تأثير الفقه الإسلامي على قوانين الإكلوجا البيزنطية
بقلم د. عبد الوهاب القرش (الباحث في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية – مدير مركز الطبري للدراسات الإنسانية)
غير صحيح الاعتقاد السائد بأن تأثير الفقه الإسلامي في التشريعات الغربية يرجع تاريخه إلى ما بعد ظهور المذاهب الإسلامية وشروحها ، ولكن في الحقيقة يرجع التأثير إلى ما قبل ذلك بقرون، حيث أكدت روايات تاريخية لعدد من المؤرخين البيزنطيين أن النظريات القانونية في المجموعة القانونية ” الإكلوجا Ecloga (المختار) ” التي أصدرها الإمبراطور (ليو الثالث Leōn III) عام 726م ، بعد أن رأى أن الإمبراطورية البيزنطية قد أُصيبت باختلالٍ تام وعمت فيها الفوضى. وقد تأثرت الإكلوجا بقواعد الفقه الإسلامي . لذا قوبلت الإكلوجا ببعض المعارضة من جانب النبلاء وكبار رجال الدين.
وقد أغراني هذا بالبحث في المصادر والمراجع الأجنبية التي كتب عن مجموعة الإكلوجا.. ولبيان ذلك التأثير ، فقد يكون من الأفضل أن نقوم بعرض الظروف التاريخية لالتقاء الفقه الإسلامي مع المجموعة القانونية الإكلوجا (أولاً)، ثم نعرض للقواعد والنظريات القانونية التي تبنتها الإكلوجا متأثرةً فيها بقواعد الفقه الإسلامي (ثانيًا).
أولاً: الظروف التاريخية لالتقاء الفقه الإسلامي مع الإكلوجا :
لقد ذكر البطاركة والمؤرخون البيزنطيون أن تعاليم الإسلام المتاخم زمنيًا وجغرافيًا والمتفاعل سياسيًا مع البيزنطيين، كان لها أثرها الإيجابي على فكر ليو الثالث، فقد كان من سكان مدينة جرمانيكا Germenika (مرعش) في شمال سوريا، وكانت هذه المدينة كانت قد سقطت في قبضة المسلمين عام 16هـ/637م، ولهذا تأثرت حياة ليو الثالث في شبابه بالمسلمين تأثراً كبيراً بحكم ذلك الاتصال الدائم بالمسلمين في مدينة مرعش، كما أمضى ليو الثالث معظم حياته كجندي وقائد في قتال الجيوش الإسلامية مراراً، وإذا تتبعنا حياة ليو وحياته الحافلة مع المسلمين فلن تعترينا الدهشة إذا عرفنا أن ليو كان على معرفة جيدة بالعالم الإسلامي وفكره وتقاليده ،كما كان يعرف اللغة العربية، وكان يقرأ القرآن ، وهو ما دلت عليه مراسلاته مع الخليفة عمر بن عبد العزيز التي تطرقت في سياقها إلى استفسارات عمر بن عبد العزيز عن الشريعة الإسلامية ، فمن الجائز أن تكون تلك المراسلات أثرت في تغيير فكر ليو الثالث ، وهذا ما أكده يوحنا الدمشقي الذي بالغ في إعلان التأثير الإسلامي في فكر ليو الثالث في مناهضة وتحطيم الأيقونات، فيقول على سبيل المثال لا الحصر: ” اسمعوا يا شعوب الأرض … إذا علمكم ملككم تعاليماً مخالفاً لتعاليم الكنيسة وعقيدتها، فهي تعاليم أخذها عن المسلمين الهراطقة، فسدوا آذانكم، ولا تصغوا إلى فحيح الثعبان”، ويقول المؤرخ البيزنطي ” مانيسي Mansi ” :”في إحدى جلسات المجمع الديني الذي عقد في مدينة نيقية عام 171 هـ / 787 م أعلن الأسقف يوحنا أن سياسة ليو الأيسوري ما هي إلا ثمرة بذور ألقاها في قلبه الخليفة يزيد الأموي التافه، فاستجاب له ليو لضعف عقله وجهله بتعاليم دينه”, ويقول مانيسي في موضع أخر :”إن القوانين التي سنها ليو هي من وحي العادات الشرقية الوثنية (أي الإسلامية)”.ويؤكد ثيوفانيس التأثير الإسلامي على فكر ليو الثالث قائلًا :”إن كل الأعمال السيئة لليو نشأت من اتصاله بالمسلمين..لذا فقد كفر وحرم من رحمة الكنيسة “وذكر ثيوفانيس في موضع آخر أن ليو الثالث كان: “ذا عقلية إسلامية Sarcacen minded”.
ثانيًا: النظريات القانونية التي تبنتها الإكلوجا متأثرة فيها بقواعد الفقه الإسلامي:
1- استبدال قانون الإعدام ببتر الأطراف:
يرى المؤرخ “هارتمان Hartmam ” في كتابه (الحكومة والإدارة):” أن مجموعة الإكلوجا التي أصدرها ليو الثالث قد اقتبست من الفقه الإسلامي تطبيق عقوبة بتر الأعضاء على السارق بدلاً الإعدام لأنه وجد فيها ردعًا وعدلاً”.
2- قانون الأسرة والوراثة:
ويرى المؤرخ “إنسلن Ensslin ” أن ليو الثالث قد أعاد في الإكلوجا صياغة قانون الأسرة وهو يتشابه مع النظام الإسلامي في التالي:
- بعد أن كانت المرأة البيزنطية قبل عهد ليو الثالث فاقدة الأهلية وتعامل كالأطفال والمجانين جعلت الإكلوجا المرأة مساوية مع الرجل في حرية “التملك”، حرية “التجارة”، حرية “السفر”، حرية “الميراث” ، حرية ” الوصية والهبة”، حرية “الموافقة على الزواج”، وغيرها من الحريات التي كانت تمارسها المرأة المسلمة والتي كفلتها لها الشريعة الإسلامية.
- حررت قوانين الإكلوجا الأطفال الأيتام من سلطة الدولة عليهم فقد كان كل طفل فقد أبويه يحول إلى عبد وهذا القانون أفقد الكنيسة البيزنطية الكثير من موراد الخدم والعبيد.
3- قانون الملكية:
ويرى المؤرخ ” كارل.سيKarl . S ” أن الإكلوجا قد أخذت من المسلمين في قوانين الملكية ما يلي:
- أقرت الإكلوجا النظام الإسلامي في ملكية الأشخاص للأراضي في كل أنحاء الإمبراطورية البيزنطية ملكية كاملة ولم تتح الإكلوجا للسلطات الرسمية أن تتدخل فيها إلا فيما يتعلق بالحقوق المالية المتصلة بتلك الأراضي (وهي الضرائب).
- أقرت الإكلوجا النظام الإسلامي في الملكية ودليلها وتثبيتها ، وأن وضع اليد على المنقول يعادل حجة الملكية، وجواز نزع الملكية للمنفعة العامة، وأحكام الملكية المشتركة، وتحديد ملكية المناجم، وطرق نقل الملكية فى المنقول والعقار، وسقوط الحق بمضى المدة.
- احتوت النظم القانونية في الإكلوجا على نظام ” الاستراتيوتيكا كايتماتا Stratiotika Kaitamata ” الذي يعني منح الجنود قطعاً من الأرض يستغلونها مقابل الخدمة العسكرية ، وكان المنح بصفة وراثية في مقابل أن تكون الخدمة العسكرية وراثية كذلك . وهو نفس النظام الذي كان معمولًا به في الدولة الإسلامية تمنح الأرض للجنود المرابطين على الحدود مقابل خدمتهم العسكرية.
4- القوانين الاقتصادية:
- من التغيرات الواضحة التي أحدثها دخول المسلمين في مجال النشاط التجاري في حوض البحر المتوسط هو حرية التجارة ومنع الاحتكار ، فتخلى ليو الثالث في الإكلوجا عن كثير من القيود الرومانية القديمة التي كانت مفروضة على النشاط التجاري ، وضمت قوانين تحد من الاحتكار وتسهل حرية التجارة ، فأصبح ربابنة السفن أحراراً في الحصول على شحنات سفنهم حيث شاءوا ، خاصة بعد أن فتح تجار المسلمين أبواب أسواقهم لكل التجار من جميع الجنسيات.
- منحت الإكلوجا – في الجزء الخاص بقانون الملاح Nomos-Noutikos ، وقانون الفلاح Nomos –Georgikos –الملاحين والفلاحين حرية كبيرة في إجراءات البيع والشراء وخففت عنهم كثير من الضرائب ، لأن ليو الثالث رأى الملاح والفاح يمثلان العمود الفقري في تموين الجيش البيزنطي ، ويلعبان دوراً هامًا في الاقتصاد الروماني في هذه الفترة الحرجة خاصة بعد الفتح الإسلامي للأقاليم الغنية التي كانت تغطي العجز في السلع، وهو ما يعكس التأثير الإسلامي في تخفيف الضرائب والحريات عن عاتق أصحاب المهن والحرف.
*****
ننتهي مما سبق إلى أن المجموعة القانونية لليو الثالث المعروفة بـ (الإكلوجا) قد تأثرت بالتشريع الإسلامي ، وهذا برهان مُبكر – أغفل عنه الكثيرون – على تأثير الفقه الإسلامي على التشريعات الغربية حيث أبلى أسلافنا البلاء الحسن في تطوير منظومة الاجتهاد الفقهي ، وكانوا في ذلك من المبدعين لا من المقلدين ، فبرهنوا بذلك على مرونة كبيرة للعقل الفقهي الإسلامي وأثبتوا إجرائيًا معنى صلاح الشريعة الإسلامية لهم ولغيرهم من الأمم في زمنهم وحتى للأزمان التي جاءت بعدهم بقرون.
_________________________________________________
المصادر:
- J., De Haerasibus., P.G. M., tome. XCIV., Paris, 1860.
- Mansi, J. d., Sacorrum conciliorum novas et emplissima collectio., Vol. Ll., Cvinice, 1770.
- , Chronographia., P.G.M tome Cix., paris. 1963.
المراجع:
- W., the Emperor and imperial adminstratian., in: Byzantium., ed By. N. Bayns and H. S. Moss., Oxford. 1948.Ensslin. W., the Government and Administration of the Byzantine Empire. In: C.M.H., vol 4. part. 2., combridge. 1967.
- Hartmam : Government and Administration.C. M.H., 1967.
- Jeffery, A., Ghevond’s text of the cerrospanence Between Umar ll and leo lll., in: Har vadrd theological Review xxxvll., 1944.
- Karl . S.:Kaiser Leons III walten is unnern ., in .B2., 1896.
- Lopez: ” Byzantin law in The Seventh Century and its Reception By Germans and Arabs “ .,V., R . Prints ., Pond : 1978 .
- Lopez, R., the Role Of trade in the Economic Readjustment of Byzantium in the seventh century, in: D.O.P.., Xlll, 1959.Rhodian Sea-Law, ed.W.Ashburner Nomos Rodian Noutikos the Rhodian Sea-Law., Oxford :1909.