تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة -1من 5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
“أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: الآية 75).
“وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (سورة البقرة: الآية 114).
“وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” (سورة يونس: آيات 36-38).
“وَرَأَى (يَعْقُوبُ) حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَ ذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَ ذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ…وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَأَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا عَلَى رَأْسِهِ. وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ إِيلَ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آيات 12-19).
“كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً… فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسًا لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ. بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ، وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ هكَذَا تَصْنَعُونَ” (سفر الخروج: إصحاح 25، آيات 2-9).
“وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ، انْظُرْ! مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ! وَهذِهِ الأَبْنِيَةُ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ»” (إنجيل مرقس: إصحاح 13، آيتان 1-2).
1.مقدّمة
يستمدُّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى المبارك شرعيَّة وجوده ومكانته عند المسلمين من ذكْر الله تعالى فيما أوحى إلى نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) من قرآن يُتلى بقوله “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” (سورة الإسراء: الآية 1)، ومن سُنَّة مطهَّرة أتمَّت رسالة النَّبيّ الكريم وعزَّزت ما نزل في القرآن. أخبرنا النَّبيُّ(ﷺ) أنَّ الْمَسْجِد الْأَقْصَى هو أولى القبلتين، وأنَّه ثالث المساجد الَّتي يُشدُّ إليها الرّحال، كما يرد في صحيح البخاري (1139) وفقًا لما روى الصَّحابي الجليل أبو هريرة (رضي الله عنه وأرضاه) عنه (ﷺ) “لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِد الْحَرَام، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِد الْأَقْصَى”، ولما جاء في صحيح مُسلم (1397)برواية تقول “إنَّما يُسَافَرُ إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ”؛ أي أنَّه (ﷺ) حدَّد موقع الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ليكون مدينة إيلياء، أي القُدس الشَّريف باسمه القديم قبل دخول الإسلام.
أثار مقالٌ نشرته صحيفة عكاظ السَّعوديَّة الشَّهيرة بتاريخ 13 نوفمبر 2020م، عنوانه “أين يقع المسجد الأقصى”، بزعمه أنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ليس في الشَّام، إنَّما في منطقة الجعرانة الواقعة بين مكَّة المكرَّمة والطَّائف شرقي شبه الجزيرة العربيَّة. ويتجاهل مقال عكاظ بذلك حقيقة أنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ظلَّ قبلة المسلمين لما بلغ 16 شهرًا، حتَّى نزول قول الله تعالى “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ” (سورة البقرة: الآية 144). ومن الملفت أنَّ مقال عكاظ يستند إلى رواية أوردها الواقدي في كتابه المغازي تقول “وَانْتَهَى رَسُولُ ﷺ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا; فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ، فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ”. والواقدي (130-207 هجريًّا)، واسمه أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد، مؤرّخ عاش في القرن الثَّاني الهجري؛ أي لم يعاصر النَّبيّ (ﷺ)، وقد اجتمع علماء الحديث النَّسائي والبخاري وأبو داود على أنَّ ضعْف أحاديث الواقدي عنه (ﷺ)، معتبرين أنَّه من أشهر واضعي الأحاديث الَّذين لا يصحُّ الاستناد إلى أقوالهم.
وتجد اللهَ تعالى يختم الآية الكريمة في سورة البقرة (الآية 144) بقوله الفصل “وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ” لينبّه إلى أنَّ أهل الكتاب يعلمون أنَّ قبلة الصَّلاة الحقيقيَّة هي الكعبة المشرَّفة، أوَّل بيت وُضع للنَّاس. غير أنَّ أهل الكتاب، لمَّا انحرفت عقيدتهم عن الشَّريعة الإلهيَّة، تحوَّلوا إلى بيت المقدس، حيث تقع الصَّخرة المشرَّفة، الَّتي يطلقون عليها “ابن شتيه”، أي حجر الأساس، (אבן השתייה)، الَّذي يعتقد اليهود أنَّ عمليَّة الخلْق الأوَّل انطلقت منها؛ وحيث يُعتَقَد أنَّ هيكل أورشليم الزعوم بُني في الألفيَّة الأولى قبل الميلاد وسُمّي “هيكل سليمان”؛ وأُعيد بناؤه في القرن السَّادس قبل الميلاد بعد عودة بني إسرائيل من السَّبي البابلي وعُرف باسم “هيكل زرُبَّابل”؛ ثمَّ جُدَّد في القرن الأوَّل قبل الميلاد ووصل إلى درجة غير مسبوقة من التَّوسعة والتحديث ليُطلق عليه “هيكل هيرودس”، تيُّمنًا باسم الملك الرُّوماني، هيرودس الكبير، الَّذي أمر بتجديد الهيكل، كما تزعم الرُّوايات التَّاريخيَّة الإسرائيليَّة. تتناول هذه الدّراسة قصَّة بناء الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وفق المصادر الإسلاميَّة، مقارنةً بما ورد عن بناء هيكل أورشليم في مصادر أهل الكتاب، مع التساؤل عن مدى تأثير العقائد الباطنيَّة في تقديس اليهود للصَّخرة المشرَّفة، الَّتي تقع داخل مصلَّى قبَّة الصَّخرة بالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وسعيهم إلى تحويل ذلك المصلَّى خصّيصًا إلى هيكلهم الثَّالث. تتطرَّق الدّراسة إلى مفارقة هامَّة، وهي الجدل الثَّائر في الأوساط الدّينيَّة اليهوديَّة بشأن عدم شرعيَّة الصَّلاة على هضبة موريا؛ لغياب أيّ نصّ من الكتاب المقدَّس يؤكّد على أنَّ هيكل أورشليم بُني هناك، ومع ذلك تطالب جماعات “المعبد” المتطرّفة وزير الدّاخليَّة الإسرائيلي ببناء مدرسة توراتيَّة دائمة في المنطقة الشَّرقيَّة في الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وفق ما نشره المركز الفلسطيني للإعلام بتاريخ 16 نوفمبر 2020م.
2.لمحة تاريخيَّة عن تأسيس هيكل أورشليم ودماره
كما يخبر العنوان، تتناول الباحثة البريطانيَّة مارجريت باركر، وهي واعظة إنجيليَّة كرَّست حياتها لدراسة العلوم اللاهوتيَّة وتاريخ المسيحيَّة، في كتابها The Gate of Heaven: The History and Symbolism of the Temple in Jerusalem-بوَّابة السَّماء: تاريخ ورمزيَّة هيكل أورشليم (1990م)، تاريخ هيكل أورشليم والتَّأثير الَّذي مارسه على حياة اليهود على مدار قرون طويلة، حتَّى بعد دماره على يد الرُّومان عام 70 ميلاديًّا. تعتقد باركر أنَّ المسيحيين الأوائل، أو “المسيحيين اليهود” وفق تعبيرها، تأثَّروا بأجواء الهيكل، وإن لم تُتح إليهم فرصة العبادة فيه طويلًا، وترى أنَّ عالم الهيكل ترك أثرًا واضحًا في الإنجيل الرَّابع (إنجيل يوحنَّا) ورسالة بولس الرَّسول إلى العبرانيين سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي (ص1). ضمن جهودها لتأسيس ما أطلقت عليه “لاهوت الهيكل” (Temple Theology)، تقدّم باركر كاتبها آنف الذّكر باعتباره مقدّمة لتلك الجهود، الَّتي اعتمدت على فحْص العديد من المخطوطات اليهوديَّة والمسيحيَّة القديمة الَّتي تناولت الهيكل بالحديث.
تاريخ بناء الهيكل
تعتقد الباحثة الإنجيليَّة أنَّ هيكل أورشليم أُسس ثلاث مرَّات: الأول شيَّده الملك سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد (سفر الملوك 1: إصحاح 5 إلى 8؛ سفر أخبار الأيَّام 2: إصحاح 3 إلى 4)، وقد دُمّر خلال الغزو البابلي لأورشليم أواخر القرن السَّادس قبل الميلاد، وعُرف بهيكل سليمان؛ والثَّاني شيَّده العائدون من بني إسرائيل من السَّبي البابلي بأمر من الملك الفارسي كورش، أوائل القرن السَّادس قبل الميلاد، تقريبًا عام 515 ق.م. (سفر عزرا: إصحاح 3، آيات 8-13)، وسُمّي بهيكل زرُبَّابل؛ أمَّا الثَّالث، فكان تحديث وتجديد وتوسعة للهيكل الثَّاني، وتولَّى الملك هيرودس الكبير تلك المهمَّة، عام 20 ق.م، ومن هنا جاءت تسميته بهيكل هيرودس. تقريبًا. يُلقى باللوم على فساد ملوك بني إسرائيل في دمار الهيكل، بما أدخلوه من محدثات على العقيدة استقوها من عقائد الأمم الوثنيَّة. وفي خضمّ الفساد الدّيني لملوك بني إسرائيل، أطلق اثنان من الملوك المتأخرين حملتين إصلاحيتين لتطهير الهيكل من مظاهر الشّرك وإعادة الشَّعب إلى الطَّريق القويم، وهما حزقيا (715-687 ق.م.) ويوشيا (640-609 ق.م.). غير أنَّ بني إسرائيل ما لبثوا بعد انقضاء فترة مُلك كلّ من الملكين المصلحين أن عادوا إلى الفساد الدّيني؛ فأعادوا تماثيل البعل وعشتار، ومن جديد “فَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”. لم تشفع أعمال يوشيا الصَّالحة لبني إسرائيل في تأخير العقاب الإلهي عليهم، خاصَّة مع الفساد الكبير الَّذي انخرط فيه الملك منسَّى، كما يخبر سفر الملوك الثَّاني “إِنَّ ذلِكَ كَانَ حَسَبَ كَلاَمِ الرَّبِّ عَلَى يَهُوذَا لِيَنْزِعَهُمْ مِنْ أَمَامِهِ لأَجْلِ خَطَايَا مَنَسَّى حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ. وَكَذلِكَ لأَجْلِ الدَّمِ الْبَرِيءِ الَّذِي سَفَكَهُ، لأَنَّهُ مَلأَ أُورُشَلِيمَ دَمًا بَرِيئًا، وَلَمْ يَشَأ الرَّبُّ أَنْ يَغْفِرَ ” (سفر الملوك 2: إصحاح 24، آيتان 3-4). وفي هاتين الآيتين اعتراف ضمني بأنَّ دمار أورشليم وهيكلها المقدَّس كان بتدبير إلهي لإنزال العقاب على بني إسرائيل لما اقترفوه من آثام في حقّ ربّهم.
يسرد سفر عزرا تفاصيل إعادة بناء هيكل أورشليم، وقد بدأ ذلك بعد أن أعاد الإمبراطور كورش أسرى بني إسرائيل من سبيهم في بابل عام 539 ق.م.، وردَّ آنية الهيكل الَّتي استولى عليها جنود نبوخذ ناصَّر خلال غزو أورشليم “وَالْمَلِكُ كُورَشُ أَخْرَجَ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَاصَّرُ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَعَلَهَا فِي بَيْتِ آلِهَتِهِ” (إصحاح 1، آية 7). وكانت أوَّل شعيرة دينيَّة أقامها بنو إسرائيل هي إقامة المذبح، وتقديم القرابين للرَّبّ، ضمن الاحتفال بعيد المظالّ الخريفي “وَأَقَامُوا الْمَذْبَحَ فِي مَكَانِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ رُعْبٌ مِنْ شُعُوبِ الأَرَاضِي، وَأَصْعَدُوا عَلَيْهِ مُحْرَقَاتٍ لِلرَّبِّ، مُحْرَقَاتِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ. وَحَفِظُوا عِيدَ الْمَظَالِّ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ” (إصحاح 3، آيتان 3-4). وفي العام التَّالي، أصدر كورش أمرًا ببناء الهيكل، متكفّلًا بتكلفة البناء “أَمَرَ كُورَشُ الْمَلِكُ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ اللهِ فِي أُورُشَلِيمَ: لِيُبْنَ الْبَيْتُ، الْمَكَانُ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ ذَبَائِحَ، وَلْتُوضَعْ أُسُسُهُ، ارْتِفَاعُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا. بِثَلاَثَةِ صُفُوفٍ مِنْ حِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ، وَصَفّ مِنْ خَشَبٍ جَدِيدٍ. وَلْتُعْطَ النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ” (إصحاح 6، آيتان 3-4).
لم يُذكر شيءٌ في العهد القديم عن وصْف الهيكل الثَّاني بعد الإشارة إلى إتمام تأسيس عام 515 ق.م.، كما ورد في سفر عزرا ” وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ وَبَاقِي بَنِي السَّبْيِ دَشَّنُوا بَيْتَ اللهِ هذَا بِفَرَحٍ. وَقَرَّبُوا تَدْشِينًا لِبَيْتِ اللهِ هذَا: مِئَةَ ثَوْرٍ وَمِئَتَيْ كَبْشٍ وَأَرْبَعَ مِئَةِ خَرُوفٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ تَيْسَ مِعْزًى، ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ عَنْ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ، حَسَبَ عَدَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ. وَأَقَامُوا الْكَهَنَةَ فِي فِرَقِهِمْ وَاللاَّوِيِّينَ فِي أَقْسَامِهِمْ عَلَى خِدْمَةِ اللهِ الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ مُوسَى” (سفر عزرا: إصحاح 6، آيات 16-18). ما تبقَّى ذكْره عن الهيكل الثَّاني في العهد القديم هو تعرُّضه للتَّدنيس على قوَّات الملك السَّلوقي انطيوخوس الرَّابع الظَّاهر، بأمر من الملك ذاته، بعد زيارته له عام 169 ق.م، حيث أراد تحويله إلى معبد للإله الأوليمبي الوثني زيوس، وأمر باتّباع دينه وإقامة شعائره الوثنيَّة، “وَكَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ ارْتَضَوْا دِينَهُ، وَذَبَحُوا لِلأَصْنَامِ، وَدَنَّسُوا السَّبْتَ” (سفر المكابيين 1: إصحاح 1، آية 45). بقي الهيكل الثَّاني على ذلك الحال حتَّى نجح القائد الإسرائيلي يهوذا المكابي في استعادته عام 164 ق.م. تقريبًا؛ وحينها طهَّره من التَّدنيس الوثني وأعاد تجهيزه من الدَّاخل بحسب الشَّريعة الكتابيَّة، كما يذكر سفر المكابيين (سفر المكابيين 1: إصحاح 4، آيات 36-59).
ويسرد المؤرّخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس في مؤلَّفه الموسوعي آثار اليهود (Antiquities of the Jews)، وتحديدًا في مجلَّده الخامس عشر، تفاصيل إعادة بناء الهيكل الثَّاني وتوسعته على يد الملك هيرودس الكبير عام 20 ق.م. بقوله إنَّه أعدَّ آلاف العربات لحمل الحجارة، واختار مئات الآلاف من العمَّال المهرة، واشترى ملابس كهنوتيَّة لآلاف الكهنة، ودرَّب بعض هؤلاء الكهنة على أعمال البناء، والبعض الآخر على النّجارة، وبدأ البناء فور إزالة الأساسات القديمة، ليُقام بناء جديد طوله 100 ذراع، وارتفاعه 120 ذراعًا، من حجارة بيضاء متينة. وكانت بوَّابات الهيكل في نفس طول البناء، وقد زُيّن أعلاها بمعلَّقات متعدّدة الألوان تحاكي المثبَّتة أعلى العمودين، وثُبّت فوقها، وتحت الكورنيش المتدّلي من السَّقف، كرمة ذهبيَّة تتدلى منها عناقيد من العنب كانت آية من حيث كبر الحجم وبراعة التَّصميم. أحاط هيرودس الهيكل بأروقة متعدّدة واسعة، وأنفق ما لم ينفقه سابقوه على تزيين الهيكل، لدرجة أنَّ كلَّ ما شاهده ظنَّ أنَّ الهيكل لم يُرى من قبل قطّ في تلك الهيئة البديعة. استغرق إعادة بناء الهيكل عامًا وستَّة أشهر، وامتلأ النَّاس سرورًا وبهجة بعد إتمام العمل فيه، وتضرَّعوا بالشُّكر لربِّهم حينها.
شكل تصوُّري لهيكل هيرودس
“خَيْمَةُ الاجْتِمَاعِ”: نواة هيكل أورشليم
تعتقد باركر أنَّ خيمة الاجتماع، الَّتي أقامها موسى تنفيذًا لأمر الرَّبّ لإقامة الشَّعائر الدّينيَّة، كانت بمثابة نواة لهيكل أورشليم، أو بيت الرَّبّ. ورد ذكْر خيمة الاجتماع لأوَّل مرَّة باسم “مَقدِس” أو “مسكن” الرَّبّ، كما جاء في سفر الخروج، “كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً… فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسًا لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ. بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ، وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ هكَذَا تَصْنَعُونَ” (سفر الخروج: إصحاح 25، آيات 2-9). وقد ورد مسمَّى “خيمة الاجتماع”، وهو المسمَّى الأكثر شيوعًا لذلك النَّموذج الأوَّلي لبيت عبادة بني إسرائيل، فقد ورد في سفر الخروج “وَأَخَذَ مُوسَى الْخَيْمَةَ وَنَصَبَهَا لَهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، بَعِيدًا عَنِ الْمَحَلَّةِ، وَدَعَاهَا «خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ»” (سفر الخروج: إصحاح 33، آية 7). وسُمّيت الخيمة كذلك باسم “مسكن الشَّهادة”، كما جاء في “هذَا هُوَ الْمَحْسُوبُ لِلْمَسْكَنِ، مَسْكَنِ الشَّهَادَةِ” (سفر الخروج: إصحاح 38، آية 21). وما يثبت أنَّ خيمة الاجتماع تُعتبر بمثابة نواة بيت الرَّبّ عند بني إسرائيل، أنَّها سُمّيت بذلك الاسم في أكثر من موضع في العهد القديم: في سفر الخروج “أَوَّلُ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ” (إصحاح 34، آية 26)؛ وفي سفر يشوع “الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ” (إصحاح 6، آية 24). أمَّا عن شكل الخيمة، فكان متوازي المستطيلات، بطول 30 ذراعًا، وعرض 10 أذرع، وارتفاع 10 أذرع. أقيم جانبا الخيمة على 20 لوحة لكلّ جانب، بينما أقيمت المؤخّرة على 8 ألواح، وكان المدخل من جهة الشَّرق.
شكل تصوُّري لخيمة الاجتماع في العهد القديم
“مخطوط الهيكل”: أدقُّ وصْف لهيكل أورشليم
تفترض الباحثة الإنجيليَّة أنَّ مخطوط الهيكل، أكبر مخطوطات البحر الميّت وأكثرها إثارةً للجدل، من المصادر عن هيكل أورشليم الجديرة بالإشارة، خاصَّةً وأنَّه يذكر أنَّها كان من المفترَض أن تكون سادس أسفار التَّوراة وأن تلي سفر التَّثنية في الترتيب، وهو يعتبر أهمّ مرجع يشير إلى مواصفات الهيكل، إلى جانب ما ورد في رؤيا النَّبيّ حزقيال (إصحاح 40 إلى 48). ومن أهمّ ما يشير إليه ذلك المخطوط أنَّ بني إسرائيل كان يخطّطون لبناء بيت الرَّبّ فور وصولهم إلى أرض الميعاد. وفق ما يذكره سهيل زكَّار، المؤرّخ السُّوري الشَّهير، في ترجمته لمخطوطات البحر الميّت في كتابه النُّصوص الكاملة لمخطوطات البحر الميِّت (2006م)، اكتُشف مخطوط الهيكل (ق 11ت=ق11-19) في الكهف 11 عام 1956م، ولكن لم يُكشف عنه إلَّا تزامنًا مع حرب الأيَّام السّتَّة في يونيو/حزيران 1967م. وبرغم ما أصاب المخطوط من تشويه نتيجة لتفتُّت بعد أجزائه، فهو يقدّم تفاصيل وافية عن هيكل أورشليم، تشمل البناء والتَّأسيس والطُّقوس بما يتَّفق مع الأحكام الشَّرعيَّة التَّوراتيَّة، وبخاصَّة الواردة في أسفار الخروج واللاويين والتَّثنية. أمَّا عن أهمّ ما يتضمَّنه مخطوط الهيكل فهو: ميثاق بين الربِّ وبيت إسرائيل؛ ومقاسات الحرم وقدس الأقداس وغرف الأعمدة؛ ووصْف كرسي الرحمة والكروبيم والحجاب والمائدة والشَّمعدان الذَّهبي؛ والخطوط العريضة للقرابين والمذبح؛ والقرابين والأضاحي؛ وأبنية الهيكل الدَّاخليَّة، مثل السُّلَّم وبيت الذَّبح وبيت الأوعية المقدَّسة؛ وساحات الهيكل الثَّلاث، واحدة للكهنة، وأخرى للرَّجال البالغين، وثالثة للنّساء والأطفال. يتضمَّن مخطوط الهيكل كذلك بعض الشَّرائع المتعلّقة بالوثنيَّة والتَّضحية بالحيوانات، والخاصَّة بالواجبات الكهنوتيَّة، وغيرها من الأمور الدّينيَّة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ من بين أهمّ ما يتضمَّنه مخطوط الهيكل وصيَّة الرَّب لبني إسرائيل عند غزو أرض وعدهم ببسط سلطانهم عليها: “وعندما تقتربون من مدينة لمقاتلتها، اعرضوا عليها (أولًا) السلام، وإذا ما طلبت السلام وفتحت (أبوابها) لكم، عندها يصبح جميع الشعب قواتكم العاملة، وعليهم خدمتكم، وإذا لم تسالمكم وتستلم لكم، بل كانت مستعدة للقتال في حرب ضدَّكم، عليكم القيام بحصارها، وأنا سأعطيكم إيَّاها وأضعها بين أيديكم، ووقتها اعرضوا جميع الذكور فيها على السيف واجعلوهم طعمة له، لكنَّ النساء والأطفال وكلُّ ما في المدينة، أي كلُّ غنائمها، فبإمكانكم أخذه بمثابة أسلاب لأنفسكم، ويمكنكم التمتُّع بغنائم أعدائكم التي أعطيتكم إيَّاها، إنَّه وفق هذا الأسلوب يمكنكم فقط التعامل مع المدن التي ليست بين مدن هذه الأمم…ولكن بالنسبة إلى مدن الشعوب التي أعطيتكم إيَّاها ميراثًا، عليكم ألَّا تدعو فيها حيًّا أيَّ مخلوق كان، في الحقيقة عليكم محق الحثيين والآموريين، والكنعانيين والحيوتيين، واليبوسيين، والجرجاشتيين والبيرزيتيين محقًا كاملًا، حسبما أمرتكم، حتَّى لا يعلِّمونكم ممارسة الضلال الذي مارسوه نحو أربابهم…” (عامود 62).
(المصدر: رسالة بوست)