مقالاتمقالات مختارة

بين تعليم القرآن الكريم وتحفيظه

بين تعليم القرآن الكريم وتحفيظه

بقلم زياد المحوري

من الأمور المهمة التي يغفل عنها كثير من المعلمين والمربين مسألة تعليم القرآن الكريم وتدبر آياته وفهم معانيه وتطبيق أحكامه، وبالمقابل يركزون غالبًا على مسألة حفظه، حتى ترسخ لدى الكثيرين وبدون استثناء تسمية المدارس والحلقات التي تُعنى بتعليم القرآن الكريم بمدارس وحلقات تحفيظ القرآن الكريم! ويخبرنا التاريخ أن مصطلح تحفيظ القرآن الكريم لم يكن معروفًا بمعناه الحرفي الذي نراه في هذا العصر، فقد مكث الصحابي الجليل أبو الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في دمشق خمسة عشر عامًا تقريبًا يقرئ الناس القرآن ويعلمهم أحكامه وآدابه، وابتكر فكرة حلقات تعليم القرآن الكريم[1].

وتحفيظ القرآن الكريم دون تعليمه إن كان جائزًا ومقبولًا في مرحلة الطفولة والصبا، إلا أنه مخالفة لهدي السلف الصالح في بداية مرحلة الشباب واكتمال النضج، ولهذا سار السلف الصالح على ذلك، فكانوا يتعلمون القرآن، ويصدقون به وبأخباره وبجميع ما جاء فيه، ويطبقون أحكامه تطبيقًا عن عقيدة راسخة[2]. ومن الملفت للنظر أن كل ما جاء في الحث على تعلم القرآن الكريم وتعليمه جاء بصيغة التعلم والتعليم وليس بصيغة التحفيظ! ومن ذلك ما ذكره أبو عبدالرحمن السُّلمي رحمه الله: «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا»[3]، وفي حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيُعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويُوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلتان لا تقوم لهما الدنيا وما فيهما، فيقولان: يا رب أنّا لنا هذا؟ فيقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن»[4]، بل إن خير الناس وأفضلهم من تعلم القرآن وعلمه، فقد جاء في حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وفي لفظ: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»[5]. وفي الأثر عن نافع بن عبدالحارث أنه لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟! قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟!  قال: إنه قارئ لكتاب الله – عز وجل -، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إنّ نبيكم (صلى الله عليه وسلم) قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين»[6]. ومسألة تعليم القرآن الكريم، تقودنا إلى مسألة أهم وهي مرتبطة بها ارتباطا وثيقًا، وهي مسألة العمل بالقرآن الكريم، يقول الشيخ سعيد بن علي القحطاني: «العمل بالقرآن هو الغاية الكبرى من إنزاله؛ لقول الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وهذا العمل: هو التلاوة الحكمية للقرآن، حيث إن تلاوة كتاب الله على نوعين:

النوع الأول: تلاوة لفظية.

النوع الثاني: تلاوة حكمية، وهي تصديق أخباره، واتباع أحكامه.

فالعمل بالقرآن: هو تصديق أخباره، واتباع أحكامه: بفعل جميع ما أمر الله به فيه، وترك جميع ما نهى الله عنه: ابتغاء مرضاة الله، وخوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه؛ ولهذا سار السلف على ذلك[7]، والنوع الثاني هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى 126وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 – 127]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا 99 مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا 100 خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه: ٩٩ – ١٠١]. وعن سمرة – رضي الله تعالى عنه – قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟»، قال: فيُقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما…»، الحديث وفيه «… فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر…» الحديث وفي آخره «… أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة»، وفي لفظ: «والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار…»[8]، وعن جابر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن مشفعٌ، وماحل مُصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار»[9]. وعن أبي مالك الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القرآن حجة لك أو عليك»[10]، فيجب العمل بالقرآن[11]، وبالجملة فإن أول وأهم ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله وإخلاص النية له سبحانه فإن فقد العلم إخلاص النية انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، وآفة العلم الرياء، فليحذر قارئ القرآن أن يقع فيها، والمقصود من العلم العمل. فإذا تعلم آية من كتاب الله تعالى، فليحرص جهده أن يعلمها ولده وأهله، وأن يطبقها على نفسه[12]، وقد أخبر الله تعالى عن اليهود أنهم مثل الحمير، وذلك لعدم عملهم بالتوراة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْـحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: ٥]، فاختيار الحمار مثلًا لمن يقرأ التوراة ولا يعمل بها يثير انفعالًا لاشمئزاز من هؤلاء والشعور بتفاهتهم والاحتقار لمعاني الشرك والكفر وضياع التفكير السليم عند المشركين، وهو من المواقف التعليمية التي تجسد صفات اليهود وتبرز ضلالهم وانحرافهم[13].

في الأخير بقيت هناك مسألة مهمة تتعلق بعملية الحفظ لدى صغار السن، حيث يشير البعض إلى أن الحفظ بدون فهم لا قيمة له، وأنه من الضروري فهم المعنى فهمًا تامًا أولًا ثم يأتي دور الحفظ، ويجيب عن تلك الإشكالية الدكتور فتحي علي يونس بقوله:

«وإذا أخذنا بمبدأ علم النفس التعليمي الذي ينص على فهم المعنى فهمًا تامًّا كي تتم عملية التعليم والتعلم، فمعنى ذلك أنه لا بد أن نؤخر تعليم القرآن الكريم للأطفال إلى سن متأخرة، وفي هذا التأخير خطورة بالغة على التطبيع الديني للأطفال، لأنه معروف من الدراسات التي أجريت على تعليم الأطفال أنهم في السن المبكرة يتعلمون بسرعة، ويتذكرون جيدًا، وأن عندهم نوعًا من المرونة الفكرية والصفاء الذهني يساعدهم على ذلك، والاهتمام بمبدأ المعنى في حد ذاته أمر ضروري ومهم في عمليات التعليم، لكن تطبيقه الحرفي في تعليم القرآن أدى إلى ظهور دعاوى مثل: إرجاء تعليم القرآن إلى سن متأخرة حتى يمكن للأطفال أن يفكروا في معانيه ويفهموه، وهذا لا يتم إلا في سن الثانية عشرة كما ذكر بياجيه. وكذلك انتقاء بعض الآيات وقصر الدراسة عليها بحيث تكون أقرب إلى مفاهيم الأطفال، وفي مثل تلك الدعوات خطورة بالغة»[14]. ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن بعض الدراسات التربوية تدعو إلى «عدم مباشرة الأطفال التحفيظ إلا بعد تعليم القراءة والكتابة، لأن الطفل قد يعتمد على طريقة التلقين فيتأخر تحصيله في القراءة والكتابة… فينبغي ألا يعتمد على التلقين ابتداءً إلا لمن ابتلي بالبلادة أو كف بصره، وهي دراسة جديرة بالاهتمام لثبات نجاحها الرائع في الكتاتيب التي تتبع هذه الطريقة»[15]. وهذا الكلام متعلق بصغار السن، ومن لا يستطيع القراءة والكتابة، أما ما فوق ذلك من طلبة العلم الشرعي فلا يصلح لهم إلا ما سبق ذكره، من تعلم القرآن الكريم وتعليمه، وتدّبر آياته وفهم معانيه، وتطبيق أحكامه، إذا أردنا بناء جيل قرآني رباني كما صنع سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. والله أعلم وأحكم.

:: مجلة البيان العدد  340 ذو الحجة  1436هـ، سبتمبر  – أكتوبر  2015م.


[1] الزهراني، فايز بن سعيد، التجديد الإداري والإبداع التعليمي، مجلة البيان، العدد 329، محرم 1436هـ – أكتوبر/ نوفمبر 2014م، ص23.

[2] القحطاني، سعيد بن علي بن وهف، عظمة القرآن وتعظيمه وأثره في النفوس في ضوء الكتاب والسنة، الناشر: مطبعة سفير، الرياض، توزيع: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، الرياض، ص61.

[3] أثر صحيح، رواه ابن جرير بلفظه في تفسيره 1/80 [ طبعة أحمد شاكر]، وقال الشيخ أحمد شاكر: «هذا إسناد صحيح متصل».

[4] قال الألباني عن حديث أبي هريرة في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2829: «الحديث حسن أو صحيح، لأن له شاهدًا من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعًا بتمامه…».

[5] البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم وعلمه برقم 5027، ورقم 5028.

[6] مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فصل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 817 .

[7] القحطاني، مصدر سابق، ص61.

[8] البخاري، كتاب الجنائز، باب: حدثنا موسى بن اسماعيل، برقم 386، وفي كتاب الفتن، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، برقم 7047، وألفاظه من الموضعين .

[9] ابن حبان في صحيحه، 1/ 331، برقم 124، وقال الهيثمي: «رجاله ثقات»، مجمع الزوائد 1/ 171، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان، 1/ 332: «إسناده جيد»، والماحل: خصمٌ مجادل. [النهاية في غريب الحديث، مادة ( ماحل)] .

[10] مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223.

[11] القحطاني، مصدر سابق، ص63.

[12] المصري، أبو خالد سعيد عبدالجليل يوسف صخر، فقه قراءة القرآن الكريم، مكتبة القدسي، القاهرة، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م . ص75.

[13] شريدح، سعيد أحمد حافظ: تقويم طرق تعليم القرآن وعلومه في مدارس تحفيظ القرآن الكريم، الناشر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ص19-20.

[14] نقلًا عن شريدح، المصدر السابق، ص27

[15] شريدح، المصدر السابق، ص28.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى