مقالاتمقالات مختارة

بين القول الديني والفعل السياسي.. هل تضيع الأخلاق؟

بين القول الديني والفعل السياسي.. هل تضيع الأخلاق؟

بقلم عهود الناصري

لقد كان مجال الأخلاق أو مبحث القيم بشكل عام موضوع اهتمام الفكر البشري عموما منذ القدم، سواء الفلسفي منه أو الديني أو الاجتماعي أو السياسي.. فمبحث القيم أو الأكسيولوجيا (Axiologie) في الفلسفة هو أحد المباحث الرئيسية الثلاثة في الفلسفة، التي تهتم في البحث عن طبيعة هاته القيم وأقسامها ونسبيتها أو إطلاقيتها.

الدين كذلك جاء لإرساء هاته التيمة، والتي تعد جوهره الأساسي، والتي كثيرا إذا ما أردنا أن نتحدث عن الأخلاق، أو أن نعود إلى مصدرها نجد أن الكل يرجع إلى الدين باعتباره المصدر الأول للأخلاق، والسبب الأول الذي من أجله بعث الأنبياء والرسل، فقد جاء في صحيح البخاري، حديث الرسول الكريم” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

من هنا يتبين لنا أن الأخلاق هي بتعبير أولي هي نتيجة للدين الذي تربوا عليه والتي ساهمت المؤسسات التعليمية هي الأخرى في ترسيخ هذه الديانة، فيما يسمى بالتربية الدينية أو التربية الإسلامية، لكن، وكما هو واضح لدى عامة الناس أن أخلاق العرب المسلمين في انحطاط صارخ، وهنا نتساءل أين الخلل؟

الدين الإسلامي، يضم القيم الإنسانية النبيلة، والتي للأسف لا تتجسد في سلوكياتنا مع الآخرين، سواء مع بعضنا البعض أو مع من اختلف معنا في ديانة أخرى، معظم الدول العربية مهتمة بالمجال الديني، والأمر ذاته في بلادنا، حيث تأسست مجموعة من المجالس العلمية فتصرف عليها الأموال الطائلة من أجل إرشاد الناس إلى أعمال الخير الأخلاقية والابتعاد عن كل ما يمكن أن يلحق الأذى بالغير، والتي تقام في آلاف المساجد، لكن كنتيجة لكل هاته الإجراءات المتخذة نجد أن أخلاقنا في تراجع دائم، يمكن القول هنا أن مظاهر التدين في انتشار، وأخلاق الدين في تلاشي، والأحداث المرعبة من قتل واختطاف الآن، هو الدليل الأكبر على انعدام القيم داخل المجتمع، بل أكثر من ذلك أصبحت دلالة الأخلاق ذات تجليات معكوسة، فإذا استطاع شخص مثلا خداع شخص آخر والنجاح في بلوغ مراده دون أن تكشف نيته الخبيثة، يلقب بالداهية، أو الذكي، بلغتنا اليومية (موكظ) يقظ.

زد على ذلك أن الخطابات الدينية دائما مرتبطة بلازمة الجزاء والعقاب، الخير مرتبط بالجزاء، والشر مرتبط بالعقاب، دون أن يستسيغ المتعلم مثلا أن فعل الخير يجب القيام به لأنه الخير في ذاته، بعيدا عن شرطية هاته القيمة وحصرها في الجزاء أو العقاب، وهو الشيء الذي دافع عنه فيلسوف الأخلاق إيمانويل كانط (1727-1804) إذ قال “اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونيا كليا”، ويقول كذلك “أيها الواجب… حقا إنك لا تثير لدينا أي شعور ملائم، كما أنك قلما تغرينا وتأسر لبنا، لكنك مع ذلك تأمرنا من علياء سمائك بأن نخضع لك… ونستمع لندائك، دون أن أستعين، من أجل تجريد إرادتنا، أي تهديدات تستثير في نفوسنا الشعور بالخوف أو الفزع”.

هنا يظهر لنا ابتعاد الواجب الأخلاقي عند كانط أي شرط محفز أو مفزع، وهذا للأسف الذي طالما ارتبط بالخطاب الديني، أي ارتباط الفعل الأخلاقي بشرط التخويف والترهيب والتوعد، لذلك لا تستغرب من كون التلميذ الذي يغش في الامتحان لا يستحضر في الحديث النبوي الذي يخرج صاحب هذا الفعل من فئة المسلمين، “من غشنا فليس منّا” وإنما ينتظر فرصة غفلة المراقب عنه، ليستعمل الهاتف مثلا، والكثير من الأمثلة الأخرى، تخطي إشارة المرور في غياب المراقب (الشرطي)، رمي الأزبال في الفضاء العمومي، وقس على ذلك أشكال لا تعد ولا تحصى، ومثل هذه السلوكيات ما هي إلا تعبير عن غياب الضمير الأخلاقي أو احترام القوانين التي تحمي حيوات الناس، وهو الشيء الذي ركز عليه كانط حينما وصف الواجب بكونه “ضرورة القيام بفعل عن احترام للقوانين”، هذا الاحترام الذي لا يمكن أن يتحقق عندنا دون أن يفرض إما بالرقابة البوليسية أو الزجرية، ومع ذلك كثيرا ما يتم تجاوزها.

وإذا ما أردنا أن نجيب عن سؤال الأخلاق، وجب علينا أن نربط هذا السؤال بواقع الناس، لا يمكننا أن ننكر أن الحياة الاقتصادية للمجتمعات لها تأثير صارخ على أخلاق الناس وثقافتهم، ولا يمكننا أن نتحدث عن طبيعة هاته العلاقة دون أن نشير إلى نظرية الفيلسوف كارل ماركس، مؤسس المادية التاريخية، فالأخلاق حسب ماركس هي من إنتاج الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء، أي ما معناه أن الأقوياء اقتصاديا هم من يصنعون الأخلاق والتي بها يضمنون مصالحهم واستمرار سلطتهم.

انطلاقا من الطرح الذي قدمه ماركس يتبين لنا أن الأخلاق هي بشكل أو بآخر من إنتاج ظروف العيش، لذلك لا تطلب من إنسان جائع مضطهد أن يلتزم بالأخلاق، وهنا نعود إلى الوسيلة الأساسية التي يستعملها الأقوياء وهي الدين، فيصبح المجال الديني، وسيلة لتكريس الطبقية الموجودة داخل المجتمع، ويمكن أن نعتبر هذا التحليل كإجابة عن التساؤل الذي طرح في بداية المقالة، أي ذاك التناقض الموجود بين اهتمام الدولة بالخطاب الديني من تكثيف الجهود التي تقدمها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والخدمات المتنوعة التي تقوم بها المجالس العلمية في بلادنا، نجد اختلافا بين كل هاته الجهود المبذولة، وأخلاق الناس، الإجابة بسيطة، لا تتوقع أن يلتزم بالأخلاق شخص جائع، وهذا يذكرنا بما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب أنه أرسل عمر بن العاص واليا على مصر وسأله بذكاء (ماذا تفعل إذا جيء إليك بسارق ) قال العاص (قطعت يده، قال له بن الخطاب، وإن جاءني منهم جائع قطعت يده)، أطعمه أولا ثم اقرأ عليه الموعظة، شعوبنا غالبيتها جائعة ويتم تخديرها بالحياة الأخرى، العاقل يعرف أن السرقة والخيانة والقتل والاعتداء وغيرها وهي أفعال شريرة، ويجب تجنبها، ولا يحتاج لكل ذلك الترهيب والتوعد بالجحيم.

وعلى هذا الأساس يتضح لنا أنه لا يمكن أبدا الفصل بين أخلاق الناس، وواقع الناس، والخطاب الديني المُتلقى، وأبدا لا ننكر أن الأخلاق هي مؤشر للوعي الإنساني المستقل، لكن أما ونحن نعلم أن الواقع المادي(الاقتصادي) هو ترجمة لإيديولوجيا محددة تتحكم في مختلف مجالات الإنسان خصوصا منها الديني والذي يعد كما قلنا مصدرا مهما لتأسيس الأخلاق، فلا يمكنا أبدا أن نتحدث عن استقلالية الوعي، الوعي الذاتي الذي سيدفع بصاحبه إلى البحث عن ماهية القيم بكل موضوعية، إلا ما نذر. فتضرب كل الخطابات الفلسفية أو الدينية عرض الحائط، لكي نتساءل بسذاجة في كل مرة، لمَ الأخلاق في مجتمعاتنا في تردٍّ دائم؟

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى