مقالاتمقالات مختارة

بيع القدس .. كيف سلّمها سلطان المسلمين بطبق من ذهب؟!

بقلم محمد شعبان أيوب

في ديسمبر/كانون الثاني الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب “القدس” عاصمة لإسرائيل، وهو الإعلان الذي لاقى اعتراضا سياسيا في عدد من العواصم العالمية لاعتبارات سياسية لا غير. ليمعن ترمب في مسعاه ويقرر نقل السفارة الأميركية إلى القدس في مايو/أيار القادم، تحديدا في الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، وهو الحدث الذي لم يجد معارضة قوية في العواصم العربية، لانشغال الشرق الأوسط بأزماته.

هذا الصمت على التسليم بالقدس عاصمة للدولة “اليهودية” يشبه كثيرا حادثة وقعت في عصر الدولة الأيوبية قبل ثمانمئة عام حين سلّم السلطان الكامل محمد بن أيوب القدس للإمبراطور الألماني فردريك لاعتبارات سياسية تقوّي موقفه الداخلي تجاه إخوته، وكي تجعله سلطانا متحكّما في رقاب الأيوبيين وعلى حساب الأرض التي دافع عنها واستردها عمه السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي، وقد رأينا في تقريرنا السابق كيف تحالف “الإخوة الأعداء” ضد بعضهم البعض في صراعهم على النفوذ والسلطة والبقاء على العرش.

الأيوبيون المتصارعون

في سنة 624هـ/1227م توفي الملك المعظّم عيسى بن العادل الأيوبي وخلفه على حكم الشام الجنوبي وعاصمته دمشق ابنه الناصر داود، ومعه استمرّ الخلاف الأيوبي الأيوبي؛ ولم يصل الإمبراطور الألماني للشرق إلا في العام التالي 625هـ بعد وفاة المعظّم عيسى، وتنفيذا للاتفاق المبرم مع السلطان الكامل محمد، وهذا السبب بالتحديد -أي وفاة المعظّم عيسى- هو الذي يراه المؤرخ المعاصر آنذاك ابن الأثير (ت630هـ) باعثا لمجيء هذه الحملة بسبب قوة موقف الصليبيين في المشرق؛ و”لأن المعظّم عيسى كان حيا، وكان شهما شجاعا مقداما، فلما توفي المعظّم، وولي بعده ابنه وملك دمشق، طمع الفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا، وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمّروها، واستولوا عليها. وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها، تبنين، وهونين، وغيرهما، فعظمت شوكة الفرنج، وقوي طمعهم”[1].

على أن التحالف مع السلطان الكامل ضد أخويه لم يكن السبب الوحيد الذي حمل فردريك على المجيء، وقطع البحار، ففي كواليس إيطاليا وصقلية أُجبر الإمبراطور الألماني على الذهاب على رأس حملة صليبية لتحسين صورته وموقفه، حيث تعود الآثار السلبية التي خلّفتها هزيمتهم في الحملة الصليبية الخامسة في دمياط سنة 614 -616هـ إلى هذا الأمر؛ فقد عاد أمراء تلك الحملة وألقوا عبء هزيمتهم على تخلّف الإمبراطور فردريك الثاني عن مناصرتهم وبقائه في صقلية، لذا انعقد مجمع “فرينتينو” في مارس/آذار 1223م/ صفر 620هـ حضره البابا هورونيوس الثالث وبعض رؤساء الحملة السالفة، وحضر معهم فردريك الذي تعهّد بالزواج من ابنة حنا برين ملك بيت المقدس امتثالا لتوصية المجمع، وأيضا ترؤسه لحملة صليبية بعد عامين من انعقاد المجمع.

بعد انقضاء العامين رجا فردريك من البابا أن يؤخره لعامين آخرين، وبدلا من ذلك أرسل وكيلا إليه ليتمم زواجه من ابنة حنا برين ويجلبها إلى صقلية، وتم له ما أراد، وأعلن أنه صار ملكا لبيت المقدس لأن ابنة حنّا برين هي الوريثة الشرعية لهذه المملكة، وهو بهذا الزواج قد صار ملكا لبيت المقدس، وبغض النظر عن المشكلات التي ترتّبت على هذا اللقب وعدم اعتراف البابا به، فإن الحملة تأخرت لعامين آخرين حتى سبتمبر/أيلول 1227م/ شوال 625ه وتسبّبت في إعلان حرمانه، وهو الإعلان الذي تسبب في تعجيل إطلاق حملته إلى الشرق[2]ـ

وفي تلك الأثناء وفردريك يقدم رجلا ويؤخّر أخرى كانت رسالة الكامل الأيوبي قد وردت إليه للانضمام في التحالف الجديد مقابل تسليم القدس وبعض المدن الأخرى، الأمر الذي شجّعه على استغلال ذلك التشاحن الأيوبي الأيوبي ليأتي إلى الشام، ويتسلم القدس، ويحسّن موقفه أمام سلطة الكنيسة.

في المقابل شرع السلطان الأيوبي الكامل في الذهاب إلى بلاد الشام للاستيلاء عليها من ابن أخيه الناصر داود، واللافت أن الدعاية التي سبقت مجيء الكامل إلى بلاد ابن أخيه كانت بغرض الاستيلاء عليها وحمايتها من الصليبيين الذين استغلوا حالة الضعف عقب وفاة الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق، وهو يصرّح بهذا لأخيه الأشرف موسى في رسالة له يقول: “إنني ما جئتُ إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمّروا صيدا، وبعض قيسارية، ولم يُمنعوا، وأنت تعلم أن عمّنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج، حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟”[3].

ولكن اتفاق الكامل مع الإمبراطور الألماني ومجيئه إلى المشرق في حملة صليبية عرفت في التاريخ باسم الحملة الصليبية السادسة كان مناقضا لهذه الدعاية التي بثتها أبواق الكامل في بلاد الشام، وقد اتفق معه أخوه الأشرف موسى للمرة الأولى منذ وفاة والديهما قبل عشر سنوات، في لعبة السياسة الدائمة، وأبرما معا اتفاقا على تقسيم تركة أخيهما ونزعها من ابنه، و”على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحرّان والرُّها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق (ضمن حدود محافظة درعا السورية اليوم) وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للملك الكامل”[4]، وعلم الناصر داود أن عمّيه اتفقا عليه فرفض اتفاقهما وعاد أدراجه سريعا إلى دمشق ليحصّنها من هجوم وحصار قادم.

في أثناء ذلك الحصار نزل الإمبراطور الألماني فردريك بقواته إلى الساحل الشامي حيث عكا ويافا، فأرسل إليه السلطان الكامل وفودا خلف أخرى، كان الغرض منها إطالة أمدها حتى يستطيع أخذ دمشق من ابن أخيه الناصر داود.

الإمبراطور الصليبي يتسلم القدس!

كان موقف فردريك في الأوساط الصليبية ضعيفا بسبب الحملة التي شنتها الكنيسة عليه بإعلانها حرمانه، وتردد قوات الإسبتارية والداوية وغيرهم من الصليبيين في الشرق من مساعدته في حملته الصليبية هذه، لكن الخلافات الأيوبية الأيوبية كانت كالعادة ورقة ضغط مهمة في يد فردريك.

أمر آخر فعله فردريك كان سببا في إزعاج الكامل وهو استيلاؤه على صيدا وإقامة سور لها وكانت مناصفة بين المسلمين والصليبيين منذ عصر السلطان صلاح الدين، بل تمكّن من حشد الفرسان والخيّالة، ثم تطور هذا الأمر بالهجوم -أثناء مفاوضاته مع الكامل- على القرى الشامية من البلدان الساحلية التي كان يستولي عليها الصليبيون، الأمر الذي أغضب الكامل كثيرا وأرسل يطلب من فردريك تعويضات عن هذه الخسائر[5].

أصر فردريك على إبرام اتفاق سريع -في ظل حصار الأشرف لدمشق وسعي الكامل كي ينجح هذا الحصار- أراد فردريك بمقتضاه التسليم الكامل لبيت المقدس وبعض المدن التي استعادها الناصر صلاح الدين يوسف ليحقق النجاح الكامل أمام الغرب، وهو ما رفضه الكامل في أول الأمر، لكنه أرسل سفيره الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ وعقد الطرفان اتفاقا جاء فيه:

– أن يتسلم الإمبراطور فردريك القدس شريطة ألا يجدد الصليبيون سوره أبدا، وألا يتعرّضوا لظاهر/خارج مدينة القدس.

– أن يكون للمسلمين والٍ عليها يكون مقامه في مدينة إلبيرة شمال القدس.

– ألا يدخل الصليبيون بيت المقدس إلا للزيارة فقط وأن يكون عليه عامل/موظف للمسلمين.

– ألا يتعرّض الصليبيون إلى المسجد الأقصى ولا قبة الصخرة ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين.

– أن يكون للصليبيين القرى الواقعة على الطريق من عكا إلى بيت المقدس مخافة أن يتعرّض لهم أحد من المسلمين.

– أن يستمر هذا الاتفاق بين الطرفين لمدة عشر سنوات ميلادية أي عشر سنوات وخمسة أشهر هجرية[6].

في مارس/آذار من العام 1229م/ جمادى الأول 627هـ دخل الإمبراطور فردريك الثاني بيت المقدس في قلة من جنده ومؤيديه، ليتوّج نفسه ملكا لمملكة بيت المقدس، وليتسلم مفاتيحها من قاضي نابلس بكل سهولة ويسر!

فكانت أجواء المفاوضات ودية للدرجة التي كان فردريك يرسل فيها بعض المسائل الرياضية والهندسية والطبية إلى الكامل ليرى تمكّن علماء المسلمين في بلاطه، لقد أراد فردريك بيت المقدس ليحفظ ملكه في صقلية وشمال إيطاليا وألمانيا، ولترجع إليه هيبته في العالم المسيحي كما أسرّ هو نفسه في مباحثاته إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بذلك، وفي المقابل أراد الكامل أن يقتسم أملاك المعظّم عيسى في الشام وفلسطين بينه وبين أخيه الأشرف موسى، كان الاتفاق في الأصل لعبة سياسية تحقق جملة من الأهداف الشخصية لدى الطرفين[7].

كان تسليم القدس بهذه السهولة المفرطة لملك صليبي صدمة قوية في العالم الإسلامي والمسيحي على السواء، يقول المؤرخ البريطاني ستيفن رانسيمان: “ما من معاهدة لقيت ما لقيته هذه المعاهدة مباشرة من الرفض من المسلمين والمسيحيين؛ إذ جزع العالم الإسلامي، ففي دمشق لقي الناصر متعة في أن يُعلن الحداد العام لما تعرّض له الإسلام من خيانة، بل إنّ أئمة الكامل جهروا بأنه أساء إلى الإسلام، وما قام به الكامل من ردّ قاصر بأنه لم يتنازل إلا عن دور وكنائس خربة، بينما استخلص للإسلام مشاهده كاملة ولم يكن إلا سلوى تافهة، كما أن قوله بأنه لا زالت للمسلمين السيادة العسكرية في الإقليم لم يكن فيما يبدو عذرا كافيا”[8].

صراخ الجماهير!

إن أول من صرخ واعترض على هذا التسليم المهين هم المقدسيون أنفسهم، فينقل المؤرخ ابن واصل ت697هـ عن والده الذي كان آنذاك في القدس للزيارة قادما من مكة قوله: “لما وقعت الهدنة بعث السلطان من نادَى في القدس بخروج المسلمين وتسليمه إلى الفرنج… قال: لما نودي بالقدس بخروج المسلمين وتسليم القدس إلى الفرنج وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء، وعظُم ذلك على المسلمين، وحزنوا لخروج القدس من أيديهم، وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل، واستشنعوه؛ إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفّار من أعظم مآثر عمّه الملك الناصر صلاح الدين”[9].

وفي دمشق التي كانت محاصرة آنئذ أمر الملك الناصر داود الإمام شمس الدين سبط العلامة ابن الجوزي، وكان خطيبا مشهورا ومسموعا في دمشق وقتها، أن يصدح بنقد هذا الفعل الشنيع، و”يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلسا عظيما، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو:

مدارسُ آياتٍ خَلَت من تلاوة … ومنزلُ وحيٍ مُقفَرِ العَرَصَاتِ[10].

وينقل المؤرخ والخطيب سبط ابن الجوزي ت654هـ نفسه في تاريخه “مرآة الزمان” تلك الأجواء المحزنة بقوله: “وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدّت العظايم بحيث إنه أقيمت المآتم، وأشار الملك الناصر داوود بأن أجلسَ بجامع دمشق وأذكرُ ما جرى على البيت المقدّس فما أمكنني مخالفته، ورأيتُ في جملة الديانة الحمية للإسلام وأفقه، فجلستُ بجامع دمشق، وحضر الناصر داوود على باب مشهد علي وكان يوما مشهودا لم يتخلّف من أهل دمشق أحد، وكان من جملة الكلام: انقطعت عن البيت المقدس وفودُ الزائرين يا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جَرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفّت، ولو تقطّعت قلوبهم أسفا لما أسفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تُسكبُ العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظمُ الحسرات…”[11].

أما المؤرخ أبو شامة ت665هـ فيقول: “في أول ربيع الآخر [سنة 626هـ] جاء الخبر بأن الكامل أخلى البيت المقدس من المسلمين وسلّمه إلى الفرنج وصالحهم على ذلك وعلى جملة من القرى، فتسلموه ودخلوه مع ملكهم الانبرور (الإمبراطور)، وكانت هذه من الوصَمات التي دخلت على المسلمين، وكانت سببا في أن توغّرت قلوب أهل دمشق على الكامل ومن معه، ووجد بها الناصر طريقا في الشناعة عليهم”[12].

منافقو السلطان!

على الجانب الآخر، وكما في كل زمان ومكان كان هناك منافقو السلطان الذين كانوا بمنزلة الأذرع الإعلامية يبررون له تسليمه أولى القبلتين دون ندم أو خجل، رأوه -بزعمهم- من منطق المصلحة المتحققة العامة للمسلمين، فهو كما رأوا دفع ضرر مخافة تحقق كارثة، ورأوا أنه يحق لإمام المسلمين وملكهم أن يفعله وفقا لما يراه، فمنطق أقل الخسائر أو حتى المصلحة المتحققة ذكره كل من المؤرخ والقاضي ابن أبي الدم الحموي ت642هـ والمعاصر لهذه الأحداث، وكذلك المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي الشافعي ت697هـ.

فيقول ابن أبي الدم الحموي في مختصر تاريخه مفصّلا ومؤيدا تسليم بيت المقدس لفردريك: “كان الانبروز (الإمبراطور) طاغية الفرنجة وعظيمهم خرج بجمع كثير إلى الجزائر والسواحل، وخيف على بلاد الإسلام منهم، فاجتهد السلطان الملك الكامل رأيه وصالحهم صلحا تاما رآه مصلحة للمسلمين وغنيمة لهم، فكان راعي هذه الأمة المحمدية، وسلطان الملة الإسلامية، ومن أعزّ الله تعالى به الدين وأهله، والمأمون عليهم، والناصح المشفق عليهم، ففعل ما رآه مصلحة وغبطة ترجّحت في نظره راعاها، وصالح الفرنج على أن يسلّم إليهم البيت المقدس حرسه الله تعالى وحده، من غير تسليم شيء من أعماله ولا بلاده قليلا ولا كثيرا، وشرط عليهم أن لا يجددوا فيه شيئا ولا سورا ولا دورا ولا يتجاوزوا خندقه، وأن تقام فيه الجمعة للمسلمين المقيمين به، ولا يُمنع مسلم من زيارته كيف أراد، ولا يؤخذ من زائر مال أصلا”.

يستكمل ابن أبي الدم الحموي دفاعه عن تسليم القدس، بل ويرى أن ذلك الاتفاق كان من “أكبر مصالح المسلمين وأعظمها مما لا يخفى عن ذي بصيرة، فإن البيت المقدس موضع عبادة لإقامة العبادة على حسب اعتقاد الناس، فسلّم السلطان الملك الكامل ذلك إليهم مع تهدّمه وعدم حصانته حفظا لبقية الثغور والبلاد، ونزله منزلة مسجد يتردّد إليه المصلون، وعقد معهم عقد الهدنة الشرعية المدة المرعية في نظر سلطان المسلمين، واندفع عن المسلمين بذلك شر عظيم وخوف، وحصل الأمن مدة الهدنة فلا مصلحة للمسلمين أعلى من هذه المصلحة، ولا غبطة لهم أعظم من هذه الغبطة، ودخل البيت المقدس أناس قليلون من الفرنج لا شوكة لهم ولا عدد ولا عُدة… ومتى مهّد السلطان الملك الكامل بلاد المشرق، واتفقت كلمة الملوك استعاد البيت المقدس من يد من هو فيه من الفرنج في يوم واحد بل في ساعة واحدة”[13].

ورغم استيلاء الكامل على أجزاء واسعة من الشام وكل فلسطين بالإضافة إلى قاعدة ملكه في مصر، فإنه لم يسترد بيت المقدس كما برّر ابن أبي الدم الحموي ومن معه من مبرري السلطة، بل ظل محترما للاتفاق الذي أبرمه مع فردريك حتى وفاته في عام 635ه/1238م.

أما جمال الدين بن واصل الحموي المؤرخ والسفير المقرب من البلاط الأيوبي، فينقل مبررات السلطان الكامل في تسليم القدس دون أدنى نقد أو تعقيب، يقول: “علم الملك الكامل رحمه الله أن الفرنج لا يمكنهم الامتناع بالقدس مع خراب أسواره، وإنه إذا قضَى غرضَه واستتبّت الأمور له كان متمكنا من تطهيره من الفرنج وإخراجهم منه، وقال السلطان الكامل: إنا لم نسمح لهم إلا بكنائس ودار خراب، والحرم وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدي المسلمين على حاله، وشعار الإسلام قائم على ما كان عليه، ووالي المسلمين متحكّم على رساتيقه وأعماله”[14].

وفي كتابه “التاريخ الصالحي” يُفصّل ابن واصل الحموي رأيه بوضوح فيقول: “اقتضى الحال أن الأمر انبرم بين السلطان رحمه الله والفرنج على أن يُسلّم إليهم البيت المقدس داخل الخندق فقط، ولا يكون لهم من بلده إلا قُريّات معدودة، وإنما فعل ذلك لأن الفرنج كانوا في كثرة من العدد وأمدادهم متواصلة إليهم من البحر، وخاف على البلاد من غائلة العدو، فرأى تسليمه إليهم إلى أن تقوى كلمة الإسلام ويحصل الاتفاق بينهم، وكان ذلك من المصلحة فإن الإمام يجوز له تسليم بلد من البلاد الإسلامية إلى الكفار إذا رأى في ترك التسليم إليهم ضررا ظاهرا لا يمكن تلافيه”[15].

وهذا الكلام من ابن واصل تنقضه الأحداث، حيث رأينا أن الإمبراطور فردريك كان منبوذا من سلطة الكنيسة، محروما من مباركة البابا على تلكؤه في الحملة الصليبية الخامسة التي أصيبت بالهزيمة في مصر، وأنه ما جاء إلى بلاد الشام وتسلم القدس إلا وهو في قلة من قواته وجنوده، وسط خلاف كبير بينه وبين القوات الصليبية الأخرى في الساحل الشامي وعلى رأسها قوات الفرسان الداوية والإسبتارية، فلم يكن كلام ابن واصل الحموي وابن أبي الدم صحيحا، بل كان الهدف الأساسي من التسليم هو مباركة التحالف السياسي والعسكري بين الكامل محمد وفردريك.

وهكذا سُلّمت القدس للقوات الصليبية لأغراض سياسية هدفها الأول تثبيت أركان العرش للكامل محمد ولفردريك على السواء، حتى إن ابن واصل نفسه رأى خطورة وجود الصليبيين في القدس بعد ذلك حين منعوا إقامة الصلوات في الحرم القدسي، فناقض نفسه بنفسه[16].

وهكذا أعاد لنا مشهد تسليم القدس قبل ثمانمئة عام إلى الصليبيين في عصر السلطان الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، أعاد إلينا مشهدنا اليوم، حيث اعتراف أعظم قوة في التاريخ المعاصر بأن هذه المدينة هي عاصمة إسرائيل، بل ونقل السفارة الأميركية إليها، دون تحريك ساكن اللهم إلا صراخ الجماهير، ذلك الصراخ الذي لا يزال يصدح عبر أزمنة التاريخ!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى