التبليغ و لو لم يكن متعمدا، علمت أنهم كانوا أشد الناس احتراسا في التبليغ و مبالغة في النصح و التدقيق. و قد قال أبو هريرة لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم، ثم قرأ (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و يشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) الآية.

    6. حُسن التلقي
    كان الصحابة كما أثر عنهم أحسن الناس تلقيا حيث كان منهم من لا يجاوز عشر آيات حتى يعلم ما فيها من العلم و العمل، فإذا علمت أن العمل بالكتاب تُفَصِّله السنة و تُبينه علمت أن الصحابة تعلموا الكتاب و السنة معا جنبا إلى جنب، لا يستغي أحدهما عن الآخر، تعلما متأنيا متدرجا يرسخ في الفؤاد رسوخ الجبال الرواسي.

    7. الحرص على حضور مجالسه صلى الله عليه و سلم
    حرص الصحابة على حضور السنن حيث كان أحدهم يتناوب الحضور لمجالسه صلى الله عليه و سلم مع جاره هذا يحضر يوما و هذا آخر ثم يخبر الذي حضر الذي غاب بما استحدث من السنن لكي لا يغيب عليهم منها شيء كما جاء في الصحيحين من فعل عمر رضي الله عنه مع جاره.
    و كذا حرص بعضهم على التفرغ لحضور كل مجالسه صلى الله عليه و سلم حيث جاء في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال ‘كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله صلى الله عليه و سلم على ملء بطني و كان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق و كانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم’ ثم قال فأحضر اذا غابوا و أحفظ اذا نسوا.

    8. التناقل و التبليغ
    لقد حرص الصحابة على تبليغ السنن حتى في عهده صلى الله عليه و سلم، و أمثلته كثيرة جدا جدا لمن تتبعها، فكل من عَلَّم أحدا الصلاة لا بد و أن يستعين بالسنة، و كل من علم الزكاة كذلك إلى آخر الشعائر الأخرى، فقد بدأ هذا التبليغ حتى قبل الهجرة عندما بعث رسول الله سفراءه إلى المدينة ليعلموا أهلها الإسلام كمصعب بن عمير و عمار بن ياسر. و ها هو صلى الله عليه و سلم يبعث بعض أصحابه إلى الأمصار ليعلم الناس السنن من مثل أبي عبيدة و معاذ و أبي موسى، و ها هو عمر مع جاره يبلغ كل منهما ما غاب عن الآخر كما مر.

    9. السؤال عن السنن و التثبت
    كان الصحابة من أحرص الناس سؤالا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عما لم يعلموا، فكان أحدهم يسأل عن الخير، و الآخر عن الشر مخافة أن يقع فيه، و الآخر متخصص في الفتن، و الآخر في الفرائض و هكذا. فكانوا كلما عَنَّ لهم فهمُ شيءٍ أو أرادوا التثبت من شيء سألوا عنه، خذ مثالين يدلان على غيرهما، ها هو أبو هريرة يسأل عن السكتة في الصلاة ما يقول فيها رسول الله و لِمَ يسكتها، و ها هو سراقة يسأل عن إحلالهم و هم معه صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع أهو لعامهم ذاك فحسب أم لأبد الأبد، و ها هي أم المؤمنين أم سلمة لا تنتظر برسول الله حتى يفرغ من صلاته التي صلاها في بيتها بعد العصر على غير عادته لتسأله، بل ترسل جاريتها إلى رسول الله بأبي هو و أمي و هو في صلاته لتستخبره عنها. و أمثلة هذا الباب كثيرة جدا جدا، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصهم على فهم الدين و تحققه عبر جواباته صلى الله عليه و سلم و تفسيراته التي ما هي إﻻ ما نطلق عليه “السنة”.

    10. كتابة السنن
    كان لبعض الصحابة كتب يحفظون فيها السنن، فها هو عمرو بن العاص يكتب كل ما سمع من رسول الله كما مر، وها هو علي يقول أن له صحيفة عن رسول الله فيها العقل أي الديات كما هو مخرج في البخاري، و ها هو كتاب أبي بكر في مقادير الزكاة كما هو مخرج في البخاري كذلك، و هذه الأمثلة تدل على أقل تقدير أن أمر الكتابة كان موجودا مشهورا و إن لم يكن فاشيا.

    ج. باب صفات السنة و خصائص الخطاب النبوي التي ساعدت على حفظه
    1.الفصاحة
    كان رسول الله أفصح العرب و أوتي جوامع الكلم حيث كان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه كما وصفته عائشة رضي الله عنها، يستعمل من الكلام أبينه و من اللفظ أجزله. و إليك واقعة تدلك على مدى تأثير هذه الفصاحة على العرب آنذاك، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال فلقيه فقال يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد قال فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس (أي قعره من عمقهن و نفاذهن و حسنهن) البحر قال فقال هات يدك أبايعك على الإسلام.

    2. التنجيم
    لم ينزل الوحي كتابا و سنة جملة واحدة، و لكن نزل مفرقا و منجما خلال ثلاث و عشرين عاما، نزولا مفرقا كان بمثابة الدواء للسقام و الري للظمآن، مما جعل الصحابة يتشربونه جرعة جرعة حتى وعته القلوب و فقهته الأفئدة. و لا يخفى ما لهذا النزول المتأني من أثر في تسهيل الحفظ و الضبط.

    3. النزول حسب الأحداث
    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتيا قاضيا حاكما و قائدا مُدةَ لَبْثِهِ بين أصحابه، فما من حدث أو واقعة إلا علق عليها أو حكم فيها بحكمه، و هذه التعاليم حيث تأتي حسب الوقائع مما يساعد على التذكر و الحفظ و الضبط. فتدبر كيف ينسى عبد الله بن عمر حكم رسول الله فيمن طلق امرأته و هي حائض و قد أفتاه النبي حين وقع في ذلك، و كيف ينسى الصحابة صفة صلاة الخوف و قد فعلوها مع رسول الله مرارا، و لذلك رجح المحدثون رواية من باشر الواقعة على من لم يباشرها، و رجحوا رواية من كان سببا في نزول الحكم على غيره لأنه أولى بالحفظ و الضبط، و لذلك رجحوا رواية ميمونة في كون رسول الله تزوجها و هو حلال على رواية ابن عباس على أنه تزوجها و هو محرم.

    فانظر يرحمك الله كيف هيأ الله كل هذه الأسباب لحفظ دينه و سنة نبيه التي تمثل الشرح التفصيلي و البيان العملي التطبيقي لكتابه عز و جل،، ثم اقرأ (إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون)، و اقرأ (الله أعلم حيث يجعل رساﻻته).

    خاتمة لما يتلخص من هذه المرحلة :

    . رسوخ مكانة السنة و كونها مكملة للدين مبينة لكتاب رب العالمين
    . حثه صلى الله عليه وسلم على تعلم السنن و تتبعها فعلية و قولية
    . ظهور طريقة الحفظ و التحفيظ
    . استعمال وسيلة التقييد بالكتابة
    . ظهور وسيلة الرواية لتبليغ السنن
    . أمره صلى الله عليه و سلم بتبليغ السنة
    . من أسباب تيسر حفظ السنة، نزولها مفرقة حسب الوقائع و الأحداث على قوم أميين اعتادوا الحفظ و صدق الحديث

    هذا و قبل الانتهاء من هذه المرحلة و جب التطرق إلى توجيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه، جاء هذا النهي من رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم, و رد العلماء دلالته على النهي المطلق من وجوه، فنقول:

    أولا أن الحديث معلول أي غير صحيح و قد ضعفه طائفة من كبار المحققين على رأسهم الامام احمد و البخاري حيث حكموا عليه بالوقف، أي أنه من قول الصحابي و أن من نسب الكلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم من الرواة فقد أخطأ
    ثانيا أن الحديث معارض بكل ما سقناه من أمثلة أمره و إقراره و فعله صلى الله عليه و سلم لكتابة السنن فوجب تقديمها على ذاك الحديث الفرد
    ثالثا أن نقول أن كل من قال بصحته من العلماء فقد قال بنسخ حكمه و أن ذلك النهي كان لحكم ظرفية منها عدم اختلاط السنن بالقرآن

    و أما بالنسبة لنهي بعض الصحابة عن كتابة السنن فسيأتي توجيهه عند الحديث عن المرحلة الثانية و ستكون ضمن موضوع المقال الثاني في هذه السلسلة إن شاء الله عز و جل، و الحمد لله أولا و آخرا.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى