الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ، وبعدُ:
فإن من سنن الله القدرية الكونية خلقَ الخير والشر، والإسلام والكفر؛ لحِكَم عظيمة أرادها الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وإلينا ترجعون) [الأنبياء 35]، وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس 99].
وإنما بُعث الرسل للدعوة وهداية الدلالة والإرشاد، قال الله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) أما هداية التوفيق فلا يَقدر عليها إلا الله، قال سبحانه: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال أيضًا: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا).
ولهذا وُجدت المتضادات في مجتمعات الأنبياء جميعًا، وتحدث القرآن عن أصناف عديدة من الناس يختلف الموقف منها باختلافها واختلاف معتقداتها وتصرفاتها، ولكن الله تعالى جعل المعيار والقانون هو: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، و(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة 8]، وقد قرر الله تعالى قانونه القدري، المبين لمشيئته وحكمته فقال: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118-119]، أي خلقهم ليختلفوا ما دام قد منحهم العقل والحرية والإرادة.
وإنما وظيفة الأنبياء والرسل دعوة الناس إلى صراط الله المستقيم، وإرشادهم إلى سبيله القويم، وتحذيرهم من عاقبة جحود الخالق، أو عصيان أوامره. قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية: 21-22]، وقال أيضًا: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر: 8].
وانطلاقًا من هذه المبادئ في سنة الاختلاف، والتفريق بين هداية الدلالة وهداية التوفيق، نظّم الرسول صلى الله عليه وسلم العلاقات في المدينة المنورة بدستور يجمع أهلها من المسلمين، وغير المسلمين؛ ليؤكد لهم أن الشرع يَصون حريات الجميع ومعتقداتهم. فكان الدستور بمثابة الشرط المؤكد لحقوق الجميع، بعقد يشبه أن يكون عقد مواطنة بين أبناء المدينة.
وقد ظهرت في الإسلام مقالاتٌ كثيرةٌ، منها ما يراه البعض مقولات كفريةً، وقد انتقدها علماء أهل السنة، وأظهروا عوارها؛ ومع ذلك لم يتعرض المسلمون لأصحاب تلك المقالات والاختلافات – وهي كثيرة ومتشعبة ومتطورة – واستمر أصحابها، وتحولت هذه المقالات إلى مذاهب كلامية متعددة، واستمر أتباعها عبر التاريخ، وظلت السنةُ المتبعة هي مناقشة تلك المقالات وأصحابها والرد على شبهاتهم وتُرّهاتهم، وعلى هذا مضت سنة الأولين.
وفي عصرنا الحديث ظهرت تيارات ومذاهب فكرية عديدة، وقد رددتُ عليها في خطبي ومحاضراتي، وبرامجي، وكتبي ولقاءاتي، مشيًا على سَنَن الأئمة الماضين، وبيّنت أن منها المعتدل والمتطرف، وأن التطرف ليس حكرًا على الإسلاميين؛ بل هو تطرف فكر ومنهج وسلوك، وقد ابتُلي به جميع الفرق والطوائف والمذاهب الفكرية، ولكن مع هذا كله فإن أعيان تلك الفرق والمذاهب لا يُحكم بكفرهم؛ لأنه لا بد في الحكم بالكفر على الأعيان (الأفراد) من تَحَقق الشروط وانتفاء الموانع عند الحاكم والقاضي، فلعل عند أحدهم شبهةً يحتاج إلى ردّها، ومَن تاب تاب الله عليه، فالحكم بالتكفير ليس إلى آحاد الناس، وإنما هو متروكٌ إلى فئتين: فئة العلماء، وفئة القضاة، الذين يُرتبون على الحكم بالإسلام والكفر العديد من الأحكام الشرعية.
وقد نما إلى علمي أن جماعة من العلمانيين قد اختُطفوا في غوطة دمشق من أرض سوريا الحبيبة، التي نسأل الله أن تتحرر كاملة، من عصابة الأسد، ومن يعاونهم من الميليشيات المأجورة، والدول الظالمة، وأن يعود إليها أهلها المهجرون منها، وأن يفك أسراهم، ويشفي مرضاهم، ويتقبل شهداءهم، وأن ثمة اتهامات لفصيل إسلامي معين بالمسؤولية عن خَطْفهم، لكونهم علمانيين.
وأنا أقول للخاطفين – إن كانوا ممن ينتسبون إلى الإسلاميين – : إن الشرع يُحرم عليهم خطف أحدٍ لمجرد الاختلاف في الدين أو العرق أو الفكر، ومن ثم فيَحرم اختطاف العلمانيين، وسائر الأقليات التي تعيش في أرض الشام، لمجرد أنهم مختلفون عنهم.
وقد عاشت طوائف الأقليات في بلاد الشام طيلة القرون الماضية ولم يتعرض لها المسلمون بأذى، وقد أقر فقهاؤنا الكبار ما فعله ولاة الأمور تاريخيًّا من التعامل معهم، وقد كان الولاة حينها في قوة ومَنَعة، ولو أرادوا تنفيذ أي حكم فيهم لم يَحُل بينهم وبين ذلك مانع؛ مما يدل على أن الشرع حفظ حقهم في الحياة.
وقد قال الإمام الفقيه الحنفي ابن عابدين في حاشيته في مثل هذا: “ما في الشام من جبل تيم الله المسمى بجبل الدروز، وبعض البلاد التابعة: كلها دار إسلام؛ لأنها وإن كانت لها حكام دروز أو نصارى، ولهم قضاة على دينهم، وبعضهم يعلنون بشتم الإسلام والمسلمين، لكنهم تحت حكم ولاة أمورنا، وبلادُ الإسلام محيطةٌ ببلادهم من كل جانب، وإذا أراد ولي الأمر تنفيذ أحكامنا فيهم نفّذها” (حاشية ابن عابدين 4/175).
فثمة فرقٌ بين الموقف الفكري من هذه التيارات، وبين سَلْب الحقوق، فلا ملازمة بين الأمرين، وقد تحدثنا في أكثر من مناسبة عن القبول بمبدأ المواطنة اليوم، وأن الجميع متساوون في المواطنة في الواجبات والحقوق، وأن أحكامنا ومواقفنا الاعتقادية لا تستلزم سَلْب الحقوق أو إباحة الدماء والأموال، وإن الناس في سوريا إنما خرجوا لأجل الظلم وطلبًا للعدل والحرية، وقد قلنا من قبل: إن الحرية قبل الشريعة، فكيف يجوز لطالبٍ للعدل وثائرٍ على الظلم والطغيان أن يتشبه بالطغاة أو أن يقع في الظلم، ولهذا أدعو كل من اختطف أحدًا من الطوائف أو المذاهب الفكرية كالعلمانية وغيرها أن يُفرج عنه ويُخلي سبيله ويطلق سراحه؛ فإن جِمَاع السيئات في الظلم والجهل، والله يأمر بالعدل والإحسان، وهو يُحِق الحق بكلماته.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نميز به بين المتشابهات، ودليلا يهدينا في مفارق الطرقات، وأن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، حتى نعلي كلمته، ونعز أمته، ونرفع رايته. وهو نعم المولى ونعم النصير.
يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسملين.