مقالاتمقالات مختارة

بناء صرح الإسلام في ضوء كليّات الدين

بناء صرح الإسلام في ضوء كليّات الدين

بقلم أ. د. محمد أمحزون

إن الله عز وجل قد أكمل الدين، وهو ما كلَّف به سبحانه وتعالى الأمةَ من مجموع العقائد، والشرائع، والأعمال، والنظم. وأتمَّ – جلَّ في علاه – النعمة على نبيِّه صلى الله عليه وسلم  وعلـى المؤمنين بأن مكَّنهم من أشدِّ أعدائهم المشركين واليهود والمنافقين فنصرهم عليهم. وجعل الأخوَّة الإيمانية شعارهم، وأغدق عليهم المغانم الكثيرة. وفوق كلِّ هذا رضي لهم سبحانه الإسلام منهاجاً لحركة الحياة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: ٣].

فبعد نزول كليَّات الاعتقاد التي لا يسع المسلمون جهلَها، ووضوح تفاصيل الأحكام المنبثقة من قواعد الشريعة، وبيان طرق وكيفية المعاملات وأصول النظام الإسلامي، حيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافياً لهداية الأمة في عباداتها ومعاملاتها وأخلاقها وسياستها الشرعية في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كانت الحصيلة أن كان هذا الدين العظيم وافياً في كل وقت بما يحتاجه المسلمون في كل مجالات الحياة وشؤونها قاطبة.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «القرآن – مع اختصاره – جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليَّات، لأن الشريعة تمَّت بتمام نزوله، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣]. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك، لم تُبَيَّنُ جميع أحكامها في القرآن، إنما بيَّنتها السنة، وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والحدود وغيرها. وأيضاً، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمَّنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومُكَمِّلٌ كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً؛ فالخارج من الأدلة عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس وجميع ذلك، إنما نشأ عن القرآن»[1].

ومما لا ريب فيه أن القرآن المجيد والسنة الشريفة هما جامعا أصول أحكام الدين وكلياته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»[2]. فهما الأصلان الضابطان لدين الله تعالى، وهما الحجة على جميع المسـلمين؛ إذ بلغتهم الرسالة. فلا يسع أحداً من المكلفين جهلُ ما جاء في الكتاب والسنة من الثوابت والأصول والأركان.

ولو أن المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن الحكيم لكفاهم في إقامة الدين، لأن كلياته وأوامرَه المفصَّلة ظاهرة الدلالة، ومجملاتِه وعمومياتِه تبعث المسلمين على تعرُّف بيانها وتفصيلاتها وخصوصياتها من استقراء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  القولية والفعلية والتقريرية، وأعمال سلف الأمة، ومَن تبعهم بإحسان من الأئمة المجتهدين، بما أجمعوا عليه في قضايا الدين، وما وضعوه من آليات ووسائل كالقياس والأشباه والنظائر والمصلحة المرسلة والاستحسان وسدِّ الذرائع، وغيرها من الأدلة التي تُعِين على الوصول إلى الحكم المعتبر شرعاً.

وجدير بالإشارة أن كليات الدين في القرآن المجيد تكفلت بإرساء الأساس النظري والإطار المرجعي الذي تنبثق منه العقيـدة الصحيحة والتشـريع العملي؛ ذلك أن الشـريعة الإسلامية قد تفصَّلت فروعها بعد ما تأصَّلت كلياتها.

فهي خير مُعين للمفسر على تفسير كتاب الله تعالى فهماً وتقييداً وتخصيصاً، كما أنها عون للفقيه من أجل الاستمداد منها ما لا نهاية له من القضايا والمستجدات التي تطرأ في واقع الناس، وأنها مَدَدٌ للأصولي ليستنبط منها مقاصد الشريعة وقواعدها.

ومن التنبيه بمكان أن كليات الدين هي المبادئ والقيم والقواعد العامة التي تشكل أساساً ومنطلقاً لما ينبثق عنها ويتفرع منها وينبني عليها من تشريعات وتوجيهات، وأوامر ونواهٍ، وتكاليف عملية، وأحكام وضوابط تطبيقية تنفع الناس في شؤون ديناهم، وتؤهلهم للفلاح في الآخرة. وهي غاية كل إنسان فطن ذكي يعلم أن الدنيا ممرٌّ ومَعْبَرٌ إلى الآخرة التي هي الغاية من وجود الناس على سطح هذا الكوكب.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فهي أساسية في الدين عقيدتِه وشريعتِه، من حيث كونها قطعيات ومحكمات، ومن حيث كونها معالم كبرى، هادية إلى كل تصور إسلامي، وإلى كل تشريع إسلامي، وإلى كل سياسة شرعية، وإلى كل سلوك إسلامي. كما أنها الأصول والأمهات لكل ما يندرج تحتها من الفروع والجزئيات المتجددة بحسب ظروف الزمان والمكان.

وبهذا يكون التشريع الإسلامي صالحاً في كل عصر ومصر. وهذه الصلاحية في كل زمان ومكان تنبني على كيفيتين:

الأولى: أن الشريعة الإسلامية قابلة بأصولها وكلياتها للتطبيق في مختلف الأحوال؛ إذ تساير أحكامُها التفصيلية المرنة مختلفَ العصور والأزمان دون حرج ولا مشقة ولا عسر.

الثانية: أن الناس من مختلف الأعراف والأجناس والبلدان عملوا تحت لواء الشريعة الإسلامية دون أن يهلكوا أو يلقوا العنت أو يشعروا بالحرج؛ لأن أحكامها كليات وقواعد مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرَّع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد في كل عصر ومصر[3].

وخلاصة القول: إنَّ لأصول الدين وكلياته أهميتَها وحجمَها الكبير في بناء صرح الإسلام. ولذلك فإنَّ الحاجة ماسة اليوم لفهم جوانب الجمال والكمال في ديننا عقيدة وشريعة، والعلم بمدى حاجتنا العملية إلى هذه الكليات في الاجتهاد الفقهي والمقاصدي، وفي أولويتنا الفكرية والدعوية، وفي تديُّن المسلمين الجادِّ، واستقامتهم في سلوكهم الفردي والجماعي. كل ذلك بهدف تقوية الأسس الجامعة للأمة لئلا تنحرف عن المسار الذي حدَّده لها الوحي كتاباً: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وسُنَّةَ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»[4].

[1] الشاطبي: الموافقات: 4/181 – 182.

[2] أخرجه أحمد في المسند: 4/130 – 131، والآجري في الشريعة: 1/244، وقال المحقق: إسناده صحيح.

[3] محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 91 – 92 (بتصرف).

[4] أخرجه أحمد في مسنده: 4/126.

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى