مقالاتمقالات مختارة

تاريخ الحضور الإسلامي في أوروبا (2)

تاريخ الحضور الإسلامي في أوروبا (2)

بقلم د. محمد الغمقي

تم التطرق في الجزء الاول من هذا المقال إلى عملية استقرار الإسلام في أوروبا في المرحلة التاريخية، حيث جاء هذا الاستقرار نتيجة لمسار الانتشار في عصور الفتوحات في الاندلس وفي جنوب حوض المتوسط وفي وسط أوروبا (البلقان)، وما ترتب عن ذلك من ترسيخ لدعائم الحضارة الإسلامية في هذه القارة.

وانتهت هذه المرحلة بطرد المسلمين في كل من الاندلس وصقلية مع بقاء البصمات الحضارية فيها، ولكن بقي الوجود الإسلامي إلى العصر الراهن  في وسط أوروبا (منطقة البلقان خاصة) رغم كل التحديات، وهو أحد  مكونات الحضور الإسلامي اليوم  المكمل للمكون الآخر الوافد والناتج عن موجات الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية.

 وفي هذا الجزء الثاني من المقال، نتحدث عن الوجود الإسلامي الراهن في أوروبا: الواقع والتحديات.

التقاء المصالح

إن الحديث عن تواجد عرب ومسلمين من أصول وافدة في أوروبا اليوم يقود السؤال هو: ما هي العوامل التي دفعت أفواجا من أبناء العرب والمسلمين إلى التوافد إلى البلاد الاوروبية والغربية عموما إلى حدّ تشكيل كيان ضخم عدديا خاصة في الفضاء الاوروبي الغربي؟

باختصار، حصل التقاء في مصالح الطرفين (الاوروبي من جهة والعربي الإسلامي من جهة أخرى)، نتج عنه تدفق للهجرة. اجدر الإشارة إلى أن أوروبا عاشت حربين مدمرتين ضد النازية. وكانت في البداية تحتاج إلى من يدافع عن كيانها وعن وجودها، فاستقدمت الآلاف من أبناء مستعمراتها وألحقتهم في صفوف جيوشها، وضرّجت دماؤهم أرض أوروبا دفاعا عن قيم الحرية والكرامة. وفي كل احتفال بذكرى نهاية الحربين  الاولى (1918)  والثانية (1945)، تعود الذاكرة إلى التضحيات الجسام التي قدمها المسلمون في أكير محنة شهدتها القارة الاوروبية في القرن العشرين. ونتج عن هذين الحربين استقرار بعض عائلات هؤلاء الجنود من أبناء المسلمين. وكان نموّ  الهجرة نموّا محدودا، بلغ عشرات الآلاف مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

أما الهجرات الكبرى في العصر الحديث، فكانت بُعيد الحرب العالمية الثانية، عندما تقابلت مصالح الطرفين: مصالح شرائح داخل العالم الإسلامي أصيبت بخيبة أمل جراء سياسات اقتصادية واجتماعية وحقوقية فاشلة بعد جلاء قوات الاستعمار، فبحثت عن رزقها أو عن تطوير علومها أو عن الأمان هروبا من القهر والكبت والأحادية، فلجأت إلى ديار الغرب، ومنها أوروبا التي كانت تسعى بكل جهد إلى استرجاع مجدها وقوتها وإشعاعها بعد أن دمرتها الحرب وأصبحت رهينة الولايات المتحدة الامريكية عن طريق مشروع مارشال.  وتقتضي مصالحها في ذلك الوقت النهوض بالواقع المأسوي الاقتصادي والاجتماعي عن طريق البحث عن اليد العاملة الرخيصة أساسا والكفاءات الوافدة إليها من أجل إعادة تعمير ما دمرته الحرب. وهنا أيضا يظهر جليا دور العرب والمسلمين في تحقيق نهضة اقتصادية صناعية وتقنية أوروبية بالساعد والفكر. بل إن تواجد عائلات مسلمة في أوروبا أسهم في تجديد سكانها بعد أن سحقت الحرب رصيدا بشريا مهما من الرجال والسواعد، مما دفع النساء إلى الخروج إلى ميدان العمل.

من الهجرة إلى المواطنة ومن الكم إلى الكيف

في العقود الأخيرة، بدأ الحضور الإسلامي في أوروبا يشهد إلى جانب الثقل البشري الكمّي بداية تحوّل نوعي بالتزامن مع التحول من وضع الإقامة المؤقتة إلى الإقامة المستقرة ومن غلبة طابع الهجرة إلى التفاعل من منطلق المواطنة. ومما لا شك  فيه أن متطلبات الاستقرار غير متطلبات الإقامة المؤقتة، وتجلى ذلك أساسا في الانتقال من مرحلة الاكتفاء بإقامة المصليات والمساجد إلى مرحلة العمل المؤسساتي وذلك بعد أن تبين أن المساجد غير كافية لوحدها للحفاظ على الهوية الإسلامية وحماية الأبناء من خطر الذوبان والانسلاخ عن عقيدة الإسلام، كما أنها لا تكفي للتفاعل الإيجابي مع المجتمع.

وقد شهد العمل المؤسساتي في عمومه نقلة نوعية في اتجاهين اثنين: أولا اتجاه تخصصي حيث يلاحظ تطوّر من إقامة مؤسسات العبادة (المصليات والمساجد) إلى المؤسسات التعليمية والدعوية إلى المؤسسات التخصصية مثل المؤسسات التربوية والإعلامية والثقافية والاقتصادية. وثانيا اتجاه انفتاحي، حيث يشهد العمل الإسلامي تطوّرا من مؤسسات ذات بعد محلى قطري إلى مؤسسات ذات بعد وطني  عبر التنسيق بين المراكز والمنظمات. بل إن هذا التنسيق اتسع وارتقى إلى المستوى الأوروبي وذلك من منطلق التعامل الجاد مع الوضع الجديد ومع انفتاح الحدود بين دول أوروبا الغربية خاصة. وكمثال على ذلك “مجلس مسلمي أوروبا” مقره بروكسل عاصمة بلجيكا وهي العاصمة الأوروبية وهو هيئة إسلامية تضم مؤسسات ومراكز وهيئات إسلامية في أكثر من 26 دولة أوروبية.

معوقات التنامي الكيفي لمسلمي أوروبا

إذا كان  التطوّر الكمّي لمسلمي أوروبا يسير بوتيرة منتظمة في تصاعد مستمرّ، فإن  مسار التنامي الكيفي النوعي لا يتقدم  بنفس الوتيرة، وما زال في مراحله الأولى. ويمكن استنتاج هذا الأمر من خلال مستوى الفعل والتأثير في المجتمعات الأوروبية، إذ لم يتحول المسلمون بعدُ إلى ثقل اقتصادي وسياسي وثقافي وإعلامي، وإلى مجموعات ضغط كما هو حال مجموعات دينية وإيديولوجية أخرى. وهذا البطء في التطور الكيفي يعود إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية.

أما الأسباب الذاتية فيمكن اختصارها في واقع الأمة المسلمة. ومسلمو أوروبا هم من أبناء هذه الأمة وجزء  لا يتجزّأ منها، يتأثرون بهمومها ومشاكلها ويصيبهم من الأمراض ما يصيبها. ومن الأمراض المعيقة للفعل والتأثير ضعف الإبداع الحضاري والإنتاج الفكري والتكنولوجي، والاكتفاء بالتقليد والاستهلاك. ومن الامراض أيضا رواسب الانحطاط والتخلف من عقلية فردية وانقسامات وصراعات وسلوكيات غير متحضرة.. علاوة على النظرة الضيقة والتفكير المتشدد والمنغلق لدى شريحة من أبناء المسلمين الذين يتقنون خطاب التكفير والمؤامرة..

وأما الأسباب الموضوعية، فأهمّها الضغوط المتعددة الأشكال المسلّطة على المسلمين من أجل عرقلة الصحوة الدينية داخلهم، وصدّهم عن التفكير في استعادة الثقة في الله ثم في إمكاناتهم وقدراتهم على الفعل الحضاري، وإلهائهم بالخلافات الداخلية، وحثّهم على السير على ضوء النهج الذي تمليه العولمة في عصر ما بعد الحداثة من منظور غربي. في هذا السّياق، يندرج خطاب الكراهية والتنفير من الإسلام، ما يسمّى بـ  “إسلاموفوبيا”، وما ترتّب عنه من سياسات وممارسات، من مظاهرها التضييق على المسلمين من طرف جهات تريد فرض قراءة  شمولية وإقصائية للعلمانية. والنتيجة، إشكالات في تربية الاجيال الصاعدة، وفي حرية التدين وبعض مظاهرها مثل لبس الحجاب في المؤسسات العامة، وحرية الدعوة إلى الفكرة الإسلامية الحضارية..

آمال معقودة على الاجيال الناشئة والنخب الواعية والمسلمين الجدد

إن الحديث عن المعوّقات  الداخلية والخارجية أو الذاتية والموضوعية  هو من باب التوقف عند التحديات التي يكون الوعي بها بداية الإصلاح والتقدم والارتقاء.

والآمال معقودة على صنفين: الاجيال الناشئة والنخب الواعية. فالناظر لواقع شريحة الاجيال الناشئة، يدرك ان الخير كامن في نسبة كبرى منهم رغم  وجود بعض مظاهر الانحراف في صفوف بعضهم. ولعل عامل الزمن يفعل فعله في حركة وعي الشباب بدورهم في نهضة الأمة، والحضور الإسلامي في أوروبا جزء منه. وهؤلاء الشباب في حاجة إلى تأطير من النخبة الواعية  التي تفقه الواقع وتحسن التعامل معه بالجمع بين الاصالة والمعاصرة.

كما لا يمكن التقليل من دور شريحة مهمة وهم معتنقو الإسلام أو ما يطلق عليهم “المسلمون الجدد”. ويتواجدون في صفوف الشباب والنّخب. وهؤلاء إن حسُن التعامل معهم وتكوينهم من حيث التصورات  ومن حيث الفهم الصحيح  للإسلام، وإن حسُن دمجهم في النسيج الجمعياتي المسلم وتوظيف كفاءاتهم ومهاراتهم، فإن لديهم قدرة على دفع الحضور الإسلامي إلى الأمام بحكم جمعهم بين ثقافتين: ثقافة أوروبية موروثة وثقافة إسلامية مكتسبة. وتكفي الإشارة إلى شخصيات لمع نجمها مثل البريطاني يوسف إسلام والألماني مراد هوفمان وغيرهم كثير.  الأمر الذي يساعد على تحقيق التعايش بين الثقافتين في إطار المشترك الإنساني.

عطاء حضاري متجدد

ومن خلال متابعة مسار الحضور الإسلامي في اوروبا بين الأمس واليوم، يتبين أن استقرار الإسلام في القارة الاوروبية في المرحلة التاريخية الاولى -والذي ارتبط بالفتوحات الإسلامية – تزامن مع نهضة الامة وتقدمها وعصور قوتها الحضارية، الأمر الذي يفسّر أن فتح الاندلس غرب أوروبا سنة 711م (92هـ) تم بعد قرن من نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم سنة 610 م. وبالتالي، ترك المسلمون بصمات حضارية حيثما حلوا. في حين تزامنت الموجة الثانية من استقرار الإسلام في أوروبا مع مرحلة يغلب عليها طابع التخلف والتبعية في سائر بلاد المسلمين وقد انعكس ذلك على الحضور الإسلامي في أوروبا في الستينات مع انطلاق موجة الهجرة. لكن يلاحظ في العقود الأخيرة تنامي صحوة أوحركة وعي بطيئة -ولكنها متصاعدة- في صفوف مسلمي أوروبا، خاصة في ظل تواجد نخب واعية   تحمل عقلية مؤسساتية وتخطط بطريقة استراتيجية للمستقبل، من أجل تحقيق التوازن في اتجاهين: إصلاح داخلي في دائرة المسلمين عبر الارتقاء بهم فكريا وسلوكيا، وانفتاح خارجي على المجتمع بكل مكوناته عبر ربط جسور التواصل مع الجهات الرسمية والنسيج الجمعياتي داخل المجتمع المدني. بما يبشّر بتجدد العطاء الحضاري الإسلامي  الذي بدأه المسلمون في الأندلس مع الوعي بأن الطريق شاق ومليء بالعقبات والتحديات.

لكن الإصرار على المضي قُدما في ظل تدافع إيجابي هو السبيل الوحيد لتفويت الفرصة على أنصار الشعبوية ممن يسعون إلى اجتثاث الوجود الإسلامي من أوروبا والغرب على أساس فلسفة حتمية الصراع الحضاري، في وقت يحتاج فيه العالم إلى نقلة حضارية تدفع في اتجاه  التعايش على اساس المشترك الإنساني. ولعل مسلمي أوروبا سيكون لهم شرف الإسهام في نشر ثقافة التعايش والحوار الحضاري بين الشعوب والثقافات والأديان، عملا بالآية الكريمة ” يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى